الفاتيكان
01 حزيران 2020, 05:55

في أحد العنصرة وصفة بابويّة للشّفاء من النّرجسيّة وموقف الضّحيّة والتّشاؤم

تيلي لوميار/ نورسات
"هناك ثلاثة أعداء للعطيّة وهم يتربّصون على الدّوام عند أبواب قلوبنا: النّرجسيّة وموقف الضّحيّة والتّشاؤم... ونحن بحاجة للرّوح القدس عطيّة الله الّتي تشفي منها". هذا ما قاله البابا فرنسيس في عظته خلال قدّاس أحد العنصرة الّذي ترأّسه في بازيليك القدّيس بطرس، ألقى خلالها الضّوء على الكنيسة في بداياتها والكنيسة اليوم وكيفيّة عمل الرّوح فيها، فقال فيها بحسب "فاتيكان نيوز":

"يكتب القدّيس بولس الرّسول إلى أهل قورنتس "إِنَّ المَواهِبَ على أَنواع وأَمَّا الرُّوحُ فواحِد"، ويتابع "وإِنَّ الخِدْماتِ على أَنواع وأَمَّا الرَّبُّ فواحِد، وإِنَّ الأَعمالَ على أَنواع وأَمَّا اللهُ الَّذي يَعمَلُ كُلَّ شَيءٍ في جَميعِ النَّاسِ فواحِد". أنواع وواحد: يصرّ القدّيس بولس على أن يضع معًا كلمتين تبدوان وكأنّهما تتعارضان، ويريد أن يقول لنا إنّ الرّوح القدس هو ذلك الواحد الّذي يجمع المختلفين وهكذا ولدت الكنيسة: نحن المختلفون، يجمعنا الرّوح القدس.

لنذهب إذًا إلى بداية الكنيسة، إلى يوم العنصرة؛ ولننظر إلى الرّسل نجد بينهم أشخاصًا بسطاء اعتادوا على العيش من عمل أيديهم، كصيّادي السّمك ونجد أيضًا متّى الّذي كان جابي ضرائب متعلّم. هناك أصول وأطر اجتماعيّة مختلفة، أسماء عبريّة وأسماء يونانيّة، أطباع وديعة وأخرى انفعاليّة، ورؤى ومشاعر مختلفة؛ ويسوع لم يغيّرهم ولم يوحِّدهم جاعلاً منهم سلسلة من النّماذج. بل ترك لهم اختلافاتهم وها هو يجمعهم الآن إذ يمسحهم بالرّوح القدس. إنّ الوحدة تأتي مع المسحة. وفي العنصرة فهم التّلاميذ قوّة الرّوح القدس الّتي توحِّد؛ ورأوا بأعينهم كيف وبالرّغم من تكلّمهم بلغات مختلفة، شكّل الجميع شعبًا واحدًا: شعب الله المطبوع بالرّوح القدس الّذي ينسج الوحدة بواسطة اختلافاتنا والّذي يعطي التّناغم لأنّه تناغم.

نصل إلينا، نحن كنيسة اليوم. ويمكننا أن نسأل أنفسنا: "ما هو الّذي يجمعنا، وعلى ماذا تقوم وحدتنا؟" هناك اختلافات أيضًا فيما بيننا كالآراء والخيارات والمشاعر على سبيل المثال، والتّجربة هي على الدّوام أن ندافع بحدِّ السّيف عن أفكارنا معتبرين أنّها صالحة للجميع، ومتّفقين فقط مع الّذين يفكّرون مثلنا. ولكن هذا إيمان على صورتنا وليس ما يريده الرّوح القدس، وبالتّالي يمكننا أن نفكّر أنّ ما يجمعنا هي الأمور عينها الّتي نؤمن بها والتّصرّفات نفسها الّتي نقوم بها. ولكن هناك أكثر من ذلك بكثير: الرّوح القدس هو مبدأ وحدتنا. فهو يذكّرنا أوّلاً بأنّنا أبناء الله المحبوبون. إنّ الرّوح القدس يأتي إلينا مع كلِّ اختلافاتنا وبؤسنا ليقول لنا إنّه لدينا ربٌّ واحد يسوع، وأب واحد ولذلك نحن إخوة وأخوات! لننطلق مجدّدًا من هنا ولننظر إلى الكنيسة كما ينظر إليها الرّوح القدس وليس كما ينظر إليها العالم. إنّ العالم يرانا فقط لليمين أو لليسار؛ أمّا الرّوح القدس فيرانا أبناء للآب وإخوة ليسوع. العالم يرانا كمحافظين أو تقدّميين أمّا الرّوح القدس فيرانا كأبناء لله. إنّ نظرة العالم ترى هيكليّات ينبغي جعلها أكثر فعاليّة أمّا النّظرة الرّوحيّة فترى إخوة وأخوات متسوِّلي رحمة. إنّ الروح القدس يحبّنا ويعرف مكان كلّ فرد منّا وبالنّسبة له لسنا قطعًا من قصّاصات ورق تحملها الرّيح، بل نحن أجزاء لا يمكن استبدالها في الفسيفساء الخاصّة به.

نعود إلى يوم العنصرة ونكتشف أوّل عمل للكنيسة: البشارة. ومع ذلك نرى أنّ الرّسل لا يحضرون استراتيجيّة ما ولا يملكون مخطّطًا راعويًّا. كان بإمكانهم أن يقسموا النّاس إلى مجموعات بحسب مختلف الشّعوب، وأن يتحدّثوا أوّلاً مع القريبين ومن ثمّ مع البعيدين... كان بإمكانهم أيضًا أن ينتظروا قليلاً قبل أن يبشّروا فيما يتعمّقون بتعاليم يسوع لكي يتحاشوا المخاطر... لكن لا؛ لأنّ الرّوح القدس لا يريد أن تُعزَّز ذكرى المعلِّم في مجموعات مُغلقة وفي علّيّات يسهل فيها "التّعشيش". بل هو يفتح ويطلق مجدّدًا ويدفع أبعد ممّا قيل وما تمَّ القيام به، أبعد من حظائر إيمان خجول ومتحفِّظ. إن لم يكن هناك في العالم تنظيمًا متماسكًا واستراتيجيّة واضحة تنهار جميع الأمور. أمّا في الكنيسة فالرّوح القدس هو الّذي يضمن الوحدة للّذين يبشّرون. وبالتّالي ذهب الرّسل غير مستعدّين وخرجوا واضعين حياتهم على المحكّ، تحركّهم رغبة واحدة: أن يعطوا ما قد نالوه.

نصل أخيرًا لنفهم ما هو سرُّ الوحدة وسرّ الرّوح القدس. إنّها العطيّة، لأنّه عطيّة ويحيا من خلال تقديم ذاته وبهذه الطّريقة يُبقينا معًا ويجعلنا نشارك في العطيّة عينها. من الأهمّيّة بمكان أن نؤمن أنّ الله هو عطيّة وأنّه لا يعمل عن طريق الأخذ وإنّما عن طريق العطاء. ولماذا هذا الأمر مهمّ؟ لأنّ كوننا مؤمنين يعتمد على الطّريقة الّتي نفهم فيها الله. فإن كنّا نعتقد أنَّ الله هو إله يأخذ ويفرض نفسه، فسنريد نحن أيضًا أن نأخذ ونفرض أنفسنا: فنحتلَّ الأماكن، ونطالب بأن تُعطى لنا أهمّيّة، ونبحث عن السّلطة. أمّا إن كنّا نعرف في قلبنا أنّ الله هو عطيّة فسيتغيّر كلُّ شيء. وإن أدركنا أنّ كلّ ما نحن عليه هو عطيّة منه وعطيّة مجّانيّة وبدون استحقاق فعندها سنرغب نحن أيضًا في أن نحوّل حياتنا إلى عطيّة؛ وعندما نحبّ بتواضع ونخدم بمجّانيّة وفرح نقدّم للعالم صورة الله الحقيقيّة. يذكّرنا الرّوح القدس، الذّكرى الحيّة للكنيسة بأنّنا ولدنا من عطيّة وأنّنا ننمو من خلال بذل ذواتنا؛ لا بالمحافظة على ذواتنا وإنّما ببذلها.

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لننظر إلى داخلنا ولنسأل أنفسنا ماذا يعيقنا عن بذل ذواتنا. هناك ثلاثة أعداء للعطيّة وهم يتربّصون على الدّوام عند أبواب قلوبنا: النّرجسيّة وموقف الضّحيّة والتّشاؤم. النّرجسيّة تجعلنا نعبد أنفسنا ونُسرُّ فقط بأرباحنا الشّخصيّة. فالنّرجسيّ يفكّر: "الحياة جميلة إن كنت أربح"، ولذلك يبلغ إلى القول: "لماذا يجب أن أبذل نفسي في سبيل الآخرين؟". في هذا الوباء، كم هو كبير الأذى الّذي تسبّبه النّرجسيّة والانغلاق على احتياجاتنا الخاصّة واللّامبالاة إزاء احتياجات الآخرين وعدم الاعتراف بضعفنا وأخطائنا. لكن العدوّ الثّاني، موقف الضّحّيّة، هو خطير أيضًا. إنّ الّذي يعيش موقف الضّحيّة يتذمّر يوميًّا ضدّ القريب: "لا أحد يفهمني، لا أحد يساعدني، لا أحد يحبّني، جميعهم يغضبون منّي!" فينغلق قلبه فيما يتساءل: "لماذا لا يبذل الآخرون أنفسهم في سبيلي؟" ما أسوأ موقف الضّحّيّة في هذه المأساة الّتي نعيشها! أن نفكّر أنّ لا أحد يفهمنا ويشعر بما نشعر به. وختامًا هناك التّشاؤم. وهنا الطّلبة اليوميّة: "لا شيء يسير على ما يرام، المجتمع، السّياسة، الكنيسة..." إنّ المتشائم يغضب من العالم ولكنّه يبقى جامدًا ويفكّر: "ماذا ينفع العطاء؟ إنّه أمر غير مجدٍ". كم هو مؤذٍ الآن وفي هذا الجهد للبدء من جديد التّشاؤم ورؤية كلّ شيء أسود وتكرار أنّ الأمور لن تعود أبدًا كالسّابق! بأسلوب التّفكير هذا ما لن يعود بالتّأكيد هو الرّجاء. نجد أنفسنا في افتقار للرّجاء ونحن بحاجة لنقدّر عطيّة الحياة، العطيّة الّتي يمثلّها كلّ فرد منّا. لذلك نحن بحاجة للرّوح القدس عطيّة الله الّتي تشفي من النّرجسيّة وموقف الضّحيّة والتّشاؤم.

لنرفع صلاتنا إلى الرّوح القدس: أيّها الروح القدس، ذكرى الله أنعِش فينا ذكرى العطيّة الّتي نلناها. حرّرنا من شلل الأنانيّة وأشعل فينا الرّغبة في أن نخدم ونصنع الخير. لأنّ الأسوأ من هذه الأزمة هي مأساة أن نضيّعها منغلقين على أنفسنا. تعال أيّها الرّوح القدس، أنت التّناغم واجعلنا بناة وحدة، أنت الّذي تعطي نفسك على الدّوام أعطنا الشّجاعة لكي نخرج من ذواتنا ولكي نحبّ ونساعد بعضنا البعض، لكي نصبح عائلة واحدة آمين".