لبنان
03 نيسان 2023, 05:55

عوده: نحن بحاجة إلى قادة لا إلى زعماء

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده خدمة القدّاس الإلهيّ في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس.

بعد قراءة الإنجيل المقدّس ألقى عودة عظة جاء فيها: "أحبّائي، هذا الأحد هو الأخير من الصّوم الأربعينيّ، نلج بعده ميدان الأسبوع العظيم المقدّس، الأحد المقبل، مع دخول الرّبّ يسوع إلى أورشليم ليتألّم ويصلب ويقوم في اليوم الثّالث.

لقد خصّصت كنيستنا المقدّسة هذا الأحد لتذكار القدّيسة البارّة مريم المصريّة، الّتي هجرت أهلها عندما كانت في الثّانية عشرة من عمرها، قاصدةً مدينة الإسكندريّة حيث عاشت سبع عشرة سنةً في الفجور والزّنى. هناك، علمت بأنّ سفينةً ستبحر نحو أورشليم، للاحتفال بعيد رفع الصّليب الكريم المحيي، فقرّرت أن تسافر على متنها، ليس بداعي التّوبة والسّجود للصّليب، بل سيرًا وراء شهواتها. إلّا أنّ الصّليب، وإن لم يكن هدف زيارتها إلى أورشليم، قد أوصلها إلى القيامة المنشودة وأصبحت مثالًا يحتذى للتّوبة الحقيقيّة ولعدم اليأس من رحمة الله. فحين وصلت إلى أورشليم حاولت الدّخول إلى كنيسة القيامة حيث الصّليب المقدّس، إلّا أنّ قوّةً خفيّةً منعتها من الدّخول. حاولت مرّات عديدةً ولم تنجح. أدركت أنّ ما جرى هو نتيجة خطاياها فجلست في زاوية قرب الكنيسة تبكي، مصلّيةً إلى والدة الإله، معاهدةً إيّاها بألّا تعود إلى الخطيئة إن أهّلتها للدّخول إلى الكنيسة والسّجود لصليب المسيح، وهكذا حصل إذ بعد دخولها إلى الكنيسة والسّجود للصّليب ذهبت إلى بادية الأردنّ وعاشت أربعين سنةً في الصّحراء وحيدةً تصلّي تائبةً، وقد بلغت مرتبةً نادرةً في النّقاوة حتّى أصبحت مثالاً للتّوبة.  

كثيرون يخطئون، لكنّهم يخجلون من السّير في طريق التّوبة والاعتراف، خشية أن يتركوا عن أنفسهم فكرةً سيّئة. إنّ هذا التّفكير يقع في خانة التّعلّل بعلل الخطايا (مز 141: 4)، لأنّ الكنيسة لا تدين الخاطئ بل الخطيئة، تمامًا كما فعل الرّبّ يسوع مع جميع الخطأة الّذين صادفهم وقرأنا عنهم في الإنجيل. الرّبّ يقبل كلّ خاطئ تائب، الأمر الّذي عاينّاه قبل الصّوم مع زكّا والابن الشّاطر والعشّار وغيرهم، وسنعاينه خلال الأسبوع العظيم، مع مريم المجدليّة الّتي غسلت قدميه ومسحتهما بشعر رأسها دلالةً على توبتها العظيمة بعد أن عاشت في الإنحلال الأخلاقيّ، أو مع الرّسول بطرس الّذي بكى بكاءً مرًّا بعدما أنكر المسيح ثلاثًا قبل صياح الدّيك، كما سبق أن أنبأ له المخلّص. أمّا يهوذا، الّذي لم يشأ أن يفهم أنّ التّوبة تنجّي من الموت، وتصل بالخاطئ إلى ميناء القيامة الآمن، فقد يئس وأنهى حياته بيده، إذ لم يتعرّف حقًّا على المسيح، مع أنّه عاش معه فترةً طويلةً من الزّمن. نقول اليوم في صلاة السّحر: "يا مريم الشّريفة المجيدة، إنّك كنت بدءًا متوحّلةً في أنواع أدناس الزّنى، وقد ظهرت اليوم بالتّوبة عروسًا للمسيح الإله لمّا ضارعت سيرة الملائكة، وبسلاح الصّليب لاشيت الشّياطين. لذلك ظهرت عروسًا للملكوت السّماويّ". إذًا، التّوبة هي تلك الدّموع المذروفة في سبيل غسل وحول الخطايا، والرّبّ الرّؤوف المتحنّن يقبل دموع التّوبة، ويحوّلها إلى لآلئ يزيّن بها إكليل المجد الّذي سيلبسه للتّائب في اليوم الأخير، كما يظهر جليًّا في سيرة قدّيستنا، كردّ على يأس الخطأة غير السّاعين إلى التّوبة، متذرّعين بأنّ المسيح قد لا يقبلهم بعد كلّ ما اجترموه من الخطايا.  

موضوع التّوبة مهمّ جدًّا وأساسيّ في الكنيسة، وتأتي الأصوام على مدار السّنة لتذكّرنا بذلك، خاصّةً الصّوم الموصل إلى الآلام الخلاصيّة والقيامة البهيّة اللّتين مرّ بهما الرّبّ لينقذنا من آثامنا. خلال الصّوم الكبير نرتّل: "إفتح لي أبواب التّوبة يا واهب الحياة..." و"سهّلي لي مناهج الخلاص يا والدة الإله، لأنّي قد دنّست نفسي بخطايا سمجة..."، أمّا التّرنيمة الثّالثة فهي تعبّر عن مدى خطيئة البشر ورحمة السّيّد فتقول: "إذا تصوّرت كثرة أفعالي الرّديئة أنا الشّقيّ، فإنّي أرتعد من يوم الدّينونة الرّهيب، لكنّي إذ أنا واثق بتحنّن إشفاقك، أهتف إليك مثل داود: إرحمني يا الله كعظيم رحمتك".  يأتي اليوم تذكار القدّيسة مريم المصريّة ليقرع لنا النّاقوس الأخير قبل الآلام والصّلب والقيامة، مذكّرًا إيّانا بوجوب الاستعداد لاستقبال الختن، عبر ارتداء لباس العرس البهيّ، المغسول بدموع التّوبة الّتي تحرق كلّ أوساخ الخطايا.

يا أحبّة، ليس إنسان منزّهًا عن الخطأ، إنّما هناك إنسان يخطئ وعندما يدرك عمق ما فعل يتوب، وهناك إنسان يخطئ ويمعن في الخطأ، غير آبه بنتائج أفعاله، غير سامع لصوت ضميره، غير مهتمّ بالأذى الّذي يسّبّبه. للأسف، يعجّ بلدنا بالصّنف الثّاني. زعماء وسياسيّون ونوّاب وحكّام لا يرون إلّا مصالحهم، ولا يعملون إلّا وفق انتماءاتهم. لا يخجلون ممّا أوصلوا البلد إليه. تطلق الاتّهامات بالصّفقات والتّجاوزات ولا يهتمّون. يتراشقون بشتّى التّهم. يتصارعون، يتشاتمون ولا يخجلون من استعمال لغة لا تليق لا بمسؤول ولا بنائب ولا بأيّ إنسان. لم يتخطّوا بعد الصّراعات الطّائفيّة والمناطقيّة والحزبيّة، ولا الأنا والأحقاد. يتلهّون بالخطابات والمماحكات عوض الانصراف إلى وقف التّدهور وبدء عمليّة الإصلاح، وكأنّ لا نيّة لديهم للإصلاح. حتّى انتخاب رئيس للبلاد عصيّ عليهم، وهو أبسط الواجبات، وأولى الخطوات الإنقاذيّة. هل خلا لبنان من شخصيّة قادرة على قيادة مسيرة الإنقاذ، يجتمع حولها العدد الكافي من النّوّاب؟ البلد كلّه معطّل. إداراته معطّلة، الموظّفون مضربون، مصالح النّاس معطّلة، مليارات اللّيرات تهدر ونستجدي المعونة. كيف لهم أن يعيشوا دون وخز ضمير وأن يناموا دون قلق؟؟ عوض بناء أمجادهم عليهم بناء دولة، وإنقاذ وطن، وإصلاح الإدارات والنّفسيّات. نحن بحاجة إلى قادة لا إلى زعماء. نحن بحاجة إلى مفكّرين رؤيويّين، إلى أصحاب قضيّة يدافعون عنها، لا إلى سياسيّين يتسلّون بالحكم وبالشّعب.    

دعوتنا اليوم هي إلى التّواضع والتّوبة والرّجوع إلى الرّبّ، حتّى نستأهل المشاركة في المائدة الفصحيّة، فنصرخ: "حقًّا قام الرّبّ، ونحن قمنا من موت خطايانا"، آمين."