عوده: لنثق بأنّ الله وسيقود حياتنا إذا سلّمناه ذواتنا بتواضع وإيمان وطاعة
وفي تفاصيل العظة، قال عوده: "أحبّائي، إنجيل اليوم غنيّ بالدّلالات لأنّ الإنجيليّ متّى لا يقدّم لنا أحداثًا تاريخيّةً وحسب، بل يكشف لنا عمق تدبير الله الخلاصيّ، وطريقة عمله في التّاريخ من خلال أناس متواضعين، صامتين، لكنّهم ممتلئون إيمانًا وطاعةً. هذا المقطع نفهمه حقًّا إذا قرأناه في ضوء الإعلان الإلهيّ كما يشرحه الرّسول بولس في رسالته إلى أهل غلاطية، حيث يضع أمامنا مبدأً أساسيًّا هو أنّه ما من خلاص، ولا دعوة، ولا رسالة، تبنى على حكمة بشريّة، بل على إعلان الله وحده.
حين ظهر ملاك الرّبّ ليوسف في الحلم وقال له "قم فخذ الصّبيّ وأمّه واهرب إلى مصر"، لم يكن هذا الأمر مجرّد تدبير أمنيّ أو هروبًا من خطر داهم، بل كان دخولًا في سرّ عميق. فالطّفل الّذي تحمله العذراء هو ابن الله، ومع ذلك يسلّم إلى حماية إنسان بارّ، فقير، غير معروف. يوسف، بخلاف هيرودس الّذي تحرّكه شهوة السّلطة والخوف على عرشه، يتحرّك بدافع واحد هو طاعة كلمة الله. يقول القدّيس أثناسيوس الكبير إنّ الله "يختار الضّعفاء ليخزي الأقوياء، ويعمل بصمت لكي يعلن قوّته."
يوسف لا يجادل أو يسأل لماذا مصر؟ ولماذا الآن؟ وكيف الطّريق؟ بل "قام وأخذ الصّبيّ وأمّه ليلًا". اللّيل هنا ليس تفصيلًا زمنيًّا عابرًا، بل علامة روحيّة. ففي ظلمة هذا العالم، وفي ظلمة الخوف والإضطهاد، يتحرّك النّور الحقيقيّ بصمت. يوسف يسير في اللّيل حاملًا نور العالم، كما حمل تابوت العهد قديمًا حضور الله في وسط الشّعب. لهذا، ترى الكنيسة في يوسف صورةً للخادم الأمين الّذي يحمل السّرّ من دون أن يدّعي امتلاكه.
هنا يلتقي مقطعا الإنجيل والرّسالة اللّذان سمعناهما اليوم. الرّسول بولس يؤكّد أنّ الإنجيل الّذي يكرز به "ليس بحسب إنسان"، وأنّ دعوته لم تأت من لحم ودم، بل بإعلان يسوع المسيح. هذه الحقيقة عينها نراها متجسّدةً في يوسف. فطاعته ليست نتيجة فهم كامل للتّدبير، بل استجابة لإعلان إلهيّ. وكما أنّ بولس الّذي كان "يضطهد كنيسة الله بإفراط" لم يستشر بشرًا حين دعي رسولًا، كذلك يوسف لم يستشر بشرًا حين دعي حارسًا للطّفل. دخل كلاهما في منطق الله لا العالم.
الهروب إلى مصر يعيد إلى الذّاكرة تاريخ الخلاص كلّه. فمصر كانت أرض العبوديّة، وها هو ابن الله يدخلها لا كعبد، بل كطفل لاجئ، لكي يقدّسها بحضوره. فمقولة: "من مصر دعوت ابني" ليست مجرّد نبوءة تستعاد، بل هي إعلان بأنّ المسيح يدخل إلى عمق جراح البشريّة ليشفيها من الدّاخل. يوسف هو الشّاهد الأمين على هذا الدّخول، هو الّذي يقود طريق الآلام منذ طفوليّة الرّبّ. لذلك ترى فيه الكنيسة صورةً لمن يريد أن يجاهد حقًّا من أجل المسيح، لا بالكلام، بل بالحياة.
عندما نقرأ خبر مذبحة الأطفال، ندرك أكثر فأكثر التّباين بين ملكوت الله وسلطان هذا العالم. هيرودس يقتل ليحفظ سلطته وعرشه، أمّا الله فيحفظ الحياة بالصّمت والتّواضع. كم من البشر يشبهون هيرودس، يقتلون بالكلام الجارح والأفعال المستهجنة أحيانًا، وبالسّلاح أحيانًا أخرى، ليرضوا غرورهم وحقدهم، وليحفظوا سلطتهم، غير مدركين أنّهم يقعون فريسة أفعالهم. يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ إنّ هيرودس "ظنّ أنّه يقتل طفلًا، ولم يعلم أنّه يحارب الله نفسه". أمّا يوسف، فبصمته وطاعته، قد صار أداةً لإفشال مشورة الشّرّ، من دون أن يرفع سيفًا أو ينطق بكلمة.
حين يعود يوسف من مصر بعد موت هيرودس، نراه لا يتصرّف بعفويّة بشريّة، بل يبقى أمينًا لأسلوب حياته، أيّ للإصغاء إلى الله. يسمع عن أرخلّاوس فيخاف، لكنّ خوفه لا يتحوّل إلى اضطراب، بل إلى صلاة وإصغاء، فيأتيه الإعلان ثانيةً. هنا، نتعلّم أنّ الإيمان لا يلغي الخوف، لكنّه يحوّله إلى باب للاتّكال على الله. يوسف لا يتّكل على شجاعته، بل على الإرشاد الإلهيّ، فينزل إلى الجليل كما أوحي له، وفي النّاصرة ينشأ يسوع "ليتمّ المقول بالأنبياء إنّه يدعى ناصريًّا".
يا أحبّة، ليس من العبث أن تحتفل الكنيسة في الأحد الّذي يلي الميلاد بذكرى يوسف الصّديق مع داود النّبيّ ويعقوب أخي الرّبّ. داود يمثّل الملك الّذي خضع لقلب الله، ويعقوب يمثّل الرّاعي الّذي شدّد على الإيمان المقرون بالعمل، ويوسف يجمع الإثنين في صمت حياته. فهو ابن داود بالجسد، لكنّه ابن داود بالإيمان أيضًا، إذ قبل أن يتنازل عن حقوقه البشريّة ليتمّم قصد الله. وبما أنّ التّقليد يقول إنّ يعقوب هو ابن يوسف بالجسد، فإنّنا لا نعجب من إيمانهما الّذي لم يكن فكرةً مجرّدةً، بل فعل يوميّ من الطّاعة والخدمة.
يقول القدّيس إيريناوس إنّ "مجد الله هو الإنسان الحيّ". يوسف هو مثال الإنسان الحيّ بالله، الّذي لم يسع إلى مجد شخصيّ، بل صار مجده في أن يختفي ليظهر المسيح. لذلك تضعه الكنيسة أمامنا اليوم مثالًا لكلّ أب، ولكلّ خادم ومؤمن دعي إلى حمل المسيح في عالم مضطرب. ليس المطلوب دائمًا أن نتكلّم، بل أن نطيع، ولا أن نفهم كلّ شيء، بل أن نسلّم حياتنا لإعلان الله.
فلنتعلّم من يوسف الصّديق أن تكون حياتنا لا بحسب إنسان، بل بحسب مشيئة الله. ولنتعلّم أن نحمل المسيح في ظلمات هذا العالم، وأن نثق بأنّ الله، الّذي قاد الطّفل يسوع وأمّه ويوسف في طرق المنفى والعودة، هو نفسه يقود الكنيسة اليوم، وسيقود حياتنا، إذا سلّمناه ذواتنا بتواضع وإيمان وطاعة، آمين."
