لبنان
05 شباط 2024, 08:25

عوده: لا يمكن للإنسان أن يعرف حقيقة الرّبّ يسوع إذا بقي عالقًا بين الجموع

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس راعي أبرشيّة بيروت للرّوم الأرثوذكس المتروبوليت الياس عوده قدّاس الأحد في كاتدرائية القديس جاورجيوس في وسط بيروت، وبعد تلاوة الإنجيل المقدّس ألقى عظة قال فيها:

"باسم الآب والأبن والرّوح القدس، آمين.

أحبّائي، سمعنا في إنجيل اليوم عن لقاء الرّبّ يسوع برجلٍ اسمه زكّا، كان عشّارًا، أيّ جابي ضرائب للدّولة، لكنّه لم يكن يكتفي بجمع الضّرائب المفروضة، بل كان يأخذ من النّاس أضعافًا.

سمع ذاك الغني زكّا بمرور الرّبّ في أريحا فأراد أن يراه، ولأنّه كان قصير القامة، لم يستطع من كثرة الجموع، فتسلّق جميزةً كان الرّبّ مزمعًا أن يمرّ بها. عندما مرّ الرّبّ يسوع رفع طرفه ونادى: «يا زكّا أسرع انزل» الرّبّ عرف توقه فبادره بقوله: «اليوم ينبغي لي أن أمكث في بيتك»، وكأنّه يقول له أنا أتيت من أجل خلاصك. وفيما كان الرّبّ يسوع في بيته وقف زكّا العشّار في حضرة الرّبّ معلنًا أنّه سيعيد كلّ ما أخذه من النّاس، وسيوزّع أمواله على المساكين والفقراء. وكيف لمن عرف رحمة الله ألّا يقبلها ويقابلها بالتّوبة والرّجوع إلى الله؟

هذه الحادثة تأتي بعد حادثة الرّئيس الغنيّ الذي ذهب حزينًا بعدما طلب منه الرّبّ يسوع توزيع أمواله على الفقراء واتّباعه، وبعد حادثة شفاء الأعمى الذي ألحّ في طلب الرّحمة من الرّبّ يسوع ابن داود فاستجاب له، لأنّ الإنجيليّ لوقا أراد أن يبيّن عظمة موقف زكّا العشّار مقابل موقف الرّئيس الغنيّ.

يشير الإنجيليّ لوقا إلى عنصرين كانا يمنعان زكّا من التّعرّف على الرّبّ يسوع: الجموع وقصر القامة (19: 3). لقد شكّلت «الجموع» في الكتاب المقدّس عنصرًا سلبيًّا، إذ يقودها الجهل والمصلحة وعدم القدرة على التّمييز. فالجموع تتبع الرّبّ يسوع لأنّه يطعمها، وهي لم تعرف حقيقته، بل طلبت صلبه بعد تحريض الفرّيسيّين لها. لذلك لا يمكن للإنسان أن يعرف حقيقة الرّبّ يسوع إذا بقي عالقًا بين الجموع، لذا وجب أن يصير تلميذًا له. هذا ما أشار إليه الرّبّ في آخر إنجيل متّى عندما دعا تلاميذه إلى تلمذة جميع الأمم (مت 28: 19)، ليكونوا تلاميذ مباشرين له. أمّا قصر القامة، فإنّ التّرجمة الحرفيّة للعبارة اليونانيّة المشيرة إلى زكّا تعني «صغير السّنّ»، أيّ غير ناضجٍ، بمعنى أنّه لا يعرف الوصايا الإلهيّة، بعكس الرّئيس الغنيّ الّذي كان حافظًا للشّريعة منذ حداثته (18: 21). كان لا بد لزكّا من تجاوز هذين العنصرين، ودفع الجهل والمصالح الشّخصيّة عنه من جهةٍ، والنّموّ في معرفة وصايا الله من جهةٍ ثانية، لكي يستطيع أن يرى الرّبّ يسوع، أيّ أن يعرفه على حقيقته.

مقابل إصرار زكّا على تجاوز الصّعوبات، كانت دعوة الرّبّ يسوع له. ففي كلّ مرّةٍ يسعى الإنسان إلى معرفة الرّبّ حقيقةً، يبادره الرّبّ نفسه بالدّعوة إلى السّلوك في وصاياه. من هنا، نفهم موقف زكّا عندما أعلن عن تخلّيه عن أمواله ليكون مع الرّبّ.

هنا أيضًا، يلفتنا أمران: إستخدام صيغة الحاضر، وكمّيّة الأموال الموزّعة. إنّ استخدام الفعل بصيغة الحاضر في اللّغة اليونانيّة الّتي كتب فيها لوقا إنجيله، يعني استمراريّة الفعل. فعندما يقول زكّا: «ها أنا، يا ربّ أعطي نصف أموالي للمساكين... أردّ أربعة أضعافٍ»، يقصد أنّه بدأ بفعل ذلك، وهو مستمرٌّ على هذا المنوال. هذا الأمر ينسحب على كلّ قارئٍ لإنجيل اليوم، الّذي يجب أن يضع نفسه مكان زكّا العشّار، ويقوم بمراجعة سلوكه، ويبادر فورًا إلى إصلاح أيّ خطأٍ اقترفه عن جهلٍ أو قصد، خصوصًا بعد تعرّفه على المسيح وإقراره أنّه معلّمٌ له وملكٌ على حياته. من جهةٍ ثانية، إذا أعطى زكّا نصف أمواله للمساكين، وأربعة أضعافٍ أخرى لمن وشى بهم أو غشّهم (وهذا ما كان يفعله العشّارون)، فهذا يعني أنّه سيوزّع كلّ ثروته تقريبًا، ويكون بذلك قد حقّق ما لم يستطع الرّئيس الغنيّ فعله (18: 23)، الأمر الذي دفع بالرّبّ يسوع إلى إعلان خلاص زكّا وجميع أهل بيته.

إذا نظرنا في هذا البلد إلى حادثة زكّا العشّار، نجد أنفسنا محاطين بكثيرين ممّن يشبهون زكّا قبل توبته. عملهم قائمٌ على غبن المواطنين ونهب أموالهم، الأمر الّذي بدا واضحًا في الموازنة الأخيرة، والضّرائب والرّسوم التي فرضت على المواطنين دون أن يقابلها تقدماتٌ اجتماعيةٌ وصحّيّةٌ، وتحسينٌ في مستوى حياة المواطنين. لقد أمعن المسؤولون في قهر المواطن بالسّكوت عن تفجيره والتّغاضي عن مفجّريه، وتبذير مدّخراته، وإيصال البلد إلى الهاوية، وتكريس الفراغ في معظم المؤسّسات وعلى رأسها رئاسة الجمهوريّة، واليوم يحاولون شفاء جروح الاقتصاد الوطنيّ، النّاتجة عن فشلهم في الإدارة، من جيوب المواطنين، عبر استنزاف ما تبقّى فيها من مالٍ قليلٍ يدّخرونه لحاجاتهم اليوميّة، عوض الانصراف إلى ضبط المرافئ ومنع التّهريب ومكافحة الهدر والفساد والتّهرّب الضّريبيّ وجباية المستحقّات.

الدّعوة اليوم هي للمسؤولين أوّلًا، أن يتوبوا مثل زكّا، ويسعوا إلى رؤية وجه الرّبّ في كلّ إنسانٍ وضعه الرّبّ تحت رعايتهم، وأن يعملوا جاهدين لإعادة كلّ فلسٍ إلى صاحبه الحقيقيّ. بهذا ربّما يقدّمون حسابًا أخفّ أمام الدّيّان العادل يوم الدّينونة.

كذلك هم مدعوّون إلى التوبة عن أيّة إساءةٍ قاموا بها تجاه أترابهم وتجاه شعبهم، إن بالفعل أو بالفكر أو بالقول، أو بتشجيع أزلامهم على الأذيّة أو الإهانة، غير ملتفتين إلى إنسانيّة الإنسان الذي يذمّونه، وإلى الحرّية الممنوحة له من الله والتي تكفلها كلّ الدّساتير والأعراف والشّرائع. من أولى واجبات الإنسان احترام أخيه الإنسان، وقبوله ولو كان ذا رأيٍ مختلف. بإمكانك محاورته ومحاولة إقناعه أو الإقتناع برأيه. أمّا أن تشهّر بأخٍ لك، كبيرًا كان أو صغيرًا، فهذا عملٌ غير إنسانيٍّ وغير أخلاقيٍّ ومدان.

محزنٌ المستوى المتدنّي الذي بلغه أسلوب التّخاطب بين اللّبنانيين، خصوصًا عبر وسائل التّواصل، ومحزنٌ أكثر التعبير بلا ضوابط أخلاقيةٍ ووطنيّةٍ عن حقدٍ دفينٍ في لاوعي من يعبّرون، رافضين الآخر وأفكاره ومواقفه فقط لأنّها لا تناسبهم، وفارضين أفكارهم ومواقفهم. أين الديمقراطيّة التي نتغنّى بها؟ وأين حرّيّة الرّأي والتّعبير التي يكفلها الدّستور؟

دعوتنا أن نتشبّه بزكّا العشّار، ونسعى إلى ملاقاة الرّبّ يسوع، الّذي يلاقينا بدوره في منتصف الطّريق، ويأتي ليمكث عندنا، وتكون نتيجة ذلك سعينا إلى إتمام وصاياه الإلهيّة، فنسمع منه: «اليوم حصل الخلاص لهذا البيت»، آمين."