لبنان
18 آب 2025, 05:55

عوده: لنجعل من حياتنا لحظات توبة دائمة

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده قدّاس الأحد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس في وسط بيروت.

بعد الإنجيل المقدّس، ألقى عوده عظة قال فيها: "يا أحبّة، المقطع الإنجيليّ الّذي سمعناه اليوم يضعنا أمام حقيقة إيمانيّة عميقة، وهي أنّ الإيمان الحيّ المقترن بالصّلاة والصّوم هو الطّريق الوحيد لبلوغ الخلاص والنّصر على قوى الشّرّ. سمعنا أنّ رجلًا جثا أمام يسوع قائلًا: "يا ربّ ارحم ابني، فإنّه يعذّب في رؤوس الأهلّة ويتألّم شديدًا... وقد قدّمته لتلاميذك فلم يستطيعوا أن يشفوه". هذه الكلمات تصوّر ضعف الطّبيعة البشريّة حينما تحاول مواجهة الشّرّ بقوّتها الذّاتيّة من دون الإتّكال الكلّيّ على نعمة الله.

أجاب يسوع: "أيّها الجيل غير المؤمن الأعوج، إلى متى أكون معكم؟ حتّى متى أحتملكم؟" هذا ليس مجرّد توبيخ قاس بل تأكيد أنّ عدم الإيمان يعطّل عمل النّعمة فينا. يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ: "إنّ الرّبّ هنا لا يوبّخ الأب وحده ولا التّلاميذ وحدهم، بل الجيل بأسره، لأنّ حالة عدم الإيمان كانت عامّةً، ولأنّ الجذور الرّوحيّة للضّعف هي في قلب الإنسان الّذي لم يسلّم ذاته بعد بكاملها لله". هذا التّوبيخ الإلهيّ هو دعوة إلى التّوبة والرّجوع إلى الله، لا إلى اليأس، لأنّ المسيح لم يترك الرّجل بل شفى ابنه حالًا بكلمة.

عجز التّلاميذ عن إخراج الشّيطان يدفع إلى التّساؤل: لماذا فشلوا؟ ألم يعطهم يسوع سلطانًا على الأرواح النّجسة؟ نعم أعطاهم، لكنّ السّلطان الّذي يمنحه المسيح لا يعمل آليًّا، ولا يستمرّ إن لم يحي الإنسان في شركة مع الله. يقول القدّيس كيرلّس الأورشليميّ: "إنّ نعمة الله تظلّ فينا ما دمنا متمسّكين بالإيمان الحارّ. إن تراخينا وتشتّت قلبنا تصبح النّعمة فينا كالنّار الّتي خمد جمرها لغياب الوقود".

عندما سأل التّلاميذ الرّبّ على انفراد "لماذا لم نستطع أن نخرجه" أجابهم: "لعدم إيمانكم. فإنّي الحقّ أقول لكم لو كان لكم إيمان مثل حبّة الخردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من ههنا إلى هناك فينتقل ولا يتعذّر عليكم شيء". الإيمان هنا ليس اقتناعًا عقليًّا بقدرة الله، بل تسليم كامل وثقة مطلقة، إيمان حيّ ينفتح به القلب على عمل الله غير المحدود.

يذكّرنا تشبيه الإيمان بحبّة الخردل، وهي أصغر البذور، بأنّ الله لا يطلب منّا إيمانًا عظيمًا في حجمه، بل إيمانًا صادقًا في نوعيّته، يحوي بذار حياة ونموّ داخله. يقول المغبوط أغسطينوس: "إنّ الإيمان الصّادق ولو كان صغيرًا يستطيع أن ينمو بقوّة كلمة الله والصّلاة، فيصنع عجائب، لأنّ القوّة ليست في حجم الإيمان، بل في من نؤمن به، أي في الله نفسه". فإن كان الله معنا فأيّ عائق لا يمكننا نقله؟

أضاف يسوع: "أمّا هذا الجنس فلا يخرج إلّا بالصّلاة والصّوم". هنا، يكشف لنا الرّبّ سرّ الحياة الرّوحيّة الفاعلة. فالصّلاة هي اتّحاد النّفس بالله، والصّوم هو كبح الشّهوات وضبط الجسد ليخضع للرّوح. يعلّمنا القدّيس باسيليوس الكبير أنّ الصّلاة من دون صوم قد تفقد قوّتها لأنّ الأهواء الجسديّة تبقى مسيطرةً على القلب، والصّوم من دون صلاة يصبح مجرّد حرمان جسديّ لا ينفع النّفس. إنّ الجمع بين الصّلاة والصّوم يحرّر الإنسان من سلطان الشّرّ، لأنّهما معًا يفتحان القلب للنّعمة الإلهيّة، ويجعلان النّفس مسكنًا للرّوح القدس. الشّيطان لا يخاف من كلماتنا ولا من مظاهرنا، بل يرتعب حين يرى إنسانًا مملوءًا من نعمة الله، متّحدًا به بالصّلاة، ميتًا عن شهواته بالصّوم.

ليست مصادفةً أنّ هذا الحدث يأتي بعد التّجلّي مباشرةً. فبعدما كشف المسيح مجده الإلهيّ لتلاميذه على الجبل، يواجههم في السّفح بواقع الشّرّ المتأصّل في العالم، كأنّه يقول لنا إنّ التّأمّل في مجده يجب أن يقترن بالنّزول إلى معترك الحياة الرّوحيّة والجهاد ضدّ قوى الظّلمة. الحياة المسيحيّة ليست هروبًا إلى الجبل فقط، وليست صلاةً مستمرّةً وحسب، بل نزول لخدمة المتألّمين، مستمدّين قوّتنا من نور المسيح. المسيحيّة تمرّد على الشرّ ورفض لاستعباد الإنسان وقمعه أو تجويعه أو قتله. المسيحيّة محبّة ورحمة وبذل وجهاد من أجل خير الآخر، أيّ آخر.

يتابع الإنجيل أنّ يسوع جمع تلاميذه في الجليل وقال لهم إنّ ابن الإنسان سيسلّم إلى الموت وفي اليوم الثّالث يقوم. هنا، يربط الرّبّ بين معجزة التّحرير من الشّيطان وبين الصّليب والقيامة، لأنّ النّصر النّهائيّ على الشّرّ والموت لا يتحقّق إلّا بآلامه وقيامته. يقول القدّيس أثناسيوس الكبير: "إنّ المسيح لم يأت ليعلّمنا كلمات بركة فقط، بل ليحطّم رأس الحيّة بالصّليب. وكلّ شفاء يفعله وروح نجس يطرده، إنّما هو إعلان مسبق لانتصاره النّهائيّ على الصّليب، حيث جرّد الشّيطان من سلطانه".

يا أحبّة، نقف اليوم أمام دعوة واضحة لأن نعود إلى الإيمان الحيّ الّذي لا يعتمد على ذواتنا بل على الله، وأن نتسلّح بالصّلاة والصّوم كسلاحين روحيّين لا غنًى عنهما. في عالمنا المعاصر قد لا نرى الشّيطان بأشكال صرع واضحة كما في الإنجيل، لكنّنا نرى آثاره في الحروب والانقسامات والكراهيّة واليأس والإدمان وحرمان النّاس من أدنى حقوقهم، كما نراه في كلّ قيد يستعبد الإنسان. هذه القيود لا تكسر بقوّة بشريّة، أو بسلاح متطوّر أو بذكاء اصطناعيّ، بل بالنّعمة الّتي تستجلب بالإيمان الحيّ والصّلاة الحارّة والصّوم الصّادق والقلب اللّحميّ الّذي يأبى رؤية طفل يجوّع، أو إنسان يشرّد أو يقتل، أو شعب يظلم، أو دولة تفكّك. يقول بولس الرّسول: "لا يغلبنّك الشّرّ بل أغلب الشّرّ بالخير" (رو12: 21). أمّا في سفر إرمياء النّبيّ فنقرأ: "هكذا قال الرّبّ: أجروا حقًّا وعدلًا وأنقذوا المغصوب من يد الظّالم، والغريب واليتيم والأرملة لا تضطهدوا، ولا تظلموا ولا تسفكوا دمًا زكيًّا" ( إر22: 3).

دعوتنا اليوم أن نصرخ: "أؤمن يا ربّ، فأعن عدم إيماني" (مر 9: 24)، ولنجعل من حياتنا لحظات توبة دائمة، فنكون من الجيل الجديد الّذي يمجّد الله بالإيمان العامل بالمحبّة، فيسكن المسيح فينا ويظهر مجده من خلال ضعفنا، آمين."