لبنان
26 كانون الأول 2022, 11:20

عوده في قدّاس الميلاد: إلى متى السّكوت عن تعطيل الدّولة والاستخفاف بالواجبات وقهر النّاس؟

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده، قدّاس عيد الميلاد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس. بعد الإنجيل المقدّس، ألقى عوده عظة قال فيها:

"سمعنا في نصّ رسالة اليوم أن الله "أرسل ابنه، مولودًا من امرأة، مولودًا تحت النّاموس، ليفتدي الذين تحت النّاموس، لننال التّبنّي". هذا الكلام يعني أنّ تدبير الله هدفه خلاص البشر من العبوديّة، وجعلهم أبناء له بالتّبنّي.إنّ المسيح هو ابن الله الوحيد، الذي، بعدما ذكرت الكنيسة بنسله البشريّ الأسبوع الماضي، تؤكّد لنا هنا، على لسان الرّسول، أن ابن الله، الإله الخالق، ولد من امرأة، أيّ أصبح إنسانًا مثلنا، خاضعًا للنّاموس البشريّ كإنسان تام. كل هذا قام به الرّبّ يسوع من أجل فداء الذين هم تحت النّاموس، أيّ من أجل خلاص جميع البشر الذين كانوا يحيون حرفيّة النّاموس كعبيد للحرف، دون أن يعيشوا روحانيّة النّاموس الذي وضعه الله لشعبه. الخوف جعل من الشّعب مجموعة عبيد، لهذا أوضح لنا الرّسول بولس فهمه لرسالة الرّبّ الخلاصيّة قائلًا في رسالته الأولى إلى أهل كورنثس: «فإني إذ كنت حرًّا من الجميع، استعبدت نفسي للجميع لأربح الأكثرين. فصرت لليهود كيهوديّ لأربح اليهود، وللّذين تحت النّاموس كأنّي تحت النّاموس لأربح الذين تحت النّاموس... صرت للضّعفاء كضعيف لأربح الضّعفاء، صرت للكلّ كلّ شيء، لأخلص على كلّ حال قومًا، وهذا أنا أفعله لأجل الإنجيل، لأكون شريكًا فيه» (1كو 9: 19-23). لقد فهم الرّسول بولس ما فعله الله من أجل خلاص البشر، وبدوره أراد أن ينقل ما فهمه إلى أولاده في الإيمان بالمسيح. فكما جعلنا الله أبناء له بالتّبنّي، بيسوع المسيح، هكذا أعطى الرّسل والآباء القدّيسين أن يتابعوا هذه المهمّة، ناقلين كلّ من يستعبد نفسه لحرفيّة النّاموس إلى البنوّة بالرّوح الإلهيّ. يقول الرّسول بولس في رسالته الثّانية إلى أهل كورنثس: «أنتم رسالتنا، مكتوبة في قلوبنا، ومقروءة من جميع النّاس، ظاهرين أنّكم رسالة المسيح، مخدومة منّا، مكتوبة لا بحبر بل بروح الله الحيّ، لا في ألواح حجريّة، بل في ألواح قلب لحميّة... كفايتنا من الله، الذي جعلنا كفاة لأن نكون خدّام عهد جديد، لا الحرف بل الرّوح، لأنّ الحرف يقتل ولكنّ الرّوح يحيي» (2 كو3: 2-6). إذا، العهد الجديد هو عهد بنوّة لله، وليس عهد عبوديّة قاتلة بسبب عادات وتقاليد فاقدة لروح المحبّة.

السّؤال الأهمّ الذي على كلّ مسيحيّ أن يطرحه على نفسه: هل يتصرّف فعلًا كابن لله الذي بذل ابنه الوحيد فداء عن العالم، أم إنّه يستعبد ذاته للعالم المخلوق بمادّياته وناسه؟

 

العالم يستقبل ميلاد المسيح بروح عبوديّة لا بنوّة، فينهمك بالأمور الخارجيّة الفانية كالتّزيين والهدايا والمأكولات والسّهرات ناسيًا المعنى الحقيقيّ للميلاد. لو أراد الرّبّ القشور الزّائلة لما أتى متخفيًّا في مذود للبهائم، بل لكان ولد في قصر ودعا الجميع إلى تقديم الولاء والخضوع كعبيد. لقد ولد المسيح كبشريّ أقلّ من عادي ليعيد مصالحة البشر مع خالقهم، وليصلح العلاقة التي أفسدها الخوف من الموت والخطيئة. جاء المسيح ليجعل ممّن استعبدوا أنفسهم للخطيئة أبناء له، لأنّهم بعبوديّتهم تلك خسروا الميراث الأبويّ، لهذا يتابع الرّسول قوله في رسالة اليوم: «فلست بعد عبدًا، بل أنت ابن، وإذا كنت ابنا فأنت وارث لله بيسوع المسيح». يكرر الرّسول بولس كلامه في رسالته إلى أهل رومية قائلًا: «لأنّ كلّ الذين ينقادون بروح الله، فأولئك هم أبناء الله. إذ لم تأخذوا روح العبوديّة أيضًا للخوف، بل أخذتم روح التّبنّي... فإنّ كنّا أولادًا، فإنّنا ورثة أيضًا، ورثة الله، ووارثون مع المسيح. إنّ كنّا نتألّم معه لكي نتمجد أيضًا معه» (رو 8: 14-17). إذا، بعدما سقط الإنسان في الخطيئة، لم يعرض الله الآب عنه، بل أرسل ابنه الوحيد ليعيد إلى الإنسان شرف البنوّة والميراث الأبديّ، لكن ذلك لا يحدث تلقائيًّا، بل إن قبلنا، بحرّيّتنا الشّخصيّة، أنّ نتألّم مع الرّبّ لنتمجّد معه. الألم لا يعني أن نعاني أو نجلد أنفسنا أو نلبس المسح، بل يعني ألم المحبّة التي تبذل ذاتها من أجل الجميع بلا تفضيل، مثلما فعل المسيح بتجسّده وقبوله الخضوع للنّاموس، ثم الموت على الصّليب.

تنازل الإله وصار بشرًا، لكي يخلّص البشر، ولكي يعلمهم كيف يعملون من أجل خلاص إخوتهم. لكن هذا الأمر فات مسؤولي بلادنا، الذين لم نرهم يومًا ينزلون عن عروشهم، أو يتنازلون عن مكاسبهم ومصالحهم، من أجل خلاص شعب طال أنينه، لا بل علا صراخ ألمه، ولا من سميع مجيب. أليس من واجب المسؤول أن يبذل نفسه من أجل شعبه؟ الدّينونة تنتظر كلّ من لم يتعلّم كيف يحب النّاس، مثلما أحبّهم الرّبّ وبذل نفسه من أجلهم، هو من قال عنه إشعياء النّبيّ إنّه «رئيس السّلام» (9: 6)، وهو الدّيّان العادل. المحبّة اللّامحدودة التي تتسامى حتّى البذل المطلق للنّفس قدمها المسيح وحده، وجعل منها قاعدة ونظام حياة. المحبّة الحقيقيّة مجانيّة. ما العالم بلا محبّة؟ إنّه فراغ وعزلة ووحدة قاتلة. مشكلة عالمنا أنّه يفتقر إلى المحبّة والتّعاطف والتّسامح، أمّا مشكلة بلدنا فهي، إلى ذلك، الأنانيّة التي تعمي العين والقلب عن رؤية الآخر ومحبّته ومساعدته والتّضحية من أجله، المؤمن الحقيقيّ لا يهدأ قبل أن تتحقّق إرادة الله في خلقه، والرّبّ إلهنا يشاء الكلّ أن يخلّصوا وإلى معرفة الحقّ يقبلوا (1تيمو 2: 4). أين مسؤولونا من هذا؟ ألا يعلمون أن ما يبنى على أساس الظّلم والقهر والإذلال لا يثبت بل يتهاوى؟ وبلدنا يتهاوى ومجتمعنا ينهار لأنّ الأنانيّة والفرديّة والمصلحة تطغى على نفوس ذوي السّلطة فلا يرون إلّا ذواتهم وحاجاتها، ويتوافقون على ما يناسبهم، فيما التّوافق ضرب للدّيمقراطيّة.

الحكم نزاهة وترفع واهتمام بشؤون النّاس الصّغيرة قبل الكبيرة. إنّ السّياسة البعيدة عن الفضائل مصيبة على المجتمع، لذا يرزح مجتمعنا تحت ثقل عقم أفكار السّياسيّين وأفعالهم. لقد طال انتظار شعبنا عودة العزة والسّيادة والكرامة والحياة الهانئة فإذا بهم يعاينون كافة أشكال الذّلّ والفقر والإستهانة بحقوقهم والتّعدّي على الكرامات وعلى الأملاك الخاصّة والعامّة، وعلى القريب والغريب، وعلى الدّستور والقوانين، حتّى يئسوا وملّوا وخاب ظنّهم بكافّة المسؤولين، بمن فيهم النّواب الذين انتخبوهم، وما عادوا يتوقّعون إتمام انتخاب رئيس، وما عادوا ينتظرون جلسات الخميس الهزليّة العقيمة. حتّى العيد لم يعد مصدر فرح بسبب الضّائقة الماليّة وقصر ذات اليد وانهيار سعر اللّيرة.

أمّا الطّبقة السّياسيّة المفروض أن تكون من النّخبة التي تحسن إدارة البلاد ومعالجة الأزمات واتّخاذ القرارات الصّائبة، وأن تكون قدوة للمواطنين، فقد أصبحت لعنة عليهم، تكتفي بالتّفرج على معاناتهم. هل من يفكّر بالعائلات المحرومة أدنى سبل الحياة، وبالأطفال الجياع، والمرضى بلا دواء، والمسجونين بلا محاكمة والحزانى والأيتام؟

إلى متى السّكوت عن تعطيل الدّولة والاستخفاف بالواجبات وقهر النّاس؟ إلى متى التّغاضي عن التّجاوزات والتّساهل مع التّعدّي على صلاحيّات الدّولة والسّكوت عن السّلاح المنتشر وعن كلّ جريمة ترتكب؟ هل هكذا تبنى الأوطان وتحصن؟ وإلى متّى نسكت عن شريعة الغاب تعمّ، وكلّ ينفذ مخطّطه؟ وإلى متى التّآمر على التّحقيق في جريمة المرفأ، وإلى متى تعطيل التّحقيق وتهريب الحقيقة منعًا للعدالة؟

صلاتنا في هذا العيد المبارك أن ينعم الله على الجميع بسلامه، وبرحمته ونعمه، وأن يغرس الصّبر والرّجاء في قلوب أبناء شعبنا الحبيب، وينير أذهان المسؤولين ويحيي ما تبقى من ضمائر، حتّى نصل جميعنا معًا إلى الخلاص المرتجى، في هذا الدّهر، وفي الآتي".