عوده للأطبّاء في مستشفى القدّيس جاورجيوس: أنتم امتداد لمحبّة المسيح الشّافي
في المناسبة كانت لعوده الكلمة التّالية: "أحبّائي، نجتمع اليوم لنرفع الشّكر إلى الله الّذي جعل من العناية بالجسد مجالًا لتمجيد اسمه، ومن مهنة الطّبّ دعوةً مقدّسةً تمارس بروح المحبّة والتّضحية، كخدمة خلاصيّة تلامس الإنسان في ضعفه. فالأطبّاء الّذين يرتدون ثوب العلم والخبرة، إنّما ينالون نعمةً خاصّةً عندما تقترن معرفتهم بروح التّواضع والعطاء والإنسانيّة، لأنّ الطّبيب يعاين ما لا يراه غيره، ويواجه الألم والموت والرّجاء كلّ يوم، فيصبح شاهدًا على هشاشة الحياة وعظمة واهبها.
منذ القديم أظهر الكتاب المقدّس قيمة الإنسان الجسديّة والرّوحيّة معًا. الرّبّ نفسه "كان يجول... ويشفي كلّ مرض وكلّ ضعف في الشّعب" (مت 4: 23). لم يكن الشّفاء مجرّد معجزة بل إعلان أنّ الجسد ليس غريبًا عن خطّة الله الخلاصيّة. لذلك، كلّ عمل يساهم في شفاء الجسد هو مشاركة في عمل المسيح الشّافي، الّذي رأى في اهتمام السّامريّ الشّفوق باليهوديّ الجريح فعل رحمة يرضي الله. يقول القدّيس باسيليوس الكبير إنّ الطّبيب "شريك لله في تدبيره للجسد"، لأنّ الله شاء أن يدخل الإنسان بعقله وخبرته في نظام الطّبيعة لكي يعاون البشر على البقاء والشّفاء.
غير أنّ هذه الدّعوة السّامية لا تخلو من التّجارب، بل لعلّها من أكثر المهن عرضةً لمزالق متنوّعة. فالإنسان الّذي يملك معرفةً لا يملكها غيره قد يسقط في تجربة العجب والكبرياء، فيحسب نفسه سيّدًا على الحياة والموت. والّذي يعالج الأجساد قد يجرّب بأن ينسى أنّه أوّلًا إبن لله، وأنّ سلطانه هو سلطان خدمة لا تحكّم. لذلك، يقول القدّيس إسحق السّريانيّ: "من عرف ضعفه عرف الله". ما من مهنة تكشف ضعف الإنسان كمهنة الطّبّ، لأنّ الطّبيب، كلّما تقدّم في علمه، أدرك أنّ الجسد سرّ، وأنّ الحياة ليست بيده، وأنّ الشّفاء لا يكتمل إلّا إذا شاء الرّبّ.
من أهمّ التّجارب الّتي قد تصيب الطّبيب أيضًا تجربة محبّة المال. يذكّرنا الكتاب المقدّس بأنّ "محبّة المال أصل لكلّ الشّرور" (1تي 6: 10)، ويحذّرنا الآباء من أنّ التّركيز على المردود المادّيّ قد يحوّل الطّبيب من خادم للرّحمة إلى تاجر في الألم. لذلك، عرف في الكنيسة قدّيسون أطبّاء لقبوا بـ"العادميّ الفضّة" لأنّهم اتّخذوا الفقر الاختياريّ طريقًا لحماية قلوبهم من التّعلّق بالمال. هؤلاء لم يكتفوا بالعلم، بل حملوا روح الإنجيل في كلّ عمل قاموا به، فأصبحوا أيقونات حيّةً لما يجب أن يكون عليه الطّبيب المسيحيّ.
تأمّلوا مثلًا في القدّيسين قزما ودميانوس وبندلايمون الشّافي الّذين مارسوا الطّبّ بلا أجر، وكانوا يعالجون الإنسان جسدًا وروحًا. ورد في سيرتهم أنّهم كانوا يستهلّون كلّ علاج بالصّلاة، لأنّهم أدركوا أنّ الطّبيب الحقيقيّ هو الله، وأنّهم أدوات بيده. لقد تمسّكوا بهذه الرّوح حتّى استشهادهم ولم يتراجعوا عن خدمة المريض.
هذه الرّوح البطوليّة ليست بعيدةً عن بعض الأطبّاء اليوم، الّذين يقفون يوميًّا بين الألم والرّجاء، بين الحياة والموت، ويقدّمون وقتهم وعلمهم وطاقتهم ومحبّتهم وأحيانًا مالهم خدمةً لمن يعاني، مدركين أنّ الحكمة الحقيقيّة لا تدفع إلى الثّقة بالنّفس بل إلى التّواضع أمام عظمة الله.
مستشفى القدّيس جاورجيوس الجامعيّ، الّذي يحمل اسم شهيد عظيم في الكنيسة، يعرف تمامًا معنى التّضحية. فالقدّيس جاورجيوس، الّذي لم يكن طبيبًا، صار شافيًا للنّفوس والأجساد لأنّه بذل ذاته بمحبّة كاملة لله. وأنتم، أيّها الأطبّاء الأحبّاء، تخدمون في مؤسّسة جبل تاريخها بالآلام والصّمود، وقد عانت ما عانته عاصمتنا الحبيبة بيروت من حروب وتحدّيات وكوارث نأمل أن يكون آخرها تفجير المرفأ، حتّى صار هذا المستشفى علامة رجاء في قلب مدينة متألّمة. وأنتم، بجهودكم وسهركم على المريض، وحرصكم على المستشفى، وتعاونكم مع الإدارة، تعيدون إليه نبض الحياة كلّ يوم. أنتم شركاء هذه المؤسّسة في زرع الرّجاء في النّفوس، في العطاء وفي التّضحيّة، في التّعلّق بالمبادئ، واحترام القيم، ورفض مقولة "الغاية تبرّر الوسيلة". أسلافكم كانوا حجارة الزّاوية الّتي بني عليها هذا المستشفى. ساهموا في إنشائه وفي تطويره، وكانوا أمناء له. لم يساوموا على المبادئ ولم يضعفوا أمام التّحدّيات أو التّجارب.كان المستشفى بيتًا لهم عاشوا فيه كعائلة وكبروا، وذاع صيتهم في أرجاء لبنان. مع أسلافي، والإدارات المتعاقبة، جابهوا الصّعاب، معًا بنوا، معًا أحبّوا وخدموا وضحّوا حتّى صار مستشفى القدّيس جاورجيوس، ذو القرن ونصف القرن، يعرف بأعلامه الأطبّاء، وصار الأطبّاء يفتخرون بالمستشفى الّذي صنع عزّهم وفتح لهم مجال تمجيد الله في الإنسان المريض. شهرتهم بنيت على الأخلاق والنّزاهة والإنسانيّة والوفاء للمؤسّسة الّتي احتضنتهم، لا على ما يملكون من مال. إنّهم يسكنون الآن في فرح ربّهم، ينظرون بفخر أعمالكم الحسنة وما وصل إليه هذا المستشفى. ليكن ذكرهم مؤبّدًا.
يا أحبّة، الطّبّ لا يختزل بالعلم بل في العلاقة مع المريض. يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ: "لا ينظر الله إلى العمل وحده بل إلى النّيّة الّتي ترافقه". الطّبيب لا يرى أمامه ملفًّا طبّيًّا فقط، بل يرى إنسانًا، مخلوقًا على صورة الله ومثاله، محمولًا بالأمل والخوف، يحتاج إلى كلمة طيّبة كما يحتاج إلى دواء. قد ينسى المريض وصفة الطّبيب، لكنّه لن ينسى نظرة محبّة صادقة أو كلمة تعزية سمعها قلبه قبل أذنه.
قد يمرّ الطّبيب أحيانًا بتجارب من نوع آخر كالتّعب والضّغط النّفسيّ وسوء التّقدير، أو الشّعور بأنّ جهده يضيع سدًى. لكنّ الرّبّ يقول "طوبى للرّحماء لأنّهم يرحمون" (مت 5: 7). كلّ تعب يبذل بمحبّة لا يضيع، وكلّ ليلة سهر تكرّس لخدمة مريض هي ذخيرة روحيّة تحسب لكم في ملكوت الله. لقد علّمنا القدّيس يوحنّا الرّحوم أنّ الطّبيب الحقيقيّ "هو الّذي يعالج المريض بعينيّ المسيح"، أيّ بروح الحنوّ واللّطف، حتّى لو لم يسمع كلمة شكر.
يا أحبّة، أكثر ما يحتاج إليه الطّبيب أن يحفظ قلبه من القسوة. فالاحتكاك اليوميّ بالألم قد يطفئ حسّ الرّحمة. لذلك أوصى الآباء بالصّلاة المستمرّة لأنّها تحافظ على القلب حيًّا. فحين يقف الطّبيب قبل عمله ويصلّي قائلًا: "يا ربّ، أعطني أن أرى مرضاك كما تراهم أنت"، يصبح عمله نعمةً، ويتحوّل يومه إلى لقاءات مقدّسة، وتصبح العيادة وغرفة العمليّات أو غرفة الطّوارئ مكانًا يلتقي فيه الإنسان بنعمة الله.
الطّبّ هو خدمة محبّة، والمحبّة الحقيقيّة قرار يوميّ بأن نقدّم ذواتنا من أجل الآخر. ليس المطلوب من الطّبيب أن يصنع المعجزات، بل أن يكون أمينًا لنعمة الله الّتي أعطيت له، وأن يحفظ نفسه من التّجارب المتنوّعة، وما أكثرها في أيّامنا، وأن يتذكّر أنّه أيضًا مريض بحاجة إلى شفاء روحيّ.
أحبّائي، إنّ رسالتكم سامية، وما تقومون به عمل مقدّس. أنتم أدوات في يد الله من أجل حفظ الحياة، وامتداد لمحبّة المسيح الشّافي. كلّ جهد تبذلونه هو صلاة صامتة ترتفع أمام الله، وكلّ شفاء يتمّ بواسطتكم هو مجال تمجيد لله، وكلّ كلمة تعزية تتفوّهون بها هي سبيل لإدخال الفرح إلى قلب متألّم. فاطلبوا إلى الرّبّ أن يقوّيكم ويطهّر قلوبكم ويبعدكم عن التّجارب، ويفتح أعينكم لتروا في كلّ مريض وجه المسيح المتألّم. حين تعملون بهذه الرّوح، يصير المستشفى كنيسةً، وغرفة العمليّات مذبحًا، وأيديكم أداة نعمة، آمين."
