لبنان
05 تشرين الأول 2020, 05:55

عوده: ما نعيشه في لبنان حاليًا ينذر بالأسوأ والرّحمة غادرت إلى غير رجعة

تيلي لوميار/ نورسات
تساءل متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده، خلال عظة قدّاس الأحد الّذي ترأّسه في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس- وسط بيروت، عن الرّحمة في قلوب الزّعماء في لبنان، بخاصّة المسيحيّين بينهم، و"هل هناك نيّة حقيقيّة للعمل والإنقاذ والإصلاح الحقيقيّ؟ وهل يعملون عند ربّ عمل واحد اسمه لبنان أم هناك من هو أغلى وأكبر وأهمّ؟"، فقال:

"يا أحبّة، يرسم لنا ربّنا يسوع المسيح، في إنجيل اليوم، الطّريق الّذي يجب على كلّ مسيحيّ أن يسلكه. لقد عرفت البشريّة منذ نشأتها قوانين وتشريعات حاولت قمع الإنسان عبر ترهيبه، إلّا أنّ ربّنا تحدّث هنا عن الإنسان الّذي اتّخذ المحبّة ناموسًا له، أيّ تبع المسيح وصار به خليقةً جديدة. "المحبّة من الله. فكلّ من يحبّ هو مولود من الله ويعرف الله، ومن لا يحبّ فإنّه لا يعرف الله لأنّ الله محبّة" (1يو4: 7 – 8). يقول الرّسول بولس: "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة: الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكلّ قد صار جديدًا" (2كو 5: 17).

يقول الرّبّ، في إنجيل اليوم، لمن اختاروا أن يتبعوه: "كما تريدون أن يفعل النّاس بكم، كذلك افعلوا أنتم بهم" (لو 6: 31). لقد وضع الرّبّ هنا الأنا البشريّة أمام امتحان صعب. هل يشاء أحد من البشر أن يساء إليه؟ أو أن يضرب أو يقتل أو يجوّع أو يعرّى؟ فإذا كنّا لا نقبل بالسّوء لأنفسنا، كيف نقبله للآخر المخلوق مثلنا تمامًا على الصّورة والمثال الإلهيّين؟ غالبًا ما يكون عذر البشر "لسنا المسيح ولا قدّيسين لكي نكون مثاليّين هكذا". ينسى أولئك أنّهم خلقوا مفطورين على المحبّة، لأنّهم على صورة الله ومثاله، تلك المحبّة الّتي يقول عنها بولس الرّسول إنّها "تتأنّى وترفق، لا تحسد، لا تتفاخر، لا تنتفخ، لا تقبّح، لا تطلب ما لنفسها، لا تحتدّ، لا تظنّ السّوء، لا تفرح بالإثم بل تفرح بالحقّ، تحتمل وتصدّق وترجو كلّ شيء، تصبر على كلّ شيء" (1كو 13: 4-7).

لا حياة للمسيحيّ خارج المسيح، لذلك فإنّ كلّ ما نقوم به يجب أن يكون مؤسّسًا على صخرة المسيح. يقول الرّسول بولس: "لأنّ لي الحياة هي المسيح، والموت هو ربح لي" (في 1: 21)، أيّ "لا شيء يفصلني عن محبّة المسيح، لا شدّة، ولا ضيق، ولا اضطهاد، ولا جوع، ولا عري، ولا خطر، ولا سيف" (رو8: 35). المسيحيّ يواجه كلّ ما يصادفه من تجارب، المسيحيّ متشبّث بالمسيح، لأنّ الّذي يفقد المسيح من حياته، يفقد إيمانه ورجاءه ومحبّته، ويصبح إمّا شبيهًا بالوحوش المفترسة، أو ييأس ويفضّل إنهاء حياته بيده. فالأنا، إذا جوبهت بالوحشيّة ذاتها الّتي تواجه الآخرين بها، عندئذ يسود منطق الغاب، وتندلع الحروب، لأنّها لن ترضى بأن تذوق طعم الأذى الّذي تذيقه للآخرين.

يتابع الرّبّ قائلاً: "فإنّكم إن أحببتم الّذين يحبّونكم فأيّة منّة لكم؟ فإنّ الخطأة أيضًا يحبّون الّذين يحبّونهم. وإذا أحسنتم إلى الّذين يحسنون إليكم فأيّة منّة لكم؟ فإنّ الخطأة أيضًا هكذا يصنعون. وإن أقرضتم الّذين ترجون أن تستوفوا منهم فأيّة منّة لكم؟ فإنّ الخطأة أيضًا يقرضون الخطأة لكي يستوفوا منهم المثل". ما يميّز المسيحيّ عن سواه أنه محبّ على صورة خالقه. المسيح يريدنا أن نكون منارات تضيء ظلمة هذا الدّهر، لا أن نكون أصحاب مصالح، وعندما تنتهي المصلحة ننسى إخوتنا ونبحث عمّن يؤمّن مصالحنا الأخرى. الخطأة يحبّون ويحسنون ويقرضون من لديهم مصلحة معه، أمّا المسيحيّ فلا يمكن لمحبّته إلّا أن تكون صادقةً تجاه الجميع، بلا تفرقة. لذلك، يوصينا المسيح اليوم بما يصدم العالم، وبشر هذا العالم. في مجتمعنا الحاليّ العلاقات البشريّة الصّادقة أصبحت نادرةً لا بل معدومةً، لأنّها لم تعد مؤسّسةً على الإيمان بالمسيح ومحبّته. ما يريده ربّنا منّا هو أن نحقّق قوله: "أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، وأحسنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا لأجل الّذين يضطهدونكم... فيكون أجركم عظيمًا وتكونوا بني العليّ؛ فإنّه منعم على غير الشّاكرين والأشرار، فكونوا رحماء كما أنّ أباكم رحيم".

يقول الرّبّ على لسان النّبيّ هوشع: "أريد رحمةً لا ذبيحة" (6: 6)، إذ إنّ الرّحمة تعبّر عن المحبّة الصّادقة، كمحبّة الأمّ لأولادها الخارجين من رحمها، مع ذلك تبقى محبّة الرّبّ لخليقته أعظم: "هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتّى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساك" (إش 49: 15).

إنجيل اليوم، دينونة لكلّ من يدّعي المسيحيّة ولا يرحم أخاه الإنسان. لا بدّ هنا من التّساؤل أين نحن من الرّحمة في لبنان؟ أين الزّعماء في بلدنا منها، المسيحيّون منهم خصوصًا؟ أين الرّحمة في قلوب ترفض سماع الأنين المتصاعد من نفوس المواطنين وقلوبهم وأجسادهم؟ الغلاء الفاحش أدخل المواطنين في يأس مظلم. حالات الانتحار تتزايد بين صفوف الشّباب الّذين لا يرون مستقبلاً أمامهم. أين الرّحمة والمستشفيات تئنّ بسبب انقطاع المعدّات اللّازمة والأدوية الّتي لا يستغنى عنها لمتابعة عمل الرّحمة؟ أين الرّحمة وأهل الأحياء المنكوبة لم يعودوا إلى منازلهم بعد، والشّتاء يطرق أبوابهم المخلّعة وسقوفهم المكشوفة؟ أين الرّحمة والبطالة مستشرية وكلّ القطاعات مهدّدة بأشباح الإفلاس والإقفال؟ أين الرّحمة في دولة مهترئة لم يعد فيها سوى بضعة كراس يتشبّث بها الجالسون عليها، يتحكّمون بمن بقي في أرض الوطن، إن بسبب الفقر أو لأنّهم عازمون على البقاء في أرض آبائهم وأجدادهم.

أهكذا يكون الحرص على حقوق المسيحيّين كما يدّعي البعض، أو على حقوق المواطنين عامّةً؟ أليس عيب أن نميّز بين مواطن وآخر وندّعي حماية مواطن على حساب مواطن آخر؟ أليس واجب المسؤول العمل الدّؤوب من أجل كلّ المواطنين؟ أليست العدالة والمساواة سمة الدّولة الّتي يحكمها القانون، والقانون وحده؟ المسؤول الحقيقيّ لا ينام إن كان مواطن في بلده يتألّم. فكيف ينامون والبلد يحتضر، والاقتصاد قد انهار، واللّيرة فقدت قيمتها، والهجرة تضاعفت، والبؤس عمّ.

وما يؤرقني أنّ معظم المواطنين لم يتمكّنوا من ترميم منازلهم بعد، والشّتاء قادم. فمن يحمي هؤلاء المواطنين، ومن يحمي التّراث العمرانيّ والمنازل الأثريّة، وجمالات فنّ العمارة؟ لقد دمّرت أحياء ذات طابع تراثيّ، وسفكت أحلام شاغليها. هذه الأحياء تختزن ذاكرة بيروت. لقد قاومت الحروب وصمدت في وجه محاولات هدمها أو احتلالها أو شرائها وتغيير معالمها، وواجهت الأعاصير بقوّة إيمان أبنائها ولم تستسلم. لكنّ الإهمال وعدم المسؤوليّة وكلّ الأسباب المعروفة وغير المعروفة الّتي أدّت إلى انفجار 4 آب فجّرتها رغمًا عنها، فاختلطت أشلاؤها بأشلاء أبناء الأشرفيّة والرّميل والجمّيزة والمناطق المحيطة بالمرفأ، وحتّى اليوم لم يعرف أهلها نتيجة التّحقيق، واللّبنانيّون في حزن وألم وغضب، ولم يبرّد غضبهم اهتمام من دولتهم واحتضان من مسؤوليها. يتساءل البعض هل هناك من تحقيق؟ هل تعلمون أنّ هذا الانفجار هو الثّالث على مثال ما حدث في هيروشيما ونكازاكي؟ وبعد 4 آب ما عدنا سمعنا عن أيّ تحقيق على مستوى هذا الانفجار والنّاس تنتظر لأنّ هذا الحدث يجعلك في أرق دائم وخوف. فهل الهدف إلغاء ذاكرة بيروت وتشريد أهلها؟

الخبراء وذوو الاختصاص وبعض المثقّفين يولون التّراث الحضاريّ والموروث الثّقافي اهتمامًا بالغًا. والغرب يحافظ على أبنيته التّراثيّة ويصونها لأنّها ذاكرة الوطن. عماراتنا تحوّلت إلى أشباح بنايات، وأحياؤنا إلى خرائب، ومواطنونا إلى طالبي هجرة، ومن في يدهم السّلطة يضيّعون الوقت في خلافاتهم العقيمة، ومطالبهم التّعجيزيّة، والتّمسّك بمكتسباتهم ومصالحهم على حساب الوطن وأبنائه. ما يدفعنا إلى السّؤال: هل هناك نيّة حقيقيّة للعمل والإنقاذ والإصلاح الحقيقيّ؟ وهل يعملون عند ربّ عمل واحد اسمه لبنان أم هناك من هو أغلى وأكبر وأهمّ؟

نعود إلى المحبّة الّتي هي الفضيلة العظمى وأمّ كلّ الفضائل، منها ينبع التّفاني والتّضحية والتّواضع والعطاء. نقول في القدّاس الإلهيّ: "رحمة سلام، ذبيحة تسبيح"، مشيرين إلى التّقدمة الّتي يشاؤها الرّبّ. إنّه يريد الرّحمة والسّلام. "أريد رحمةً لا ذبيحةً". لا يعقل أن تقدّم ذبيحة تمجيد لله قبل أن نقدّم ذبيحة محبّتنا. وكما يكتب القدّيس باسيليوس الكبير، فالغاية الوحيدة من تقديم الذّبائح هي الرّحمة والمحبّة. والذّبيحة المقدّمة بمحبّة هي ذبيحة مرضيّة عند الله. إنّها ذبيحة تمجّد محبّته وتسبّحها، إذًا هي "ذبيحة تسبيح". هذه الذّبيحة يطلبها الله منّا من خلال مرنّم المزامير: "اذبح لك حمدًا"، أيّ ذبيحةً شكريّةً. ما يقصده النّبيّ داود في المزامير أن تعيش على نحو يتمجّد فيه الرّبّ. لا يريد الرّبّ الاقتتال والتّخوين ورمي بذور الفتنة والحرب. ما نعيشه في لبنان حاليًّا ينذر بالأسوأ، لأنّ المحبّة لم تعد تسكن القلوب، والرّحمة غادرت إلى غير رجعة. الكلّ أذنبوا بحقّ هذا البلد الحبيب النّازف، ولا يزالون جميعًا يحومون حول الجثّة ليتقاسموها. سلّموا لبنان الجريح إلى من يستطيع تضميد جراحه، ولا تنتحلوا صفة الجرّاح لأنّكم تزيدون الجروح التهابًا. إرحموا لبنان وشعبه الصّامد، يرحمكم الله.

اليوم، دعوتنا إلى المسؤولين أن يتعرّفوا على الرّحمة كي يرحمهم الله العلّي ومنه الشّعب والتّاريخ فيما بعد. بارككم الرّبّ، وزرع في قلوبكم المحبّة الحقيقيّة، حتّى يعود الأمل إلى كلّ النّفوس المكسورة والقلوب الحزينة واليائسة، آمين."