كلّاس: إنسانيّة الزّيارة اللّاوونيّة وروحانيّتها
"البعد الإنسانيّ في زيارة البابا لاون الرّابع عشر إلى لبنان طغى على البعدين الرّوحيّ والحضاريّ، وتجاهلَ البُعد السّياسيّ، مرتكزًا على فنّيَّةِ إبراز القيم الّتي تبشّر بها المسيحيّة، والّتي أساسها السّلام الإراديّ والمحبّة، و ليس سلام الأقوياء وسلام السّلاح والمسلّحين الّذي يحمل بمضمونه ظروف الهِدَن الموقّتة المرهونة بخطر تبدّل الظّروف وسقوط هدنة المصلحة، فتتجدّد النّزاعات وتنشب الحرب من جديد، وتُغتالُ كلّ مبادرة توفيقيّة للتّسالم .
إنّ المقاربة الأنسب لتقويم زيارة قداسته إلى لبنان، بما يعنيه من أنّه الوطن الرّسالة، هو تناول معنى لبنان ووظيفته من خلال ثلاثيّة عناصر، روحيّة و حضاريّة و حواريّة، توافقًا مع شعار (طوبى لفاعلي السّلام) الّذي أعلنه عنوانًا للزّيارة، تأكيدًا إصراريًّا من قداسته في أوّل زيارة حبريّة له رسميّة خارج الفاتيكان، إنّ مواجهة ما تتعرّض له هذه الرّسالة اللّبنانيّة من مخاطر حادّة، وما يتهدّدها من تحدّيات قاسية كونها النّموذج النّقيض للكيانات الانقساميّة والعنصريّة، لا يمكن أن تتحقّق إلّا من خلال الانتقال من الاحتفاء بشعاريّة الرّسالة إلى عمليّة تحصين هذه الرّسالة والدّفع نحو تقعيد أسسها، ترسيخًا للمفهوم الّذي انطلق منه هذا الشّعار الحضاريّ وتعميمًا للقيم الإنسانيّة الّتي يحملها لبنان، بنهائيّات رسالته في مجتمع كثير التّحوّلات تحوط به الأخطار المهدّدة لوجوده من غير اتّجاه.
المبادرة البابويّة هي تأكيد وقرار أنّ لبنان غير متروك لقدره، وأنّ تحصين دوره الحضاريّ والروحيّ والحواريّ التّلاقويّ بين أبناء الأديان، هو تحصين لخيار الكيانيّة اللّبنانيّة النّموذجيّة والمثاليّة والطّوباويّة الّتي تتشارك بحمايتها الطّوائف اللّبنانيّة، الّتي تشكّل طائفة الطّوائف بكلّ مذاهبها ومعتقداتها، والّتي تلتقي لتكوُّن نموذجًا استثنائيًّا في تاريخ المجتمعات والجماعات الرّوحيّة ومسار التّطوّرات العصريّة.
فالقيمة الحضاريّة للزّيارة أنّها ليست لزيارة المسيحيّين فقط، بل للبنان بكلّ مكوّناته وأهله، في حين أنّ الخصوصيّة الرّوحيّة الّتي ترافقها تقوم على معادلة واقعيّة هي أنّ الصّيغة ترتكز إلى أسس تتعاقد فيها الكيانات الرّوحيّة وتتشابك قيمها وتتكامل مسؤوليّاتها لتشكّل النّمط النّموذجيّ الّذي يُبنى عليه لصناعة حضارة السّلام الرّوحيّ المرتكز على الخصوصيّة اللّبنانيّة والرّافع شعار الكيانيّة الوجوديّة للبنان مشفوعة بتجديد الرّجاء وتقعيد أسس السّلام، و تعزيز منطوق الكنيسة الخادمة ورفع شعار الحوار والكلمة والحثّ على اعتماد سياسة الخير العامّ وانتهاج مسؤوليّة التّواضع في ادارة الشّأن العامّ وتشجيع مبادرات جريئة تتّصف بفائض السّلام .
القيمة الإنسانيّة للزّيارة الّتي وصفت بالاستثنائيّة، هي في زمنيّتها وعنوان مهمّتها و مفاعيلها التّغييريّة في نفوس النّاس، إضافة إلى أنّها حفلت بتوجيه كلام مباشر للشّباب، حيث خاطبهم قداسته وأصغى إليهم وحاورهم وشجّعهم على مواجهة تحدّيات الحياة بفرح وثقة، لأنّ الغد لهم وأنّهم المؤتمنون على لبنان الغد وأن يكونوا شهودًا للحقّ وناطقين بالحقّ ومدافعين عن الحقيقة ومتقوّين بقيمة الحرّيّة، الّتي من دونها لا كرامة إنسانيّة ولا حقّ بالحياة الشّريفة .
والزّيارة بطابعها الرّسميّ والمجتمعيّ والرّوحيّ، سادها التّوازن الدّقيق في إدارة الاهتمام والرّعاية. فعلى المستوى الرّسميّ أثبت الدّور الفاتيكانيّ حضوره كدولة من خلال ما تفرضه الأصول البروتوكوليّة والرّسميّة للزّيارة، من لقاءات وتبادل كلمات مع الرّؤساء والمسؤولين .
وعلى المستوى التّكوينيّ للمجتمع اللّبنانيّ، أكّدت الزّيارة عمليًّا على دور التّلاقي الحواريّ والتّفاعليّ والتّفاهميّ مع رؤساء الطّوائف، كمرجعيّات ذات كيانيّة حضوريّة وموقعيّة حضاريّة، فكانت اللّقاءات مع رؤساء الطّوائف ركنًا أساسيًّا في برنامج عمل الزّيارة المُتْقَن الإعداد والتّحضير، إضافة إلى اللّقاء مع الشّباب ومخاطبتهم بلغة الرّعاية والمسؤوليّة وتشجيعهم للثّقة بوجوهم وتاريخهم ومستقبلهم .
إحتفاليّة الزّيارة الّتي أعطت دفعًا للبنان السّياسيّ والمجتمعيّ، لا بدّ أن تترك مفاعيل إيجابيّة على مستقبل الوضع ونشر ثقافة السّلام وتجسيد مفهوم السّلام في النّفوس والواقع ومستقبل الإنسانيّة، الّتي تتهدّدها مخاطر إبليسيّة تسعى إلى التّسلُّح والتّسليح وتشجيع الشّرذمة والانقسام وصناعة الحرب، نقيضًا لصناعة السّلام المبنيّ على تعاليم روحيّة وقيم مجتمعيّة تلاقويّة، يشكّل لبنان مصهر تفاعلها ومثالَ نموذجيّتها الّذي يجبّ المحافظة {كمحميّة روحيّة{.
هو السّلام المُبشَّر به بالصّلاة و الرّجاء والمُوَقَّع عليه بالدّمع والتّرحُّم على شهداء ارتفعوا ضحايا على جلجثات الوطن المُثقَل بجراحٍ عمَّقها طغيان السّياسة على الخير العامّ.
الزّيارة اللّاوونيّة إلى لبنان، تُقرأ بالصّورة وتُحلَّلُ بالمضمون وتُستشعرُ بالدّلالة، وتُعاشُ بتفاعل النّاس كلّ معها وما تتركه في النّفوس من عزاءات ورجاءات واستشفاعات، والّتي أكثرها حَرقةً، دموع أهل ضحايا مرفأ بيروت الّتي إستدمعت كلّ من شارك وشهد وواسى وصلّى وترحَّم.
الزّيارة اللّاوونيّة باستثنائيّتها وزمنيّتها، هي أكثر من حجٍّ إلى وطن الرّسالة. هي تعهّد وعهد أن يبقى لبنان في قلب الفاتيكان وضمير الإنسانيّة وعين الله ..!".
