لبنان
13 حزيران 2022, 05:55

عوده: نصلّي من أجل أن يلهم الرّوح القدس المسؤولين على اتّخاذ القرارات الواضحة والحاسمة ويتّفقوا على موقف موحّد

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده قدّاس أحد العنصرة في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس- بيروت، كانت له خلاله عظة قال فيها:

"أحبّائي، نعيّد اليوم للعنصرة المقدّسة، أيّ لحلول الرّوح القدس على التّلاميذ. اليوم هو عيد تأسيس الكنيسة المقدّسة، الّتي جعلها الرّبّ تنطق بلغات العالم أجمع، بشخص الرّسل الأطهار المجتمعين في مكان واحد كما سمعنا في نصّ الرّسالة: "لمّا حلّ يوم الخمسين، كان الرّسل كلّهم معًا في مكان واحد، فحدث بغتةً صوت من السّماء كصوت ريح شديدة تعسف، وملأ كلّ البيت الّذي كانوا جالسين فيه، وظهرت لهم ألسنة متقسّمة كأنّها من نار، فاستقرّت على كلّ واحد منهم، فامتلأوا كلّهم من الرّوح القدس، وطفقوا يتكلّمون بلغات أخرى كما أعطاهم الرّوح أن ينطقوا".

إنّ انحدار الرّوح القدس على تلاميذ المسيح حوّل الكنيسة الموجودة منذ خلق العالم إلى جسد المسيح. فعيد الخمسين هو يوم ميلاد الكنيسة كجسد للمسيح.  

عندما انحدر الرّوح القدس على التّلاميذ، انطلقوا للبشارة، لذا فإنّ الكرازة الرّسوليّة هي كرازة الكنيسة، وهي أيضًا كلمة القدّيسين والرّعاة الحقيقيّين. هي تحرق، كنار مهلكة، الخطيئة وعبادة الأوثان، أيّ المفاهيم الخاطئة عن الحياة وعن الله. إنّ كلمة الرّسل والقدّيسين تحمل قوّة الله. هي نتيجة النّعمة الّتي لها شكل ألسنة ناريّة، وتحوّل الصّيّادين إلى رعاة للكنيسة، حكماء، جريئين.

لقد سمعنا المسيح يتحدّث منذ أسابيع مع السّامريّة ويخبرها عن الماء الحيّ الّذي يعطيه، ومن يستقي منه لا يعطش أبدًا. اليوم نسمعه يقول في الإنجيل: "إن عطش أحد فليأت إليّ ويشرب. من آمن بي، فكما قال الكتاب، ستجري من بطنه أنهار ماء حيّ"، ثمّ نسمع تفسير الإنجيليّ فورًا بعد هذا القول: "إنّما قال هذا عن الرّوح الّذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه، إذ لم يكن الرّوح القدس بعد، لأنّ يسوع لم يكن بعد قد مجّد". الإيمان بشخص المسيح هو الصّخرة الّتي بنيت عليها كنيسته، وفقًا للرّسول بولس (تي 3: 15). إذًا، روح الحقّ يعطى للّذين يؤمنون بالمسيح، وقد بنوا أنفسهم على قاعدة الرّسل والأنبياء، حيث المسيح نفسه هو حجر الزّاوية (أف2: 20).  

الحياة في الكنيسة هي حياة بالرّوح القدس، الّذي يقدّس ماء المعموديّة الّذي يجدّدنا، ويعطى لنا بمسحة الميرون المقدّسة. هو يحوّل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه، وهو الدّاعي إلى التّوبة. ينير الظّلمة الخارجيّة ويكوّن صورة المسيح في قلوب النّاس. إنفتاح الذّهن والقلب على نعمة الرّوح القدس يوطّد جهاد المؤمنين الدّاخليّ، وقول المسيح عن أنهار الماء الحيّ الّتي تجري من بطن المؤمن قد اختبره أعضاء الكنيسة الممجّدون، أيّ القدّيسون.  

الرّوح القدس حاضر في تاريخ خلاص الجنس البشريّ بجملته، كما في تفاصيل حياة كلّ إنسان بمفرده، كما يقول القدّيس باسيليوس الكبير: "الحاضر في كلّ واحد وفي كلّ مكان"، والّذي يقول أيضًا إنّ الرّوح القدس يمتدّ إلى الجميع بقوّته، إلّا أنّ المستحقّين وحدهم يشتركون به.

يقول القدّيس يوستينوس بوبوفيتش: "لو لم تعط كنيسة المسيح حلولًا لما تواجهه الرّوح البشريّة من مشاكل أبديّة، لكانت غير نافعة". إذًا، الكنيسة لا تبقى على السّطح، لذلك كثيرون لا يفهمونها بسهولة. الكنيسة تنفذ إلى أعماق المشاكل الّتي تعذّب النّفس البشريّة. إنّها بالرّوح القدس العامل فيها تخلّص الحياة وتعطيها معنًى، وتهب المسيح، الّذي هو الحقّ والحياة والصّلاح، للنّاس. تساعد الّذين يعطشون حقًّا إلى الحياة ليصبحوا أعضاء المسيح بالنّعمة الإلهيّة، نعمة الرّوح القدس. أمّا الّذين يكتفون بالمظاهر فيحرمون أنفسهم الحياة الحقيقيّة الّتي تقدّمها الكنيسة. يتعثّرون بواسطة أشخاص أو أحداث، فيفقدون الجوهرة الثّمينة. عمل الكنيسة الحقيقيّ يظهر من كلام المسيح: "إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب". الكنيسة هي المسيح الممتدّ إلى الأبد، وعملها الدّائم هو أن توفّر عطيّة الرّوح القدس المجدّدة للنّاس الّذين يعطشون إلى الله. لهذا، كلّ إهانة يطلقها إنسان تجاه الكنيسة هي إهانة لجسد المسيح، أيّ للمسيح نفسه، كما هي إهانة للرّوح القدس الّذي يحرّك الكنيسة، وكما يقول المسيح في إنجيل متّى: "أقول لكم: كلّ خطيئة وتجديف يغفر للنّاس، أمّا التّجديف على الرّوح القدس فلن يغفر للنّاس، ومن قال كلمةً على ابن الإنسان يغفر له، وأمّا من قال على الرّوح القدس فلن يغفر له، لا في هذا العالم ولا في الآتي" (12: 31-32). إنّ رعاة الكنيسة قد اختارهم الرّوح القدس نفسه ليرعوا شعب الله، وليكونوا له آباء، لذا نسمع في خدمة السّيامة: "الرّوح القدس، الّذي للمرضى يشفي، وللنّاقصين يكمّل، هو ينتدب عبد الله..."، تاليًا يكون التّجديف على الرّعاة أيضًا تجديفًا على الرّوح القدس. من هنا، كلّ من يعتبر نفسه مسيحيًّا، لكنّه يطلق العنان علنًا لإهاناته تجاه الكنيسة ورعاتها، إنّما هو خادم للشّيطان. فالشّيطان يجعل البشر يظنّون أنّهم محقّين في تفكيرهم، ويجعلهم ينتقدون اللّباس الكهنوتيّ أو الآنية المقدّسة أو جمال بيت الله، ويقنعهم بأنّ الكنيسة تهتمّ بالقشور بدلًا من البشر، غير مدركين أنّ الكنيسة لا تطبّل كلّما فعلت خيرًا، أو تأخذ الصّور التّذكاريّة مع من تحسن إليهم، لأنّها لا تقدّم الحسنات أصلًا، بل هي تعطي النّاس ما منحها إيّاه الله، كما نقول في القدّاس الإلهيّ: "الّتي لك، ممّا لك، نقدّمها لك". ورعاة الكنيسة، بما أنّهم آباء، فهم يهتمّون بكلّ نواحي حياة الأبناء، بلا انفصام، تمامًا كما يفعل الآباء الجسديّون الّذين لا يؤمّنون الطّعام فقط لأبنائهم، بل يهتمّون بأخلاقهم ومعشرهم وكلّ جوانب حياتهم. لذا، من واجب الكنيسة أن تبدي رأيها في كلّ ما يمسّ حياة أبنائها. ومن ينزعج من الحقيقة الّتي تقولها الكنيسة، يجب أن يحذر من الشّيطان المعشّش في نفسه، والّذي يمنعه من سماع الحقّ، ويريده أن يعيش في الباطل كلّ أيّام حياته.

لذا نصلّي في هذا اليوم المبارك كي يهبّ الرّوح القدس في وطننا لبنان، ويعمل في قلوب جميع أبنائه، مطهّرًا إيّاها، ومحفّزًا لها على قبول النّعم المعطاة من فوق، وتثميرها واستخدامها من أجل الخير العامّ.

كذلك نصلّي من أجل أن يلهم المسؤولين على اتّخاذ القرارات الواضحة والحاسمة في شأن حقوق لبنان واللّبنانيّين وثرواتهم البحريّة والبرّيّة وغيرها. المزايدات الّتي نشهدها غير نافعة. الأعمال وحدها نافعة، خاصّةً تلك المرتكزة على حقائق وبراهين علميّة. فليحزم المسؤولون أمرهم وليتّفقوا على موقف موحّد يواجهون به الأصدقاء والأعداء، ويكون في مصلحة جميع اللّبنانيّين.

ولن ننسى الصّلاة من أجل راحة نفس إنسان عزيز فقدناه منذ عشر سنوات وكان صوتًا ناطقًا بالحقّ، مدافعًا عن وطنه وكرامة شعبه وحقوقهم، مؤمنًا بعمل الرّوح القدس ومسلّمًا له القلب المجروح. غسّان تويني، نحن لا نذكرك في مثل هذا التّاريخ وحسب، بل ذكراك دائمة في هذا الوطن الجريح الّذي يفتقد الكبار أمثالك. فلروحك الغفران والحياة الأبديّة، ولوطننا كلّ الصّلاة من أجل أن يحفظه الرّبّ الإله من كلّ شرّ ومن كلّ الأشرار.

دعوتنا اليوم هي أن نقبل عطيّة الرّوح القدس، وأن نحافظ على ختم هذا الرّوح المحيي، الّذي ختمنا به في المعموديّة، حتّى نظهر في الحياة الأبديّة فائزين بأكاليل المجد والظّفر، آمين".