لبنان
04 كانون الثاني 2021, 06:55

عوده: ما أبعد حكّامنا عن الحقّ والرّحمة والتّواضع!

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده، قدّاس الأحد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس في بيروت، وألقى عظة قال فيها:

"عيّدنا الأسبوع الماضي لميلاد ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح بالجسد، كما عيّدنا منذ يومين لختانته، وفي كلا العيدين ظهر لنا جليًّا تواضع إلهنا العظيم، ومحبّته للبشر الّتي تفوق كلّ وصف. وسوف نعيّد بعد أيّام قليلة للظّهور الإلهيّ، أيّ لمعموديّة الرّبّ على يد يوحنّا المعمدان، وهذا أيضًا فعل تواضع عظيم، لأنّنا سمعنا في إنجيل اليوم: كان يوحنّا يعمّد في البرّيّة ويكرز بمعموديّة التّوبة لغفران الخطايا، وكان يخرج إليه جميع أهل بلد اليهوديّة وأورشليم فيعتمدون جميعهم منه في نهر الأردنّ معترفين بخطاياهم. يوحنّا المعمدان، السّابق لمجيء المسيح، كان مثال التّواضع والمحبّة، هو الذي اختار العيش في البرّيّة حيث حضور الله وحده دون البشر. وفي عزلته وشظف العيش كان ممتلئًا بالله، منصرفًا إلى التّأمّل والتّهيّؤ لرسالته، وكان يكرز مناديًا الشّعب إلى التّوبة وممارسة الفضائل، ومعمّدًا إيّاهم بالماء، قائلاً لهم إنّ من سيأتي بعده سيعمّدهم بالرّوح القدس. وكان النّاس يخرجون إليه من أورشليم وجميع اليهوديّة وكلّ الأرجاء المحيطة بالأردنّ ليعمّدهم في نهر الأردنّ معترفين بخطاياهم. وعندما سئل هل هو النّبيّ أو المسيح أجاب بتواضع: أنا صوت صارخ في البرّيّة قوّموا طريق الرّبّ (يو 1: 23)".

يوحنّا المعمدان شهد للمسيح قائلاً: يأتي بعدي من هو أقوى منّي وأنا لا أستحقّ أن أنحني وأحلّ سير حذائه. أنا عمّدتكم بالماء وأمّا هو فيعمّدكم بالرّوح القدس. أمّا المسيح، الإله الكلمة المتجسّد، فقد جاء هو أيضًا، بتواضع عظيم، إلى يوحنّا ليعتمد وللوقت صعد من الماء وإذا السّماوات قد انفتحت له فرأى روح الله نازلاً مثل حمامة وآتيًا عليه، وصوت من السّماوات قائلاً: هذا هو ابني الحبيب الّذي به سررت (متّى 3: 16-17). هل يحتاج الإله القويّ أن يعتمد معموديّة توبة، هو البريء من الخطأ وحده؟ طبعًا لا، إلّا أنّه تنازل واتّضع بمحبّة من أجل أن يعلّمنا كيف نتواضع ونحبّ.

يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ: جاء السّيّد مع العبيد، القاضي مع المحكوم عليهم، لكي يعتمد. مع ذلك، أقول لك لا تضطرب: فيما بين هؤلاء الوضعاء يسطع سموّه. إقتبل أن يحبل به في أحشاء العذراء، وأن يولد منها بجسد طبيعتنا البشريّة، وأن يضرب، وأن يصلب، وأن يكابد الآلام كلّها. إذًا، لماذا تتعجّب إذ تراه يقتبل المعموديّة ويأتي مع الآخرين متّجهًا نحو عبده؟ المذهل في الأمر هو الآتي: يريد أن يصير إنسانًا بينما هو الله. لذلك بالضّبط كان يوحنّا يقول مسبقًا: إنّي لست أهلاً أن أحلّ سير حذائه، لذا، عندما تراه آتيًا إلى المعموديّة، لا يقربن فكرك شكّ البساطة... كان كثيرون يعتبرون يوحنّا أهمّ من المسيح، لأنّه عاش مدّة طويلة في البرّيّة، وكان ابن رئيس كهنة، ويرتدي لباسًا تقشّفيًا خاصًّا، ويدعو الكلّ إلى المعموديّة، وقد ولد من عاقر. بينما المسيح أتى من فتاة غير معروفة، ولم يكن مولده البتوليّ معروفًا بعد، وقد نشأ في بيت بسيط، وكان يعاشر الجميع، ويلبس اللّباس العامّ، لذلك كان يعتبر أقلّ من يوحنّا. لم يكن الشّعب يعرف شيئًا عن ميزاته الفائقة الوصف بعد. وجاء اعتماده على يد يوحنّا داعمًا لهذا الاعتقاد غير الصّحيح. رأوه واحدًا من كثيرين أتوا إلى المعموديّة، وهو أكبر من يوحنّا بكثير، وأعجب منه بكثير.

أتى الرّبّ يسوع إلى المعموديّة لكي يتمّم النّاموس، مثلما فعل في الختانة. علّمنا أنّ في التّواضع الرّفعة، لذلك كان يحدث ظهور إلهيّ في كلّ عمل خلاصيّ يتمّمه المسيح يسوع، كالتّجسّد والمعموديّة والتّجلّي والصّلب... وقد شاء الرّبّ أن يعلّمنا أنّ كلّ أمر يتمّ بتواضع يظهر الله للجميع، فقال لنا في الإنجيل بحسب متّى: تعلّموا منّي، لأنّي وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم (11: 29). لقد طبّق المسيح نفسه ما نقرأه في سفر يشوع بن سيراخ القائل: إزدد تواضعًا ما ازددت عظمة فتنال حظوة لدى الرّبّ (3: 20)، فهل من يتعلّم منه ويطبّق من زعماء الأرض؟ كلّ ما يصيب أرضنا اليوم سببه الكبرياء أمّ الخطايا. الحروب حيث البقاء للأقوى، والاعتداد بالأسلحة من نوويّة وعابرة للقارّات وسواها من أدوات القتل، التّمسّك بالكراسي والعروش، المناكفات والمصالح الخاصّة... وغير ذلك من المساوىء الّتي يقترفها الزّعماء والسّياسيّون، كلّها سببها غياب التّواضع. نقرأ في عدّة أماكن من الكتاب المقدّس: تسربلوا بالتّواضع لأنّ الله يقاوم المستكبرين، أمّا المتواضعون فيعطيهم نعمة (1بط 5: 5؛ أم 3: 34؛ يع 4: 6)، كما نقرأ في سفر يشوع بن سيراخ: ربّ انحطاط سببه المجد، وربّ تواضع يرفع به الرّأس" (20: 11).

عندما تشامخ آدم وحوّاء ورثا الموت، وهذا ما يحدث حاليًّا مع بني البشر، وخصوصًا في بلدنا. إلّا أنّ الشّعب في لبنان هو الّذي يموت بسبب كبرياء مسؤوليه، وعدم قبولهم بحوار بنّاء قائم على الحكمة والنّضج والمحبّة والتّسامح وقبول الآخر. الكبرياء معشّشة في قلوب المسؤولين وعقولهم، وبسببها يتقاتلون ويعرقلون، والضّحيّة واحدة، هي الشّعب المسكين الّذي منه من انتقل من هذه الحياة الوقتيّة، ومنه من افتقر أو صار تحت خطّ الفقر، ومنه من هاجر ليرتاح من طبقة سياسيّة تتحكّم بمصيره، ومن بقي يتألّم ويعاني ويجاهد من أجل البقاء في بلد يحبّه لكنّه لا يلقى فيه أدنى مقوّمات الحياة. الإنحطاط الّذي وصلنا إليه سببه سعي مسؤولينا إلى مجد باطل، لو تخلّوا عنه لكان بلدنا في طليعة دول العالم. يقول النّبيّ ميخا: قد أخبرك أيّها الإنسان ما هو صالح، وماذا يطلبه منك الرّبّ، إلّا أن تصنع الحقّ وتحبّ الرّحمة وتسلك متواضعًا مع إلهك (6: 8). ما أبعد حكّامنا عن الحقّ والرّحمة والتّواضع، التّي إن سادت في الحكم لخرجنا من الهوّة الّتي نحن قابعون فيها.

دعوتنا في هذا الزّمن المبارك، إلى أن نتعلّم من الرّبّ يسوع كيفيّة السّلوك كمسيحيّين، كأبناء حقيقيّين لله الآب. دعوتنا أن نتّضع ونحبّ، ونبثّ المحبّة والسّلام والحقّ والعدل حولنا. لا تنجرّوا وراء غريزة البقاء الّتي يتاجر بها الزّعماء من زاوية طائفيّة، لأنّها نابعة من الكبرياء. البقاء هو للجميع، ولا أحد يجب أن يموت أو يتأذّى ليبقى الآخر. لا تتعلّموا من الفاسدين، بل كونوا الملح الّذي يصلح ما أفسده الفاسدون. بارككم الله، وظهر من خلال حياتكم لينير المسكونة بأسرها. كونوا أدوات صالحة يستخدمها الرّبّ من أجل الصّلاح، فيعمّ السّلام وننعم بالرّاحة والفرح ونصل إلى الخلاص المنشود".