عوده في عيد نقل رفات مار جاورجيوس: لنتطهّر من الخوف والرّياء ونسلك في شجاعة الإيمان
وبعد الإنجيل المقدّس، ألقى عوده عظة قال فيها: "أحبّائي، في هذا اليوم المبارك الّذي نعيّد فيه لنقل رفات القدّيس العظيم في الشّهداء جاورجيوس الحائز راية الظّفر، تتجلّى أمامنا كلمة الرّبّ يسوع الّتي سمعناها منذ قليل، فتخترق قلوبنا بنورها. قال الرّبّ: "ليس مكتوم إلّا سيعلن، ولا خفيّ إلّا سيعلم". بهذا الإعلان يكشف الرّبّ سرّ العدالة الإلهيّة الّتي لا تخطئ، ويضع أمامنا المقياس الّذي به تقاس الحياة البشريّة.
تحدّث الرّبّ إلى تلاميذه عن خطر الرّياء أيّ أن يظهر الإنسان غير ما يضمر، وأن يتستّر بثوب التّديّن فيما قلبه بعيد عن الله. الرّياء هو الكذب أمام الله، وعلى الذّات. قال القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ: "لا شيء يغضب الله مثل الرّياء، لأنّه يظهر الإنسان كمن يريد أن يخدع الله ونفسه". الرّبّ يذكّرنا بأنّ كلّ ما يخفى سيعلن، وكلّ ما يقال في الظّلمة سيسمع في النّور الّذي هو الحقيقة الأبديّة الّتي لا يمكن لأحد أن يهرب منها، لأنّ الله هو النّور، والنّور لا تحجبه الظّلمة.
في هذا النّور يتجلّى لنا القدّيس جاورجيوس كشاهد للحقيقة الإلهيّة. لم يخف إيمانه، ولا محبّته للمسيح تحت رداء الخوف أو المسايرة، بل جاهر أمام الملوك والجنود بأنّه لا يعبد سوى الرّبّ يسوع المسيح. وكما أوصى الرّبّ "من اعترف بي قدّام النّاس، يعترف به ابن الإنسان قدّام ملائكة الله"، هكذا صار القدّيس جاورجيوس مثالًا للّذين يعترفون بالمسيح بشجاعة وثبات، إذ قدّم نفسه ذبيحةً حيّةً لله، غير خائف من الّذين يقتلون الجسد، لأنّ نفسه كانت محفوظةً في يد الرّبّ.
ما قاله الرّبّ في إنجيل اليوم يتحقّق في سيرة هذا الشّهيد المجيد. لقد حاول مضطهدوه أن يخفوا مجده تحت غبار العذاب والموت، لكنّ الله أظهره أمام العالم. فالّذي بدا في نظر النّاس جثّةً بلا حياة صار ينبوع حياة لا ينضب، وصارت عظامه تشفي المرضى، وتخرج الشّياطين، وتحيي الرّجاء في القلوب البائسة. هكذا، ما كان مكتومًا في ظلمة القبر استعلن في مجد القيامة، لأنّ الله لا ينسى أحبّاءه، ولا يطفئ نور الّذين أحبّوه حتّى الدّم.
عيد نقل رفات القدّيس جاورجيوس ليس تذكارًا تاريخيًّا وحسب، بل علامة ملموسة لحضور النّعمة الإلهيّة في أجساد القدّيسين. يقول القدّيس أثناسيوس الكبير: "القدّيسون، وإن ماتت أجسادهم، إلّا أنّ قوّة الله تسكن فيها، لأنّهم صاروا هياكل للرّوح القدس". لذا نحن لا نكرّم العظام لأنّها مادّة، بل لأنّها صارت أداةً للنّعمة، كما لمس جسد أليشع فقام الميت (2مل 13: 21). هكذا، يذكّرنا عيد نقل رفات قدّيسنا جاورجيوس بأنّ الكنيسة ليست جماعةً حيّةً في الزّمن فقط، بل جسد واحد ممتدّ في الأبد، يربط مجاهدي الأرض بمنتصري السّماء.
يدعونا المسيح اليوم إلى الثّقة العميقة بالعناية الإلهيّة قائلًا: "أليس خمسة عصافير تباع بفلسين؟ وواحد منها لا ينسى أمام الله". الله الّذي يحصي شعر رؤوسنا، لا يترك أولاده في الضّيق، بل يسندهم بروحه القدّوس حين يشهدون للحقّ. لقد تحقّقت هذه الكلمة ببهاء في القدّيس جاورجيوس، إذ لم يتكلّم من نفسه أمام الولاة، بل تكلّم فيه روح أبيه السّماويّ، بحسب وعد الرّبّ: "لأنّ الرّوح القدس يعلّمكم في تلك السّاعة ما ينبغي أن تقولوه".
لقد صار القدّيس جاورجيوس لسان الرّوح، ينطق بما لا يقدر إنسان أن ينطق به بقدرته. يقول القدّيس كيرلّس الإسكندريّ: "الرّوح القدس يلهب القلب بالمحبّة الإلهيّة، فلا يخاف المؤمن من سلطان أو موت، لأنّ النّعمة تصيّره شريكًا في قوّة القيامة". القدّيس جاورجيوس تغلّب على الخوف لأنّ المحبّة الكاملة طرحت الخوف خارجًا.
يا أحبّة، حين نقرأ هذا الإنجيل على ضوء سيرة الشّهيد العظيم، نفهم أنّ الشّهادة ليست فقط سفك دم، بل شهادة حياة في الحقّ. فكلّ من يعترف بالمسيح في قلبه وأعماله، رافضًا الكذب والرّياء، وعائشًا في النّقاوة والعدل والمحبّة والرّحمة، هو شهيد على طريق الحقّ. لذلك يدعونا القدّيس جاورجيوس اليوم أن نعيش في الإستقامة، وأن نكون شهودًا للمسيح في هذا العالم الّذي يخاف الحقيقة، وأن نثق بأنّ الله يعلن ما هو مستتر في أوانه.
فليكن هذا العيد دعوةً لنا كي نتطهّر من الخوف والرّياء، ونسلك في شجاعة الإيمان، بشفاعات العظيم في الشّهداء جاورجيوس، آمين."
