الفاتيكان
24 آذار 2023, 14:50

كانتالاميسا في تأمّله الرّابع لزمن الصّوم يقدّم أفكارًا حول اللّيتورجيا والعبادة

تيلي لوميار/ نورسات
"بعد التّأمّل حول البشارة واللّاهوت، أودّ اليوم أن أقدّم بعض الأفكار حول اللّيتورجيا وعبادة الكنيسة، نقطة الوصول، وما تتوق إليه البشارة."

بهذه الكلمات استهلّ واعظة القصر الرّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا صباحًا تأمّله الرّابع لزمن الصّوم، في قاعة بولس السّادس في الفاتيكان، تحت عنوان "سرّ الإيمان"، وتابع قائلاً بحسب "فاتيكان نيوز": "ننطلق في تأمّلاتنا، من كلمة من الرّسالة إلى العبرانيّين: يجب على الّذي يتقرّب إلى الله- كما تقول- "أن يؤمن بأنّه موجود". ولكن قبل أن نؤمن بأنّه موجود من الضّروريّ أن يكون لدينا على الأقلّ "الحسَّ" لوجوده. وهذا ما نسمّيه الحسّ بما هو مقدّس. وإذا غاب هذا الحسّ بما هو مقدّس، فستغيب التّربة، أو المناخ، الّذي يزهر فيه فعل الإيمان. كتب شارك بيغي أنّ "النّدرة المخيفة والعوز لما هو مقدّس هما العلامة العميقة للعالم الحديث". ولكن إذا كان الحسّ بما هو مقدّس قد زال إلّا أنَّ الشّعور بالنّدم الّذي وصفه أحدهم بشكل علمانيّ بالـ"حنين إلى الآخر تمامًا" لا يزال موجودًا. والشّباب، أكثر من الآخرين، هم الّذين يشعرون بهذه الحاجة لأن يُنقلوا بعيدًا عن تفاهة الحياة اليوميّة ويهربوا، وقد ابتكروا طرقهم الخاصّة لتلبية هذه الحاجة. ولكن لنحاول أن نرى من خلال أيّة وسائل يمكن للكنيسة أن تكون، لأناس زمننا، المكان المميّز لعيش خبرة حقيقيّة لله. المناسبة الأولى الّتي تتبادر إلى الذّهن هي التّجمّعات الكبيرة الّتي تنظِّمها الكنائس المسيحيّة المختلفة. لنفكّر، على سبيل المثال، في الأيّام العالميّة للشّباب، وفي الأحداث الّتي لا تحصى ولا تعدّ- المؤتمرات واللّقاءات- الّتي يشارك فيها عشرات (أحيانًا مئات) الآلاف من الأشخاص من جميع أنحاء العالم. لا يوجد إحصاء لعدد الأشخاص الّذين كانت هذه الأحداث بالنّسبة لهم مناسبة لخبرة قويّة مع الله وبداية علاقة جديدة وشخصيّة مع المسيح.

ومع ذلك، فهذه أحداث غير عاديّة، لا يمكن للجميع أن يشاركوا فيها على الدّوام. أمّا المناسبة بامتياز والأكثر شيوعًا لكي نختبر ما هو مقدّس في الكنيسة فهي اللّيتورجية. لقد تحوّلت اللّيتورجيا الكاثوليكيّة، في وقت قصير، من عمل ذات بصمة مقدّسة وكهنوتيّة قويّة، إلى عمل جماعيّ وتشاركيّ، حيث يكون لكلّ شعب الله دوره، كلٌّ بحسب خدمته الخاصّة. ففي تطوّر فهم الكنيسة كشعب، حدث شيء مشابه لما حدث في تطوّر فهم الكنيسة كبناء وقد شكّل المجمع الفاتيكانيّ الثّاني لحظة حاسمة، ولكنّه لم يكن البداية المطلقة لذلك لأنّه قد جمع ثمار الكثير من العمل السّابق. في بداية الكنيسة وفي القرون الثّلاثة الأولى، كانت اللّيتورجيا حقًّا "ليتورجيا"، أيّ عمل الشّعب. لكن العبادة المسيحيّة، ولاسيّما الذّبيحة الإفخارستيّة، تحوّلت بسرعة في الشّرق والغرب من عمل يقوم به الشّعب إلى عمل للإكليروس. ولقرون وقرون، كان الكاهن وحده يتلو الصّلاة الإفخارستيّا باللّغة اللّاتينيّة، بصوت منخفض، خلف ستارة أو جدار، بعيدًا عن أنظار وسمع الشّعب. ونجد في ذلك عودة واضحة لما كان يحدث في عبادة العهد القديم، عندما كان رئيس الكهنة يدخل قدس الأقداس، بالبخور ودم الأضاحي، فيما كان الشّعب يبقى خارجًا يغمره حسّ جلالة الله وعدم إمكانيّة الوصول إليه. إنّ الحسَّ بما هو مقدّس هو قويّ جدًّا هنا، لكن هل هو الحسّ الحقيقيّ والصّحيح بعد المسيح؟ نقرأ في الرّسالة إلى العبرانيّين: "إِنَّكم لم تَقتَرِبوا مِن شَيءٍ مَلْموس: نارٍ مُستَعِرةٍ وعَتْمَةٍ وظَلام وإِعصارٍ ونَفْخٍ في البوق وصَوتِ كَلامٍ طَلَبَ سامِعوه أًلاَّ يُزادوا مِنه لَفظَةً لأَنَّهم لم يُطيقوا تَحَمُّلَ هذا الأَمْر: "حَتَّى الوَحْشُ، لو مَسَّ الجَبَل، فَلْيُرْجَمْ. كانَ المَنظَرُ رَهيبًا حَتَّى إِنَّ مُوسى قال: "أَنا مَرْعوبٌ مُرتَعِد". أَمَّا أَنتُم فقَدِ اقتَرَبتُم مِن جَبَلِ صِهْيون، ومَدينةِ اللهِ الحَيّ، أُورَشَليمَ السَّماوِيَّة، ومِن رِبْواتِ المَلائِكَةِ في حَفْلَةِ عيد، مِن جَماعَةِ الأَبْكارِ المَكْتوبَةِ أَسْماؤُهم في السَّمَوات، مِن إِلهٍ دَيَّانٍ لِلخَلْقِ أَجمَعين، ومِن أَرْواحِ الأَبْرارِ الَّذينَ بَلَغوا الكَمال، مِن يسوعَ وَسيطِ عَهْدٍ جَديد، مِن دَمٍ يُرَشّ، كلامُه أبَلغُ مِن كَلامِ دَمِ هابيل". إنَّ المسيح قد اخترق حجاب المقدس ولم يغلق الممرّ من ورائه، سبيلاً جديدة حيّة فتحها لنا من خلال الحجاب، أيّ جسده. لقد غيّر المقدّس الطّريقة الّتي يتجلّى بها: لم يعد يظهر كسرّ عظمة وقوّة، وإنّما كقدرة لا محدودة على التّنحّي والاختباء؛ نقرأ في سفر أشعيا: "هكذا تنتفض أمم كثيرة وأمامه يسدّ الملوك أفواههم لأنّهم رأوا ما لم يخبروا به وعاينوا ما لم يسمعوا به". دهشة وتعجّب نعم ولكن أمام ماذا؟ ليس أمام الجلالة، وإنّما أمام تواضع العبد!

في جميع الصّلوات الإفخارستيّة الماضية والحاليّة، علينا دائمًا أن نتذكّر الدّعوة الّتي تلي كلمات التّقديس: "فيما نُحْيي الآنَ ذكرى آلامِ ابنِكَ لخلاصِنا". إنّها جواب على وصيّة يسوع: "إصنعوا هذا لذكري!" لكن، ما الّذي يجب أن نتذكّره بشكل خاصّ: "فإِنَّكُمَ كُلَّمَا أَكَلتُم هَذا الخُبْز وشَرِبتُم هذِه الكَأس تُعلِنونَ مَوتَ الرَّبِّ إِلى أن يَأتي" (١ قورنتس ١١، ٢٦). لنعد إلى اللّحظة الّتي نطق فيها يسوع هذه الكلمات؛ ولنحاول أن نفهم في أيّ ظروف داخليّة خرجت كلمة "إصنعوا هذا لذكري!" من فم الفادي، إذ كان يرى بوضوح ما كان ينتظره. وماذا كان يحدث حوله؟ كان الرّسل قد وجدوا طريقة للتّجادل مرّة أخرى حول من هو الأكبر بينهم، مثل الأخوة الّذين يتشاجرون على الميراث حول فراش موت أبيهم. وواحد منهم، في غضون ساعات قليلة، سيبيعه مقابل ٣٠ دينارًا: في اللّيلة الّتي أُسلِم فيها. في هذه الظّروف أسّس يسوع السّرّ الّذي يتعهّد من خلاله بأن يبقى مع خاصّته حتّى نهاية العالم. أين يمكننا أن نجد سرًّا "مهيبًا ومذهلاً" أكثر من هذا؟

علينا الآن أن نكمل مراجعتنا للقدّاس. فهو لا يتكوّن فقط من الصّلاة الإفخارستيّة وكلمات التّقديس؛ وإنّما هناك أيضًا ليتورجيا الكلمة والمناولة. ونحن نملك بعض الوسائل الّتي لم تكن موجودة في الماضي، لكي نُقيِّم ليتورجيا الكلمة ونجعل منها مناسبة لاختبار ما هو مقدّس. بفضل المسيرة الّتي قامت بها الكنيسة في هذه الأثناء في العديد من المجالات، أصبح لدينا مدخلاً جديدًا ومباشرًا إلى كلمة الله، ويمكن أن يتردّد صداها بغنى وذكاء أكبر ممّا كان عليه في الماضي. إنَّ اللّيتورجيا الحاليّة هي غنيّة جدًّا بكلمة الله، ومرتبة بحكمة، وفقًا لترتيب تاريخ الخلاص، في إطار طقوس غالبًا ما تعود إلى منطق وبساطة الأصول. وعلينا أن نقدّر هذه الوسائل. لا شيء يستطيع أن يخترق قلب الإنسان ويجعله يشعر بحقيقة الله الفائقة أفضل من كلمة الله الحيّة، الّتي يتمُّ إعلانها بإيمان وتناغم مع الحياة، خلال اللّيتورجيا. إنَّ الإيمان- كما يقول القدّيس بولس- يولد من سماع كلمة المسيح. كذلك تُطلق قراءة العهد القديم، من المقارنة مع نصّ الإنجيل، معانٍ جديدة ومنيرة. في الانتقال من الشّكل إلى الواقع- يقول القدّيس أوغسطينوس- يضيء العقل مثل "شعلة متحرّكة". وكما كان الحال مع تلميذي عمّاوس، يواصل يسوع شرحه لنا "لما يشير إليه في جميع الأسفار المقدّسة".

ومن ثمَّ هناك المناولة. كيف يمكن للّيتورجيا أن تجعل هذه اللّحظة مناسبة لكي نختبر ما هو مقدّس، ليس على المستوى الفرديّ فحسب، وإنّما على المستوى الجماعيّ أيضًا؟ من خلال الصّمت. هناك نوعان من الصّمت: الصّمت الّذي يمكن أن نسمّيه الصّمت الزّاهد والصّمت الصّوفيّ. صمت تسعى من خلاله الخليقة للارتقاء إلى الله، والصّمت الّذي يثيره الله الّذي يقترب من الخليقة. إنَّ الصّمت الّذي يلي المناولة هو صمت صوفيّ، مثل الصّمت الّذي نراه في ظهورات الله في العهد القديم. ولذلك علينا بعد المناولة أن نكرّر لأنفسنا قول النّبيّ صفنيا: "اصمتوا في حضرة الرّبّ الإله!"؛ وبالتّالي لا ينبغي أن تغيب أبدًا بعد المناولة لحظات الصّمت المطلق هذه، حتى وإن كانت قصيرة. لقد شعر التّقليد الكاثوليكيّ بالحاجة إلى إطالة وإعطاء فُسحة أكبر لهذا اللّقاء الشّخصيّ مع المسيح في الإفخارستيّا فطوّر على مرّ القرون، ولاسيّما بدءًا من القرن الثّالث عشر، عبادة القربان الأقدس خارج القدّاس. إنَّ عبادة القربان الأقدس هي العلامة الأوضح على أنّ تواضع المسيح واختبائه في سرِّ القربان المقدّس لا يجعلاننا ننسى أبدًا أنّنا أمام "الكلّيِّ القداسة"، الّذي خلق مع الآب والرّوح القدس السّماء والأرض. وبالتّالي حيث تتمُّ ممارسة هذه العبادة تظهر ثمارها أيضًا كوقفة بشارة، لأنَّ الكنيسة المليئة بالمؤمنين في صمت تامّ، خلال ساعة من العبادة أمام القربان المقدّس، ستجعل أيّ شخص يدخل، بالصّدفة، في تلك اللّحظة يقول: "إنَّ الله حاضر هنا!".

يمكننا نحن "خَدّام اِلمسيح ووُكَلاءَ أَسرارِ الله"، وبطرق مختلفة، كلّ مؤمن ملتزم في عبادة الكنيسة أن نشعر بالعجز أمام مثل هذه المهمّة السّامية: كيف يمكننا أن نساعد النّاس اليوم لكي يعيشوا خبرة ما هو مقدّس وما هو فوق الطّبيعة في اللّيتورجيا، نحن الّذين نختبر في أنفسنا كلّ ثقل الجسد وانعكاساته على الرّوح؟ هنا أيضًا الجواب دائمًا هو نفسه: "ستنالون القوّة من الرّوح القدس!" الّذي يُعرَّف بـ"روح الكنيسة"، وهو أيضًا روح ليتورجيّتها ونور الطّقوس وقوّتها. وبالتّالي فهي عطيّة أن يكون الإصلاح اللّيتورجيّ الّذي حقّقه المجمع الفاتيكانيّ الثّاني قد وضع في محور القدّاس الإلهيّ استحضار الرّوح القدس: أوّلاً على الخبز والخمر ومن ثمّ على جسد الكنيسة السّرّيّ بأكمله. ولكن هناك لؤلؤة نقلها القانون الرّومانيّ أو الصّلاة الإفخارستيّة الأولى من جيل إلى جيل، وقد حفظها الإصلاح اللّيتورجيّ وأدخلها في جميع الصّلوات الإفخارستيّة الجديدة: وهي المجدلة الأخيرة: "فبالمسيح، ومع المسيح، وفي المسيح، نرفع إليك، أيّها الآب القدير، في وحدة الرّوح القدس، كلّ إكرامٍ ومجد، إلى أبد الدّهور". تعبّر هذه الصّيغة عن حقيقة أساسيّة صاغها القدّيس باسيليوس في أوّل أُطروحة كُتبت حول الرّوح القدس. ويكتب فيها، على مستوى الوجود، أو خروج المخلوقات من الله، كلّ شيء يبدأ من الآب ويمرّ بالابن ويصل إلينا بالرّوح القدس. بترتيب المعرفة أو عودة المخلوقات إلى الله، كلّ شيء يبدأ بالرّوح القدس، ويمرّ بالابن يسوع المسيح ويعود إلى الآب. وبما أنّ اللّيتورجيا هي بامتياز لحظة عودة المخلوقات إلى الله، على كلِّ شيء فيها أن يبدأ من الرّوح القدس ويأخذ دفعًا منه.

لقد كان كتاب القدّاس القديم يحتوي على سلسلة كاملة من الصّلوات الّتي كان على الكاهن أن يتلوها استعدادًا للقدّاس. اليوم لا يمكننا أن نستعدَّ للاحتفال بشكل أفضل إلّا من خلال صلاة قصيرة وإنّما عميقة للرّوح القدس لكي يجدّد فينا المسحة الكهنوتيّة ويضع في قلوبنا الدّفع عينه الّذي وضعه في قلب المسيح لكي نقدّم ذواتنا للآب ذبيحة عذبة. تقول الرّسالة إلى العبرانيّين إنّ يسوع "قَرَّبَ نَفْسَه إلى اللهِ بِروحٍ أَزَلِيٍّ قُرْبانًا لا عَيبَ فيه" لنصلِّ لكي يتمَّ ما حصل في الرّأس فينا أيضًا، نحن أعضاء جسده."