عوده: لنتعلّم كيف نقيس كلّ أمورنا بمقياس الصّليب لنحيا في البذل والمحبّة
بعد الإنجيل المقدّس، ألقى عوده عظته فقال: "أحبّائي، إذ نحتفل اليوم بعيد رفع الصّليب الكريم المحيي، نتأمّل في سرّ عظيم أعلنه لنا الرّسول بولس في الرّسالة الّتي سمعناها اليوم عندما قال: "إنّ كلمة الصّليب عند الهالكين جهالة، وأمّا عندنا نحن المخلّصين فهي قوّة الله… ونحن نكرز بالمسيح مصلوبًا، شكًّا لليهود وجهالةً لليونانيّين، وأمّا للمدعوّين… فالمسيح قوّة الله وحكمة الله" (1كو 1: 18-24). يضعنا هذا الكلام أمام مفارقة عجيبة، لأنّ الصّليب في عيون العالم ضعف وهزيمة، بينما هو في الإيمان المسيحيّ مجد وقوّة وحياة.
عاش الرّسول بولس في زمن كان فيه الصّليب علامة خزي وعار وأداة إعدام للعبيد والمجرمين. لذلك لم يكن معقولًا، بحسب مقاييس العقل البشريّ، أن يعلن المؤمنون أنّ خلاص العالم قد تحقّق على خشبة مرفوضة. لكنّ الرّوح القدس فتح أعين الرّسل ليدركوا أنّ ما حسبه البشر عارًا، جعله الله مجدًا، وما اعتبر جهالةً صار حكمةً، وما ظهر ضعفًا تجلّى فيه سلطان الله القاهر الموت. يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ: "إنّ الله لم يخف عن العار، بل اتّخذ ما هو أحقر الأشياء، أيّ الصّليب، وجعل منه تاجًا وكرامةً، ليعلّمنا أنّ لا شيء أقوى من قوّته، وأنّه قادر أن يجعل من الجهالة حكمةً، ومن العار مجدًا."
يكشف سرّ الصّليب في عمقه التقاء المحبّة والحكمة الإلهيّتين. فالله، عوض أن يخلّص العالم بحسب حسابات البشر، إختار أن يدخل في الضّعف ليبيد قوّة الشّرّير. يقول القدّيس أثناسيوس الكبير: "أخذ المسيح جسدًا قابلًا الموت ليقدّمه على الصّليب من أجل الجميع، وبذلك يبطل حكم الموت ويعيد البشريّة إلى عدم الفساد". هذا هو السّرّ الّذي لم يدركه العظماء ولا الفلاسفة، لأنّهم كانوا يبحثون عن خلاص في المجد البشريّ أو في سلطة العقل أو قوّة البطش، فيما أتى الخلاص من طريق لم يتوقّعوه: طريق البذل والموت طوعًا.
اليهود الّذين كانوا ينتظرون مسيحًا ظافرًا بالسّيف رأوا في المصلوب عثرةً، لأنّهم لم يتصوّروا أنّ المسيح الملك يقبل إهانةً وصلبًا. واليونانيّون، أهل الحكمة والفلسفة، اعتبروا هذا الإيمان جهالةً، لأنّهم لم يتصوّروا خلاصًا يأتي من موت مشين. لكنّ الكنيسة شهدت، بواسطة الرّسل والشّهداء، أنّ الصّليب هو ينبوع الحياة. فما لم يفهمه العقل المحدود، أعلنه الله للقلوب البسيطة المتواضعة. يقول القدّيس إيريناوس: "الّذي لا يدركه العقل وحده يعلنه الإيمان، لأنّ الإيمان يتجاوز الحكمة البشريّة ويقود إلى رؤية الله".
ذكرى رفع الصّليب هي إعلان متجدّد لحقيقة أنّ الصّليب لم يعد أداة موت، بل صار شجرة حياة جديدة، تشعّ بالنّور على الخليقة. الكنيسة لا تحتفل اليوم بذكرى ألم وحزن، بل بعيد انتصار وفرح. فالمسيح الّذي ارتفع على الصّليب رفع معه طبيعتنا السّاقطة ليجعلها قائمةً في قيامته. الصّليب مدرسة للمؤمنين في حياتهم اليوميّة، حمله لا يقتصر على تذكار خشبة مقدّسة نكرّمها، بل هو دعوة لحمل صليب الحياة، أيّ لاحتمال الضّيقات بشكر واتّحاد بالمسيح القائل: "من أراد أن يتبعني فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني" (مت 16: 24). المسيحيّ مدعوّ للاشتراك في آلام المسيح ليشترك في قيامته أيضًا. يقول القدّيس إسحق السّريانيّ إنّ "طريق الله هو طريق الصّليب، وإذا أردت أن تسلكه فلا تنتظر أن تجد فيه راحةً جسديّةً، بل ستجد فيه رجاء القيامة".
هنا، يظهر وجه الصّليب كقوّة معزّية، لا كحمل ثقيل. المؤمن الّذي يلتصق بالمسيح يجد في الصّليب سندًا وتعزيةً بأنّ المسيح نفسه يحمله معه. يشبّه الآباء الصّليب بمفتاح يفتح أبواب الحياة الأبديّة، وبجسر يعبر بنا من الموت إلى الحياة. كذلك، هو معيار لحياتنا، فكلّ ما نعيشه خارج محبّة الصّليب باطل، أمّا إذا ارتبط بالصّليب، أيّ بالمحبّة المضحّية، فإنّه يصير أبديًّا. الصّليب ليس شعارًا خارجيًّا نعلّقه على صدورنا فقط، بل حياة نعيشها في التّواضع والمحبّة والغفران.
يا أحبّة، يذكّرنا عيد رفع الصّليب بواجب الشّهادة في عالم ما زال يرى في الإنجيل جهالةً وفي الصّليب عثرةً. فكما رفض اليهود واليونانيّون الكرازة بالصّليب، كذلك يرفض كثيرون اليوم منطق المحبّة والبذل والتّضحية، مفضّلين منطق القوّة والأنانيّة. لكنّ الكنيسة مدعوّة أن تشهد بلا خجل أنّ قوّة الله ظهرت في ضعف الصّليب، وأنّ رجاء الإنسان لا يتحقّق في المجد الأرضيّ بل في القيامة المجيدة.
منطق العالم مغاير لحكمة الله وعقل الإنسان لا يدرك عمق محبّة الله وبعد تدبيره من أجل الإنسان. ابن الله احتمل الصّلب من أجل خلاص العالم. هل يفكّر إنسان في عصرنا أن يضحّي لكي يخلص إنسانًا أخًا له في الإنسانيّة؟ وهل يتخلّى أحد في بلدنا عن مركز أو مكسب من أجل خير إخوته في الوطن؟ عقود مرّت ولبنان يعاني من أنانيّة أبنائه ومن جشع حكّامه ومن تسلّط أحزابه ومن تفرّد البعض وتعنّت البعض الآخر أو فساده، غير عابئين بحياة اللّبنانيّين وسمعة لبنان وديمومته. لو تأمّلوا في سرّ الصّليب وفي التّضحية العظمى الّتي قدّمها خالق الكون من أجل خلاص خليقته هل كان إنسان يتعلّق بكبريائه أو يتشبّث بموقفه أو يتمسّك بسلطته أو يحاول مضاعفة مكتسباته على حساب الآخرين؟ الصّليب ليس خيالًا وصلب ابن الله الوحيد ليس خرافةً بل علامة على المحبّة الإلهيّة اللّامحدودة. "الصّليب هو مجد المسيح ومجدنا نحن أيضًا" يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ، وكما كان الصّليب مقدّمةً للقيامة، هو طريق المؤمن الّذي يرفع نفسه فوق مغريات العالم، إلى الخلاص.
فلنقترب اليوم من خشبة الصّليب بخشوع، شاكرين الله الّذي حوّل العار إلى مجد، والموت إلى حياة، واليأس إلى رجاء، ولنجعل من حياتنا علامةً حيّةً لقوّة الصّليب، فلا نفتخر إلّا بيسوع المسيح المصلوب والقائم، كما قال الرّسول بولس: "أمّا من جهتي فحاشا لي أن أفتخر إلّا بصليب ربّنا يسوع المسيح" (غل 6: 14).
دعوتنا اليوم أن نتعلّم كيف نقيس كلّ أمورنا بمقياس الصّليب، فنرفض الكبرياء والزّيف ونطلب التّواضع، ونهرب من الكراهيّة والإدانة ونلجأ إلى المحبّة، ونترك الأنانيّة والحسد والحقد لنحيا في البذل والمحبّة، فنصير حقًّا أبناء القيامة، آمين."