لبنان
18 أيلول 2023, 05:55

عوده: من يتولّون قيادة هذا البلد لا يدركون أنّ ما راكموه من ثرواتٍ وألقابٍ ومراكز وممتلكاتٍ باقية على الأرض

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده خدمة القدّاس الإلهيّ في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس.

بعد قراءة الإنجيل المقدّس، ألقى عوده عظة قال فيها: "أحبّائي، سمعنا في إنجيل هذا الأحد الّذي يلي عيد رفع الصّليب الكريم المحيي، مقطعًا من إنجيل مرقس يدعونا فيه الرّبّ يسوع إلى اتّباعه، كما يحذّرنا من عواقب الخجل منه أو من تعاليمه في هذا العالم الخاطئ.

نلاحظ أنّ هذا المقطع الإنجيليّ يقع في الإصحاح نفسه الّذي يروي معجزة تكثير الخبز والسّمك وإطعام أربعة آلافٍ كانوا يتبعون الرّبّ يسوع، الّذي يشير إلى عدم قدرة التّلاميذ على فهمه أو قبوله، ليصل إلى دعوة الجموع والتّلاميذ لاتّباعه.

اللّافت أنّ الرّبّ طلب من تلاميذه أوّلًا أن يطعموا الجموع، لكنّهم لم يقدروا أن ينفّذوا طلبه. كذلك، لم يستطع التّلاميذ أن يفهموا تلميحات الرّبّ يسوع حول تعليم الفرّيسيّين والهيرودسيّين عندما "أوصاهم قائلًا: أنظروا وتحرّزوا من خمير الفرّيسيّين والهيرودسيّين. ففكّروا قائلين بعضهم لبعضٍ: ليس عندنا خبز. فعلم يسوع وقال لهم: لماذا تفكّرون أن ليس عندكم خبز؟ ألا تشعرون بعد ولا تفهمون؟ أحتّى الآن قلوبكم غليظة؟ ألكم أعين ولا تبصرون ولكم آذان ولا تسمعون ولا تذكرون؟ كيف لا تفهمون؟" (مر 8: 15-21).  

لم يقف الأمر عند حدّ عدم فهم التّلاميذ لتعاليم معلّمهم، لكنّهم لم يقبلوا أيضًا ما قاله عن نفسه، رغم شفائه الأعمى أمامهم (8: 22-26) حيث "ابتدأ يعلّمهم أنّ ابن الإنسان ينبغي أن يتألّم كثيرًا ويرفض من الشّيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتل وبعد ثلاثة أيّامٍ يقوم. وقال القول علانيّةً. فأخذه بطرس إليه وابتدأ ينتهره. فالتفت وأبصر تلاميذه فانتهر بطرس قائلًا: إذهب عنّي يا شيطان، لأنّك لا تهتمّ بما لله لكن بما للنّاس" (8: 31-33).

كان يفترض بالتّلاميذ أن يفهموا تعاليم الرّبّ، لأنّهم كانوا معه في كلّ حين، وقد أعطي لهم أن يعرفوا سرّ ملكوت الله (4: 11)، على عكس الّذين عرفوه من الخارج، الّذين قال لهم كلّ شيءٍ بأمثالٍ "لكي يبصروا مبصرين ولا ينظروا، ويسمعوا سامعين ولا يفهموا" (4: 12). هذا يعني أنّ كلّ تلميذٍ تابعٍ للرّبّ يسوع لا يكون تلميذًا حقيقيًّا إذا لم يقبله كما هو، أي كابن الإنسان الّذي ينبغي أن يتألّم ويرفض من الشّيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتل، وبعد ثلاثة أيّامٍ يقوم (8: 31؛ 9: 31؛ 10: 33-34)، لا بل يصبح من "الّذين هم من الخارج" له عينان ولا يبصر، وله أذنان ولا يسمع.

إلّا أنّ الأمر لا يقف عند حدود فهم تعاليم الرّبّ يسوع وقبوله. هنا، نصل إلى الرّسالة الّتي يسلّمنا إيّاها الرّبّ في إنجيل اليوم. المطلوب هو اتّباع الرّبّ يسوع، أيّ السّير في الطّريق الّذي سلكه هو، طريق الآلام والصّلب والموت وصولًا إلى القيامة البهيّة. يقول الرّب لكلٍّ منّا: "من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني" (8: 34). ليس هناك سبيل آخر، وهذا الأمر لا يمكن أن يحقّقه التّلميذ الحقيقيّ في الخفاء، بعيدًا عن نظر النّاس المحيطين به، بل عليه أن يظهره أمام الجميع، وألّا يستحي بما يفعله، رغم كلام النّاس عليه.  

في هذا العالم، يسعى الإنسان إلى تحقيق ذاته لا إلى نكرانها. واتّباع الرّبّ يسوع بهذه الطّريقة يكون فعلًا نافرًا أمام عيون "هذا الجيل الفاسق الخاطئ" (8: 38). لكنّ الرّبّ يسوع يخبرنا أنّ عواقب وخيمةً تنتج عن الخجل بالمجاهرة بصليب المسيح والإيمان به. هذا ما يعاني منه مجتمع اليوم الّذي يخفي هويّته وإيمانه طمعًا بحفنةٍ من المال، أو سلّةٍ من المصالح الضّيّقة، وينسى المسيح القائل: "من يستحي بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسق الخاطئ فإنّ ابن الإنسان يستحي به متى جاء بمجد أبيه مع الملائكة القدّيسين" (8: 38).

مسيحيّون كثيرون يفضّلون العيش بهناءٍ من دون ألم. هذا موقف إنسانيّ طبيعيّ، إذ لا أحد يختار أن يتألّم. إلّا أنّ المسيح قال لنا إنّنا من العالم، لكنّنا في الوقت نفسه لسنا من العالم، لهذا فالمسيحيّ الحقيقيّ لا يهرب من الألم، من حمل الصّليب، بل يستفيد منه من أجل خلاص نفسه وربح الملكوت. يقول أحد الآباء المعاصرين: "حبّذا لو لم نترك الألم يضيع هباءً. كلّ عنائنا وتأدّبنا سيذهبان هباءً إن لم نستفد من الألم ونستغلّه. لا شيء ينفع البشريّة مثل الألم، أيّ مثل المرض وفساد الجسد والموت أيضًا. لو لم توجد هذه كلّها لكنّا وحوشًا ضاريةً، ولكان المجتمع غابةً. لقد وجدت هذه كلّها لتجعلنا نهدأ ويتعاطف واحدنا مع الآخر. المسيحيّ يقدر أن يستفيد من الألم بحيث يكون بشكلٍ متواصلٍ في الفردوس".

يا أحبّة، نحن شعب اعتاد حمل صليبٍ عظيمٍ في بلدٍ اختصاص مسؤوليه هو إثقال كاهل الشّعب بدلًا من تأمين الحياة الكريمة والآمنة له. منذ عقودٍ يحمل شعبنا الصّليب تلو الآخر، ولم يشهد قيامةً بعد. الحروب والاغتيالات والتّفجيرات، وآخرها تفجير قلب بيروت، نهب الأموال وتدمير الاقتصاد والتّربية والقطاع الاستشفائيّ وسائر القطاعات الحيويّة، كلّها يتحمّلها الشّعب وما من خطّة إنقاذٍ تنهض ببلدٍ منكوبٍ وشعبٍ أرهق تحت ثقل خطايا مسؤوليه وزعمائه. أسلحة متفلّتة، حدود سائبة، سيادة مستباحة، دستور مداس، دولة بلا رأسٍ، مؤسّسات رديفة لمؤسّسات الدّولة، هل من بلدٍ في العالم يرتضي مثل هذا الوضع؟ هل يستحقّ اللّبنانيّ كلّ هذا؟ ربّما أخطأ شعبنا، كالعادة، في اختيار من يمثّله، كما يخطئ في عدم رفع الصّوت مطالبًا بمحاسبةٍ عادلةٍ وشفّافةٍ يصل من خلالها إلى قيامة وطنٍ يستحقّه أبناؤه. وقد يكون خطأه الأكبر أنّه تبع بشرًا غير أهلٍ للثّقة عوض اتّباع المسيح.

لكنّ من يتولّون قيادة هذا البلد يظنّون أنّ الشّعب باقٍ على خطئه وأنّهم باقون في مراكزهم، ولا يدركون أنّ المرض والموت ليسا بعيدين عن أحد، وأن ما راكموه من ثرواتٍ وألقابٍ ومراكز وممتلكاتٍ باقية على الأرض ولن تزيد لحظةً من عمرهم عندما تأتي السّاعة، وأنّهم لن يحملوا معهم سوى ما ارتكبت أيديهم من حسناتٍ ومن سيّئات، على أساسها يكونون من المختارين أو من المعذّبين ليس من الله بل من خطاياهم. فماذا ينفع الإنسان إن ربح العالم وكلّ مغرياته وخسر نفسه؟  

لذا دعوتنا اليوم هي إلى حمل صليبنا بفرحٍ، كلّ منّا على حسب القدرة الّتي منحه إيّاها الرّبّ، واتّباع من هو معطي الحياة، وأن نبشّر الجميع، بلا خجلٍ، بأنّ إلهنا غلب الموت والجحيم، وأنّ وراء الألم العظيم قيامة عظيمة.  

ألا بارك الرّبّ حياتكم، ومنحكم الصّبر على الآلام، وأوصلكم إلى بهجة القيامة المنتظرة، آمين".