لبنان
26 كانون الأول 2023, 06:55

عوده في قدّاس الميلاد: أين الإنسانيّة في ما يجري على الأرض وأين الضّمير الغائب عمّا يجري في العالم من آثام وبشاعات؟

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عودة، صباح الإثنين، خدمة قدّاس الميلاد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس. وبعد قراءة الإنجيل المقدّس ألقى العظة التّالية:

"المجد لله في العلى وعلى الأرض السّلام وفي النّاس المسرّة.  

أحبّائي، أعايدكم جميعًا بهذا الفرح العظيم الّذي صار لجميع الأمم، فرح ميلاد مخلّصنا يسوع المسيح، حمل الله الآتي ليعتقنا من خطايانا، ويجعلنا أبناءً لله الآب بالتّبنّي، كما نسمع في رسالة اليوم. أرفع معكم الدّعاء من أجل العالم أجمع لكي يدرك أنّ رسالة ميلاد الرّبّ رسالة سلام وتواضع ومحبّة، ولكي يهتدي بهذه الرّسالة جميع مسؤولي العالم، فيوقفوا الحقد والحرب والدّمار الّذين يعمّون المسكونة، وبشكل خاصّ أرض مولد المسيح، فلسطين الّتي اختار ربّنا أن يتجسّد فيها، ليمنح سلامه للبشريّة كلّها. نصلّي أن تعود فلسطين مكانًا يخرج منه السّلام للجميع، فيهنأ بنوها، وأبناء شرقنا والعالم بأسره بالمحبّة والوئام. نصلّي من أجل الأطفال والشّباب والشّيوخ الّذين يقتلون مثلما قتل أطفال بيت لحم قديمًا على يد هيرودس المجرم.  

يا أحبّة، يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ إنّ عيد ميلاد المسيح كإنسان هو رأس الأعياد، إذ إنّ كلّ الأعياد الأخرى: الظّهور الإلهيّ، والتّجلّي، والآلام، والصّليب، والقيامة، والصّعود، تتبع الميلاد. فمن دون الميلاد لما كانت القيامة، وطبعًا من دون القيامة لما تحقّق هدف التّجسّد. كلّ الأعياد واحدة، إنّما نحن نفصلها لكي نحتفل بها، ولنتأمّل بعمق أكثر محتواها. فعليًّا، نحن نعيش كلّ أحداث التّجسّد في كلّ قدّاس إلهيّ، وبحسب الآباء القدّيسين، كلّ عيد هو الميلاد، وكلّ عيد هو الفصح أو العنصرة.  

لقد شدّد الإنجيليّون على تاريخيّة حدث التّجسّد لأنّهم أرادوا أن يؤكّدوا أنّ المسيح شخص مرّ في تاريخنا الأرضيّ، أيّ تجسّد وصار بشرًا بالحقيقة، وأنّ التّجسّد لم يكن وهمًا أو خيالاً كما تقول بعض الهرطقات. لكن رغم تاريخيّته، يبقى هذا الحدث سرًّا. نحن نعلم أنّ الإله- الإنسان، بطبيعتيه الكاملتين، موجود، لكن ما يبقى سرًّا هو كيفيّة اتّحاد الطّبيعة الإلهيّة بالطّبيعة البشريّة في شخص الكلمة. هذا الاتّحاد تمّ مرّةً واحدةً فقط، لذلك يقول القدّيس يوحنّا الدّمشقيّ إنّ المسيح "هو الأمر الوحيد الجديد تحت الشّمس". منذ بدء الخليقة كلّ شيء في هذا العالم يتكرّر، والبشر يتكاثرون عبر الولادة البشريّة، لكنّ المسيح الإله- الإنسان كان جديدًا وسيبقى هكذا إلى الأبد. إذًا، تاريخيّة الحدث لا تلغي السّرّ، كما أنّ السّرّ لا يستبعد التّاريخيّة. اليوم نحتفل بميلاد المسيح، لكنّنا نختبر في الوقت ذاته، داخل قلوبنا، سرّيًّا، كلّ الأحداث المرتبطة به. فعندما نحيا في الكنيسة، نشترك في كلّ مراحل التّجسّد الإلهيّ ونختبرها.  

لقد أنشد الملائكة نشيدًا مميّزًا قائلين: "المجد لله في العلى وعلى الأرض السّلام وفي النّاس المسرّة" (لو 2: 14). السّلام الّذي امتدحه الملائكة ليس سلامًا إجتماعيًّا، بل هو تجسّد المسيح وحضوره. المسيح، بتجسّده، منح الإنسان السّلام مع الله ومع أخيه الإنسان، ومع نفسه أيضًا، لأنّ الطّبيعة البشريّة اتّحدت بالطّبيعة الإلهيّة في شخصه. بعد السّقوط، خسر الإنسان السّلام مع الله لأنّه عبد، عوض الإله الحقيقيّ، الأصنام العادمة النّفس والأحاسيس. بتجسّد المسيح أعطي الإنسان إمكانيّة عبادة الإله الحقيقيّ. لقد كان على آدم الأوّل أن يبلغ الشّركة الكاملة مع الله بالنّعمة الإلهيّة وبجهاده، لكنّه فشل في عمله، لذا أتى المسيح، آدم الثّاني، وحقّق ما لم يستطع آدم القيام به. يعلّمنا القدّيس أثناسيوس الكبير أنّ عودة الإنسان إلى الله لم تكن مسألة توبة فحسب، إذ بعد الخطيئة دخل الموت والفساد. كان ينبغي التّغلّب على الموت. لهذا السّبب تجسّد ابن الله وكلمته واتّخذ من العذراء جسدًا قابلًا للموت، لكي يقهر الموت والشّيطان، وليكون نموذجًا أوّل للخليقة. لم تكن سقطة آدم أخلاقيّةً، بل وجوديّة، لأنّ كامل كيانه انحرف، فنتج عن ذلك انحراف أخلاقيّ، لذا جاء تجسّد ابن الله بهدف تجديد الجبلة البشريّة وتأليه الإنسان. لقد أظهر التّجسّد مدى محبّة الله وصلاحه وحكمته وعدالته وقدرته، لأنّه لم يغفل عن ضعف المخلوق بل مدّ له يد المعونة، ولأنّه وجد الحلّ لما كان يبدو مستحيلًا، كما أنّه لم يخلق بعد السّقوط إنسانًا جديدًا ليصارع الشّيطان، ولا قطع الإنسان بالقوّة عن الموت، بل جعله منتصرًا عليه عندما اقتبل الموت وآلام الجسد ومات ثم قام دائسًا الموت والخطيئة.  

يا أحبّة، ما أحوج العالم عمومًا، ومنطقتنا وبلدنا خصوصًا، إلى هذا السّلام العلويّ الّذي بشّر به الملائكة الرّعاة. نحن بأمسّ الحاجة لأن يولد المسيح في قلوبنا وفي القلوب المظلمة، لينيرها بنعمته الإلهيّة، فيدرك الجميع بشاعة خطاياهم ويتوبون، ويظهرون توبتهم عبر أعمال البرّ والمحبّة عوض الأنانيّة الّتي أصبحت تسيّر الإنسان وتدفعه إلى طرق معوجّة من أجل الوصول إلى مصلحته. حتّى شجرة الميلاد أصبحت تزعج من أعمى قلوبهم التّعصّب والتّطرّف فيما نحن بحاجة إلى التّسامح والمحبّة وقبول الآخر. نحن نعيش في عالم مادّيّ لا إنسانيّ، فاقد للمشاعر ولا مبال بالعدالة، يحكمه جوع إلى المال وجشع إلى السّلطة. من عنده المال يطلب ما هو أكثر، ومن يمتلك السّلطة يسعى إلى سلطة أكبر، بلا رحمة في القلب أو وخز في الضّمير. أصبح العبث بحياة النّاس سهلاً والتّسلّط على مصير الأوطان مباحًا. أصبح القتل أكثر سهولةً ومحو الحضارات والتّاريخ والبلدان مباحًا، وإلّا كيف يتفرّج العالم على إبادة شعب وقتل الأطفال بوحشية وهدم معالم بلد وجرف المستشفيات وهدم الكنائس والمدارس كمن يتفرّج على مسرحيّة؟ أين الإنسانيّة في ما يجري على الأرض الّتي بوركت بتجسّد المسيح فيها؟ وأين الضّمير الغائب عمّا يجري في العالم من آثام وبشاعات؟  

أمّا عندنا، أين الضّمير في السّكوت عن غياب رئيس للدّولة وقد مرّ أكثر من سنة على شغور كرسيّ الرّئاسة، والدّولة تنهار والمواطنون يعانون والإدارة في شلل ينعكس سلبًا على حياة النّاس، وصورة لبنان تتقهقر أكثر فأكثر؟  

المواطن اللّبنانيّ قلق على غده وعلى مصيره، وقد سئم الانتظار وسئم التّعويل على نوّاب وزعماء ومسؤولين لم يكونوا على قدر المسؤوليّة، ولا يدركون مدى الضّرر الّذي يسبّبه تقاعسهم عن معالجة الوضع. لذلك علينا وضع رجائنا في الله وحده لأنّ لا خلاص إلّا ذاك الآتي من العلى. الرّبّ وحده أمين وصادق في جميع أقواله ووعوده كما نقرأ في الكتاب المقدّس، وما هو غير مستطاع عند النّاس مستطاع عند خالق الكون (لو 18: 27).  

في هذا العيد المبارك، نرفع الصّلاة من أجل كلّ مظلوم ومعذّب ومتألّم على هذه الأرض، ومن أجل كلّ مريض ومخطوف ومشرّد، ولا ننسى أخوينا المطرانين بولس ويوحنّا اللّذين نسأل الله أن يعيدهما إلينا سالمين. كما نصلّي من أجل أن نكون من صانعيّ السلام، ومن أجل أن يرأف الرّبّ الإله ببلدنا لبنان وبنيه، وينتشلنا من محنتنا، ويبعد عنّا كلّ ما يؤدّي إلى شرذمتنا وغرقنا أكثر. كما نسأله أن ينير قلوب المسؤولين كي يتعقّلوا ويعملوا على منع امتداد الحرب إلى بلدنا الّذي لا يطلب أبناؤه إلّا السّلام والعيش الهانئ في دولة ترعى أبناءها بالحقّ والعدل.  

صلاتنا اليوم أن تكون أيّامكم كلّها ميلادًا مستمرًّا للمسيح في حياتكم، علّ السّلام يعرف طريقه إلى النّفوس والقلوب، ويحلّ في وسطها ساكنًا إلى الأبد، آمين".