عوده: لا تخافوا من عيش وصايا الرّبّ والاعتراف به بمجاهرة كلّيّة
بعد الإنجيل المقدّس، ألقى عوده عظة قال فيها: "أحبّائي، بعدما عيّدنا الأحد الماضي لجميع القدّيسين، تصنع كنيستنا الأنطاكيّة اليوم تذكارًا جامعًا لقدّيسيها الأنطاكيّين وهم ليسوا بقليلين، ويمتدّ وجودهم إلى تاريخ تأسيس الكنيسة المقدّسة.
كنيسة المسيح هي كنيسة قدّيسين، ولا مكان فيها إلّا للقدّيسين، وللّذين يسعون إلى القداسة، ويجاهدون في سبيلها. القدّيس ليس بالضّرورة من يصنع العجائب بل من عبقت حياته بعطر المسيح قولًا وفعلًا. القداسة ليست اجتراح خوارق، بل حياة جديدة في المسيح وعيش لكلمته ووصاياه. القدّيس إنسان خاطئ، مثلنا جميعًا، يخطئ لأنّه ضعيف بالجسد، ولأنّه يحمل ثقلًا يدفعه إلى الخطيئة. لكنّ القدّيس إنسان يؤمن بالله ويطلبه ويعرفه. الإنسان المؤمن يخطئ مرغمًا، والخطيئة هي عبادة الذّات والتّنكّر لله، إلّا أنّه يطلب الله، ولذلك يطيعه، مجاهدًا ضدّ الخطيئة حتّى الدّمّ، فيتوب ويعود إلى ربّه كلّما أبعدته الخطيئة عنه، على مثال الإبن الشّاطر، والعودة تكون بواسطة التّوبة والدّموع الحارّة. بالتّوبة والعودة إلى الله تغفر له خطاياه، مثلما تنقّي النّار الذّهب من الأوساخ. يبقى الإنسان على هذه الوتيرة الّتي تحكمها محبّة الله، وحياة الله، ونار الله، إلى أن يعتصم بالله ولا يعود يخطئ بعد، حينئذٍ يتنقّى بنعمة الله، فيصير قدّيسًا.
منذ فجر المسيحيّة، عبقت أرض أنطاكية، مدينة الله العظمى، برائحة القداسة، ولغاية اليوم، أرض القدّيسين إغناطيوس الأنطاكيّ، ويوحنّا الذّهبيّ الفمّ، ورومانوس المرنّم، وأفرام السّريانيّ، ويوسف الدّمشقيّ، وبربارة وإفدوكيّا البعلبكيّتين، ولاونديوس الطّرابلسيّ، وبمفيلوس البيروتيّ، وأكيلينا الجبيليّة، ودوروثاوس الصّوريّ، وثلّالاوس الصّانع العجائب الّذي من جبل لبنان، وزينوبيوس الّذي من صيدا، وكثيرين غيرهم من الرّسل والشّهداء والمعترفين والأبرار، ما زالت تزهر أزهارًا تعبق طيبًا وتمجّد الخالق، من القدّيسين المعروفين الّذين أعلنت قداستهم، ومن الّذين لم تعلن بعد. كيف لا، وفي أنطاكية دعي التّلاميذ مسيحيّين أوّلًا (أع 11 :26 ) فكانوا براعم قداسةٍ تنمو، لا في تراب أنطاكية العظمى وحسب، بل في أصقاع المعمورة جمعاء.
تطول لائحة قدّيسي هذه الأرض المقدّسة، وليس آخرها إعلان مجمعنا الأنطاكيّ المقدّس عام 2023 قداسة كاهنين أنطاكيّين شهيدين هما الأب نقولا خشّة الّذي استشهد في مرسين سنة ١٩١٧ وابنه بالجسد الأب حبيب خشّة الّذي استشهد في جبل الشّيخ سنة ١٩٤٨. هذان القدّيسان لم يخجلا من إيمانهما ولم يهابا الموت، فاستحقّا الإكليل السّماويّ.
القداسة ليست جديدةً على أرضنا الّتي روّيت بدماءٍ زكيّةٍ كثيرةٍ أهرقت بسبب الإيمان المستقيم، ولا ننسى شهداء الحروب الّذين سقط كثيرون منهم بسبب مسيحيّتهم الّتي رفضوا التّنكّر لها، على عكس كثيرين نجدهم غير مبالين بإيمانهم، ويبدّلون أسماءهم ليكونوا بلا لونٍ، مقبولين من الجميع.
عندما نعطى في المعموديّة اسم قدّيسٍ، علينا أن نقبل كلّ ما يحمله هذا الإسم من معانٍ وواجباتٍ ونتائج، حتّى الإهانة أو الشّهادة، لأنّ ذلك يقودنا إلى ربح الملكوت.
يحمل هذا العيد البهج دعوةً لكلٍّ منّا لأن نجاهد في سبيل كسب حياتنا وتقديسها. والحياة الحقيقيّة تكتسب بالفضائل والتّضحيات، بإنكار الذّات وحمل الصّليب، بالمحبّة الّتي أوصانا الرّبّ يسوع أن نعيشها دون شروطٍ عندما قال لنا: "تحبّ الرّبّ إلهك من كلّ قلبك ومن كلّ نفسك ومن كلّ فكرك، هذه هي الوصيّة الأولى والعظمى، والثّانية مثلها، تحبّ قريبك كنفسك" (متّى 22: 37-39). ماذا يفعل إنسان هذا العصر؟ هل يطبّق وصيّة المحبّة أم يكره ويحقد ويظلم ويقتل ويطارد السّلطة والمجد، فيشنّ الحروب، ويبيد الضّعفاء، ويبذّر الأموال الطّائلة من أجل تصنيع الأسلحة أو اقتنائها، فيما الملايين يموتون جوعًا أو مرضًا ولا يجدون ما يقتاتون منه أو يمنعون الموت عن أولادهم؟ لو ثمّر إنسان هذا العصر ما وهبه إيّاه الله من نعمٍ وثرواتٍ في محاربة الجهل والتّطرّف ونشر العلم والوعي، وفي منع الفقر، ومحاربة الأوبئة، والحدّ من التّسلّح، والمحافظة على البيئة وعلى الحياة عوض قتل أخيه، والإساءة إلى الطّبيعة، وقهر البيئة وتلويثها، هل كان عالمنا يعيش هذا الانحطاط الأخلاقيّ، والتّراجع الحضاريّ، والتّصحّر والجفاف والاحتباس الحراريّ؟ وهل كان الأطفال يموتون جوعًا؟ متى يعود الإنسان إلى ضميره وإلى إنسانيّته، ويسترجع الصّورة الإلهيّة الّتي خلق عليها، ويسلك درب القداسة كالقدّيسين الّذين نعيّد لهم اليوم؟
لا تخافوا من عيش وصايا الرّبّ والاعتراف به بمجاهرةٍ كلّيّةٍ كما فعل القدّيسون قبلنا. لقد واظبوا على خدمة الكنيسة وعلى المشاركة في الأسرار الإلهيّة وعلى عيش الفضائل وإعلان إيمانهم رغم الاضطهادات والتّعذيبات والحروب، فما كانوا يعيشون لذواتهم بل المسيح كان يحيا فيهم. قال بولس الرّسول: "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ" (غلا20:2 ).
تشجّعوا وصلّوا بلا مللٍ، هذا هو سبيل التّواصل مع الله. أصغوا إلى كلامه في الكتاب المقدّس فينير الله دروبكم كي تبلغوا القداسة. ثقوا بأنّه فرح عظيم في السّماء عندما تصبحون قدّيسين شفعاء لإخوتكم البشر لدى الله. الكنيسة تناديكم قبل المناولة قدّيسين بإعلانها: "القدسات للقدّيسين". سيروا خطوتكم الأولى على درب الإيمان العميق، عندئذٍ تشملكم نعمة الرّوح الكلّيّ قدسه وتظلّلكم بالنّور الإلهيّ فتصبحون أنوارًا مضيئةً في عالم الظّلمة، كما سمعنا في إنجيل اليوم: "أنتم نور العالم، لا يمكن أن تخفى مدينة واقعة على جبلٍ ولا يوقد سراج ويوضع تحت المكيال، لكن على المنارة ليضيء لجميع الّذين في البيت، هكذا فليضىء نوركم قدّام النّاس لكي يروا أعمالكم الصّالحة ويمجّدوا أباكم الّذي في السّموات". ألا بارك الله جهادكم وقدّس حياتكم وجعلكم أنوارًا تفضحون ظلمة هذا الدّهر. آمين."