لبنان
03 تموز 2023, 05:55

عوده: نريد رئيسًا ومسؤولين يعيشون مع الشّعب ويتعاطفون معه

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده خدمة القدّاس الإلهيّ في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس- بيروت.

بعد قراءة الإنجيل المقدّس ألقى عوده العظة التّالية: "أحبّائي، إنجيل اليوم يضعنا أمام شخصيّة أمميّة، وثنيّة، شخصيّة قائد المئة الّذي كان مسؤولًا رومانيًّا في الجيش. ربّما يستغرب قارئ الكتاب المقدّس أنّ كلّ قادة المئات المذكورين فيه هم من الصّالحين. يظنّ بعض دارسي الكتاب أنّ المسيح هو صورة قائد المئة المثاليّ، إذ إنّ العدد "مئة" يشير إلى قطيع المسيح الصّغير، الّذي إذا ضلّ واحد منه، ترك التّسعة والتّسعين وبحث عنه. يوضح  لنا المسيح الّذي هو قائد هذا القطيع الصّغير ورأسه، أنّ البشر يستطيعون التّمثّل به، لأيّ شعب انتموا، إذ إنّ الله خلق الجميع، والخلاص غير محصور بجماعة محدّدة، بل متاح لكلّ من آمن بالمسيح واتّخذه مثالًا ورأسًا، هو القائل: "من آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يدن" (مر 16: 16).

نحن أمام رجل وثنيّ، ضابط رومانيّ، وغالبًا ما كان الرّومان يسيئون معاملة عبيدهم، إلّا أنّ هذا الإنسان أظهر تقواه من خلال اهتمامه بعبده وطلب شفاءه. من المؤكّد أنّه سمع عن الرّبّ يسوع وأحبّه، فتغيّر قلبه عندما غذّاه بمحبّة الرّبّ. يمثّل قائد المئة كلّ أمّته الوثنيّة، المعذّبة من الشّيطان والخطيئة، وما استعداد الرّبّ يسوع إلى الذّهاب لشفاء الصّبيّ المريض قائلًا: "أنا آتي وأشفيه"، سوى تأكيد منه أنّه أتى ليخلّص جميع البشر، وهو لا يأنف من الدّخول إلى بيوت الخطأة والعشّارين ليأكل معهم، ولا إلى بيوت الوثنيّين، لأنّه هو الّذي يقدّس كلّ الأشياء، كما نسمع في صلواتنا.

كان قائد المئة يعلّم أنّ اليهود لا يخالطون الأمم ولا يدخلون بيوتهم خوفًا من أن يتنجّسوا، لذلك أعلن بتواضع، وهو القائد الّذي يحسب له حساب بين أبناء جنسه، أنّه غير مستحقّ لأن يدخل المسيح بيته. كذلك، أعلن ذاك الأمميّ الوثنيّ إيمانه بيسوع كربّ صانع للعجائب، شاف للأمراض بكلمة واحدة فقط، عندما قال: "يا ربّ، لست مستحقًّا أن تدخل تحت سقفي، لكن قل كلمةً لا غير فيبرأ فتاي". طبعًا، نعلم أنّ فعل الخلق كان بكلمة واحدة، عندما قال الله: "كن"، فكان. هنا، يشدّد الإنجيليّ متّى أمام سامعيه اليهود على أنّ المسيح هو الإله الخالق، الّذي يقول كلمةً واحدةً فيحقّق ما يشاء.  

في حادثة إنجيل اليوم، نعاين فعلين: الأوّل شفاء الصّبيّ بكلمة، والثّاني تحوّل قلب القائد الوثنيّ الّذي لمسه المسيح الكلمة بمحبّته.

بعدما أثنى المسيح على إيمان قائد المئة، الّذي يفوق إيمان كثيرين ممّن يعتبرون أنفسهم من أبناء إبراهيم "أبي الإيمان"، قال للحاضرين: "إنّ كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتّكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السّماوات، وأمّا بنو الملكوت فيلقون في الظّلمة البرّانيّة، هناك يكون البكاء وصريف الأسنان". في هذا الكلام دينونة لكلّ إنسان، على مدى العصور، يعتبر نفسه مؤمنًا وابنًا لله، وهو لا يعمل بوصاياه، خصوصًا وصيّة المحبّة. كثيرون من روّاد الكنيسة يعتبرون أنفسهم شعب الله المختار، وبإمكانهم إدانة الجميع، متجاهلين أنّ الدّينونة لله وحده، وهو الدّيّان العادل، أمّا البشر فخطأة. ولو انشغل كلّ إنسان بالتّوبة عن خطاياه، لما وجد وقتًا للنّظر إلى زلّات غيره. إستعمال الرّبّ كلمة "يتّكئون" تدلّ على الاشتراك في وليمة العرس، حيث العريس هو المسيح النّور الحقيقيّ، كما نقرأ في سفر الرّؤيا: "ولا يكون ليل هناك، ولا يحتاجون إلى سراج أو نور شمس، لأنّ الرّبّ الإله ينير عليهم" (رؤ 22: 5)، أمّا الظّلمة الخارجيّة فهي خارج العرس، حيث لا يوجد المسيح، أيّ خارج الكنيسة- جسد المسيح.  

يقول الرّبّ إنّ الأمم سيصيرون من شعبه، فيما الّذين يعتبرون أنّهم شعبه سيلقون في الظّلمة البرّانيّة، أيّ يحرمون من بهجة الحضور الإلهيّ، ما يعني أنّ لا أحد يستطيع اعتبار نفسه من أخصّاء الله، لأنّه يقع عندئذ في الكبرياء، أمّ الرّزايا. كم مرّةً يقع بعض المسيحيّين في فخّ الاعتداد بمسيحيّة لا يحيونها إلّا سطحيًّا، فيتعالون على الآخرين ببعض مظاهر التّقوى الّتي يظنّونها تكفيهم للخلاص؟ على البشر أن يعيشوا الإيمان الحقيقيّ والتّسليم الكامل لمشيئة الله كإبراهيم، ويطيعوا الكلمة الإلهيّة كإسحق، ليكونوا من أبناء الملكوت، كما قال الله في سفر الخروج: "فالآن، إن سمعتم لصوتي، وحفظتم عهدي، تكونون لي خاصّةً من بين جميع الشّعوب، فإنّ لي كلّ الأرض، وأنتم تكونون لي مملكة كهنة، وأمّةً مقدّسة" (خر 19: 5-6).

قال المسيح: "إنّي لم أجد إيمانًا بمقدار هذا ولا في إسرائيل" متعجّبًا من قلّة إيمان شعب اليهود الّذي لديه النّاموس والأنبياء لكنّه لا يعمل بهديهما، فيما تفوّق الأمميّ الوثنيّ بإيمانه على من يعتبرون أنفسهم شعب الله المختار.

يا أحبّة، إنّ بعض اللّبنانيّين وبعض الزّعماء يشبهون أولئك اليهود الّذين اعتبروا أنفسهم أبناء الملكوت، لكنّهم عملوا عكس التّعليم الصّحيح. فهم يجاهرون بلبنانيّتهم، لكنّ كثيرين من أبناء الأمم الأخرى يحبّون لبنان أكثر منهم، ويهتمّون لمصلحته أكثر من بعض أبنائه الّذين بسلوكهم السّلبيّ وتناحرهم يطعنون الوطن ومؤسّساته وسمعته وسياحته بسيف الحقد والمحاصصة والمصالح الضّيّقة. هؤلاء سوف تتحقّق بهم العدالة الأرضيّة ثمّ الإلهيّة، حتّى يصبحوا في الظّلمة البرّانيّة، ويندموا على ما صنعته أيديهم ببلد قدّسه الله وخصّه ببركاته الكثيرة.  

متى يحلّ اليوم الّذي نرى فيه محبّة زعماء هذا البلد لوطنهم وتفانيهم من أجله؟  متى يتخلّى الجميع عن أناهم، وعن مصالحهم ويعملون فقط من أجل مصلحته؟ متى يتكاتف اللّبنانيّون، كلّ اللّبنانيّين من أجل إنقاذ وطنهم؟

الجميع ينتظر الموفد الأجنبيّ أو اجتماعًا من هنا واتّفاقًا من هناك، وكأنّ التّرياق يأتي من الخارج. أليس هذا مذلّاً لبلد يدّعي السّيادة، ولزعماء نصّبوا أنفسهم أولياء لهذا البلد وهم غير قادرين على حلّ مشاكلهم فكيف يحلّون مشكلة البلد؟ أعانهم الله على انتقاء رئيس يكون رجل دولة حقيقيًّا، يعمل بتجرّد ونزاهة وتعفّف وكبر نفس، ويكون قدوةً لكلّ من يتطلّع إلى العمل في الحقل العامّ من أجل الخدمة العامّة فقط. رئيس لا يتخلّى عن واجباته الوطنيّة ولا يستقيل من واجباته الإنسانيّة، ولا يهمل البحث عن مفقود أو مخطوف أو مخفيّ، ولا ينأى بنفسه عن قضيّة عادلة كإنهاء التّحقيق في تفجير مرفأ بيروت والوصول إلى الحقيقة من أجل إحقاق العدالة. نريد رئيسًا ومسؤولين يعيشون مع الشّعب ويتعاطفون معه، يشعرون بآلامه ويعملون على بلسمتها وعلى نشر العدل والخير والمحبّة والسّلام، وعلى تعميم المساءلة والمحاسبة. نحن نفتقد المطرانين بولس ويوحنّا ولا نعرف شيئًا عن مصيرهما لذلك نعرف كم يحتاج كلّ من ينتظر عودة مفقود أو مخطوف إلى من يتعاطف معه ويساعده على معرفة مصيره، ولأنّنا أصبنا يوم فجّر المرفأ وأصيبت مطرانيّتنا وكنائسنا ومدارسنا ومؤسّساتنا نعرف آلام ذوي الضّحايا والمصابين وكلّ من فقد عزيزًا أو ملكًا، ونعرف عطشهم إلى الحقيقة والجرح العميق النّازف بسبب تقاعس المسؤولين وإهمال قضيّتهم.

دعوتنا اليوم أن نؤمن بالمسيح ربًّا ومخلّصًا وفاديًا، وأن نجاهد ونحبّ الجميع بلا استثناء لنكون من أبناء الملكوت. ألا جعلنا الرّبّ جميعًا من أخصّائه، آمين".