عوده: نحن في زمنٍ يحتاج أمثال الأجداد الذين سبقونا
"باسم الآب والإبن والرّوح القدس، آمين.
أحبّائي، اليوم، في أحد الأجداد، تطالعنا الكلمة الإلهيّة الّتي تشرق علينا من إنجيل لوقا ومن رسالة الرّسول بولس إلى أهل كولوسي، فتكشف لنا معنى الدّعوة وعمق التّجدّد وخطر التّراخي وكرامة الإنسان الّذي يخلقه الله جديدًا في المسيح. الأجداد الّذين نحتفل بهم اليوم هم أولئك الّذين ساروا في مسيرة الإيمان منذ آدم إلى يوسف الخطيب، ومن هابيل الصّدّيق إلى زكريّا ويوحنّا. إنّهم رجالٌ ونساءٌ حملوا وعد الله في قلوبهم، وتمسّكوا بالدّعوة الإلهيّة رغم الظّلام المحيط بهم، فصاروا علاماتٍ مضيئةً تخترق الزّمن لتدلّنا إلى المسيح.
في إنجيل اليوم، يحدثنا الرّبّ يسوع عن «إنسانٍ صنع عشاءً عظيمًا ودعا كثيرين». الدّاعي هو الله نفسه، والعشاء العظيم هو ملكوته، ومائدة الخلاص والشّركة معه، الّتي تبدأ منذ الآن وتكتمل في الدّهر الآتي. الدّعوة موجّهةٌ إلى الجميع، لا تمييز فيها ولا حدود. الله يدعو الإنسان للدّخول في الفرح والحياة والشّركة والتّجدّد. لكنّ المدعوّين أجمعوا على الإستعفاء، كما يروي لنا الرّبّ. أعذارٌ كثيرةٌ أعطوا، هي ليست خطايا بذاتها، بل أمورٌ مشروعةٌ، لكنّ المشكلة ليست فيها، بل في القلب الّذي يفضّل الأرض على السّماء، والعابر الفاني على الأبديّ.
يشرح القدّيس غريغوريوس المحاور هذا المثل قائلًا: «لم يرفض المدعوّون لأنّ ما لديهم شرٌّ، بل لأنّهم جعلوا الخير الزّمنيّ حاجزًا يحول دون الخير الأبديّ». الخطيئة الكبرى في هذا المثل ليست الزّنى أو القتل أو الكبرياء، بل هي الرّفض الهادئ اللّامبالي، الّذي يختبئ خلف الأعذار، ويقتل الدّعوة من دون ضجيجٍ. هذا هو خطر عصرنا، حيث الإنسان لا يختار الشّرّ علنًا، بل يغرق في كثرة الإنشغالات الدنيويّة فيفقد حسّ الدّعوة الإلهيّة. إنسان اليوم قد لا يعادي الله، لكنّه يعيش في الخطيئة، بعيدًا من الله، كما لو أنّ الله لا يفتقده ولا يدعوه.
الّذين رفضوا الدّعوة خسروا العشاء العظيم. أمّا الله، ففتح المائدة لآخرين. الله يحبّ الإنسان، يفتح قلبه للجميع، وملكوته لا يتوقّف عند رفض البعض. لذلك يطلب صاحب الدّعوة من خادمه أن يخرج إلى الطّرق والأسيجة ويضطرّ الجميع على الدّخول. هذا ليس إكراهًا، إنّه الإلحاح الإلهيّ الّذي لا ييأس من الإنسان. يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم: «إنّ الله يطارد الإنسان بمحبّته، ولا يتركه يستسلم لضياعه.»
هذه الدّعوة الّتي يقدّمها الرّبّ في الإنجيل تضيئها الرّسالة الّتي سمعنا فيها: «متى ظهر المسيح الّذي هو حياتنا، فأنتم أيضًا تظهرون حينئذٍ معه في المجد». المسيح ليس المخلّص وحسب بل هو حياة الإنسان. من لا يقبل أن يكون المسيح محور حياته لن يفهم ملكوت الله ولن يرغب في المشاركة في العشاء العظيم. لذا، نسمع أيضًا: «إخلعوا الإنسان العتيق مع أعماله، والبسوا الإنسان الجديد الّذي يتجدّد للمعرفة على صورة خالقه». الملكوت ليس عشاءً خارجيًّا ندعى إليه، بل هو أوّلًا تغييرٌ داخليٌّ، فلا يكفي أن نأتي إلى الكنيسة بدافع العادة، بل علينا أن نخلع شيئًا فشيئًا الإنسان العتيق ونلبس الجديد.
الأجداد الّذين نعيّد لهم اليوم عاشوا هذا التّجديد. لم يكونوا كاملين، كانوا بشرًا ضعفاء مثلنا، لكنّهم عرفوا أنّ سرّ الحياة ليس في الإمتلاك بل في الطّاعة. إبراهيم لم يعترض على دعوة الله، بل خرج وهو لا يعرف إلى أين يذهب، لأنه وثق بالدّاعي. موسى لم يتذرّع بالخوف، رغم ضعف لسانه بل أطاع الله. داود، رغم خطيئته، لم يهرب من وجه الله، بل عاد بقلبٍ منسحق. هكذا، أصبح هؤلاء الأجداد أيقوناتٍ حيّةً لمعنى الدّعوة وخطر الرّفض وعمق التّجدّد.
يا أحبّة، تضعنا نصوص اليوم أمام سؤالٍ مباشرٍ: هل نقبل دعوة الله؟ ليس إلى الكنيسة فقط، بل إلى التّوبة والمغفرة وتغيير طريقة التّفكير والسّلوك وجعل المسيح حياتنا. الدّعوة ليست حدثًا واحدًا يمرّ بل مسيرةٌ يوميّةٌ، جهادٌ مستمرٌ وصلاةٌ دائمة. كلّ صباحٍ هو دعوةٌ لعشاءٍ جديد. الله يرسل إلينا دعوته عبر الكلمة، عبر الضّمير والألم والفرح ووجه المحتاج وصمت الصّلاة. هل نسمع؟ أم إن أعذار الحياة صارت أغطيةً ثقيلةً تسكت الإستجابة في داخلنا؟ يقول القديس أفرام السّريانيّ: «الويل لتلك الأعذار الّتي تجعل القلب ثقيلًا فلا يعود يسمع دقّات الله».
إنسان اليوم غارقٌ في العمل والتّكنولوجيا والمطالب والخوف والبحث عن الأمان في الممتلكات. كلّ ذلك قد يتحوّل إلى حواجز تمنعنا من المشاركة في العشاء العظيم. الرّبّ لا يطلب منّا أن نتخلّى عن الحياة. إنّه يطلب ألّا نجعلها أصنامًا تطفئ الجوع الحقيقيّ فينا.
الرّسول بولس يقدّم لنا العلاج: «أميتوا أعضاءكم الّتي على الأرض»، أيّ أميتوا ما يطفئ الصّورة الإلهيّة فيكم، أيّ الغضب والحقد والطّمع والنّجاسة والكبرياء وغيرها. الموت هنا ليس إخضاعًا جسديًّا، لكنّه تحريرٌ روحيٌّ. الإنسان الجديد ليس زينةً خارجيّةً، إنّما عمل نعمةٍ يحّوّل الأعماق. كلّ من يعيش هذا التّجدّد يصبح إنسانًا ملكوتيًّا قادرًا على المشاركة في العشاء العظيم.
نحن في زمنٍ يحتاج أمثال الأجداد الذين سبقونا. العالم يحتاج مسيحيّين حقيقيّين يحملون نور الإنسان الجديد، ولا يحتاج جماعاتٍ مسيحيّةً تشوّه صورة المسيح والمسيحيّة وتبثّ الأحقاد والخلافات والأفكار المضلّلة. المسيحيّة لا تحزّب فيها إلّا للمسيح. والمسيحيّ ليس فقط المنتمي لطائفةٍ، بل هو إنسانٌ يحيا الملكوت في قلب العالم. إنسانٌ غفر له الله فيغفر، أحبّه الله فيحبّ، دعي فلبّى الدّعوة.
وإذ نتكلّم على الدّعوة نتذكّر ابنًا لنا لبّى دعوة وطنه ولم يتوان عن الدّفاع عنه حتّى التّضحية بحياته. جبران تويني دافع بالكلمة، بالفكر، بالحبر والقلم. حمل قضيّة لبنان ولم يحمل سلاحًا أو حقدًا بل جرأةً في قول الحقّ في وجه الظّلم والتّسلّط والخبث والتّحريض والقتل والإرهاب واستباحة الحرّيات. قتلوه وظنّوا أنّهم تخلّصوا منه، لكنّ التّحوّلات الكبرى الحاصلة في لبنان والمنطقة تؤكّد أنّ الحقّ مهما غاب سيظهر وأنّ العدالة مهما تأخّرت آتية. رحم الله جبران وكلّ من مات شهادةً للحقّ.
يا أحبّة، فيما نحتفل اليوم بتذكار الأجداد، علينا أن نتأمّل في سيرتهم ونقتدي بإيمانهم. هم قبلوا الدّعوة بلا ترددٍ، وخلعوا الإنسان العتيق وساروا نحو وعد الله. فلنصلّ كي يفتح الرّبّ عيوننا فنرى مأدبته، وقلوبنا فنسمع دعوته، وإرادتنا فنقبل أن نتجدّد فيه. هكذا، يكون لنا نصيبٌ مع الّذين دخلوا العشاء، لأنّهم عرفوا حاجتهم، ولم يعطوا أعذارًا واهيةً، آمين."
