دينيّة
17 تشرين الثاني 2015, 22:00

كلمة الأب بطرس عازار الأنطوني حول ندوة "رعويّة الرحمة" : " التربية على الرحمة"

ذات يوم سأل عالم بالتوراة يسوع "من هو قريبي"، فحكى له يسوع قصة السامري الصالح، وكيف عامله، في معاناته ثلاثة: اثنان من بني ملته، وواحد من اعدائه، وسأل: أيُّ هؤلاء الثلاثة كان قريب ذلك الرجل؟ فأجابه عالم التوراة: "الذي صنع له الرحمة" (لو 10: 19 – 27).واليوم، وفي زمن ضاعت فيه مقاييس كثيرة، وتشوّهت علاقات بعض الناس ببعضهم الآخر، وطغى العنف على السلام، تستمر هناك "بقية" على الشهادة لقناعاتها بتلازم الرحمة والمعاملة الحسنة مع قربى الاخوّة الواجب أن تكون بين جميع الناس، طبقاً لما قاله الطوباوي البابا بولس السادس: "كل انسان هو أخ لي". وفي هذه المرحلة الاعدادية لأسبوع الكتاب المقدّس تندرج مداخلتي، "التربية على الرحمة"، آملاً أن تضيء بعض عتمات سببتها محاولات بعضهم "تبرير نفسه" من خلال توجيه الاتهامات لدور المدرسة، وبخاصة المدرسة الكاثوليكية، متناسياً ما قامت به من أعمال رحمة، ومتغافلاً عن الدور الذي تلعبه في خدمة الأجيال الطالعة وتنشئتها على صداقة "الحق والخير والجمال" وعلى التضامن مع الآخرين "لتمسح عن عيونهم" كل دمعة سببها الجهل والحقد والأنانية.

وإذا كانت الرحمة قيمة، فالتربية هي أيضاً قيمة وهي تكبر وتتألّق عندما تقترن بالرحمة، وهذا الاقتران يرتكز على أمور كثيرة، ابرزها أربعة: الكتاب المقدّس، تعاليم الكنيسة، وأصالة الطبيعة البشرية، واحترام البيئة.

أولاً: مصدر التربية على الرحمة في الكتاب المقدس

عندما نطالع الكتاب المقدس نرى بوضوح ان الرحمة صفة ملازمة لكل اسفاره. إذ لا يخلو سفر من توقف على الرحمة التي تبقى صفة ملازمة لله تعالى. ففي سفر التكوين مثلاً، يظهر الله رحوماً في الخلق بحيث يخلق كل شيء حسناً، وبالتالي فهو يخلق أكمل مخلوقاته، الإنسان، "على صورته كمثاله" (تكوين 1). لقد أراد رب العالمين أن تكون الحياة، وأن يكون الحُسن، علامتين على الخير الذي غمر به الكون والانسان، ولذلك يقول كاتب سفر المزامير: "الخير والرحمة يلازماني جميع أيام حياتي" (مز 23:6)، ويتابع فيقول: "يا ربّ للأبد رحمتك، فلا تهمل أعمال يديك" (مز 138:8).

وفي سفر الخروج أيضاً نعرف "أن الرب هو إله رحيم ورؤوف، طويل الاناة، كثير الرحمة والوفاء" (34:6)، ومَن يريد أن يتعرف على الله من الواجب عليه أن يعرفه بهذه الصفات. من هنا فان رحمة الله هي التي "تخرجنا من أرض العبودية".... وتؤكّد لنا انه "يصنع رحمة إلى الوف من محبّيه وحافظي وصاياه" (خروج 20: 2 و6).

فالله هو كثير الرحمة وعلى الذين يؤمنون به أن يسمعوا لأقواله ويلتزموا تعاليمه. صحيح ان المهمة شاقة وصعبة ولكنها بالصبر والمثابرة ممكنة وتوصل إلى "المراعي الخصيبة". من هنا فان مهمة المربي لا تقف عند الحواجز بل تتخطاها لتجعل الحكمة والعلم إبحاراً في "تعليم الله" وثباتاً في "الرحمة والحق". يقول سفر الأمثال: "يا بنيّ، لا تنسَ تعليمي... لا تفارقك الرحمة والحق، بل أشددهما في عنقك واكتبهما على لوح قلبك فتنال الحظوة والتعقّل عند الله والناس..." (3: 1 – 4).

من هنا يأتي وجوب تأسيس كل تعليم وتربية على صداقة الحق والرحمة، وبالتالي على صداقة الله، "الغني برحمته، والذي لكثرة محبته... أحيانا مع المسيح، وبالنعمة جعلنا مخلّصين..." (أفسس 2:4). أوليست هذه هي غاية التربية عند الذين "يعرفون الحق" و"يسعون إلى السلامطبعاً للجواب على هذا السؤال لا بدّ من التجرّد عن الاهواء لإعلان موقف إيماني جريء في مواجهة تيارات ملحدة تحاول الاستقلال عن الله والاستكبار عليه وتجاهل تعاليمه. واستناداً إلى ما تقدّم أرى ان التربية على الرحمة ترتكز على الكتاب المقدس الذي يعرفنا على حقيقة الله ويصوّب مسيرتنا على الأرض ويشجعنا لنعلن دوماً ان "كلمة الله هو مصباح لخطانا".

وعليه يصح قول من قال: "ان من جهل الكتاب المقدّس جهل الله". اليوم نحن نخاف من تربية تناهض تعليم الله وتعاليم الكنيسة لتزج بالإنسان في "بابل جديدة" وفي ضياع نرى الكثير من مظاهره. رجائي ان تعزّز مدارسنا وعائلاتنا وجماعاتنا دوماً التنشئة على الإيمان والتربية على التأمّل الدائم بكلام الله وعلى مطالعة الكتاب المقدّس، لأن في ذلك قدرة على مواجهة كل إهمال للقريب وعلى ابتداع طرق جديدة للدخول إلى قلب أخينا الإنسان، كائناً من كان.

ثانياً: التربية على الرحمة ترتكز على تعاليم الكنيسة

في ايلول الماضي نظّمت المدارس الكاثوليكية مؤتمرها السنوي بعنوان: انتظارات الخدمة الاجتماعية، وكان تعليم الكنيسة الاجتماعي محوراً بارزاً من محاور هذا المؤتمر، فيما تصدّرت كلمة الرحمة شعاره. وقد جاء هذا المؤتمر متزامناً مع دعوة قداسة البابا فرنسيس ليوبيل الرحمة، تحت عنوان أصبح معروفاً، هو: "طوبى للرحماء فانهم يُرحمون" (متى 5/7). واستناداً إلى كل ما تقدّم فان كل خدمة اجتماعية، مطبوعة بطابع الإنجيل، هي وقفة تساعد على التربية على الرحمة. من هذا المنطلق يعلن الدستور في الليتورجيا المقدسة "ان الكنيسة تكمل تثقيف المؤمنين... برياضات تقوية روحية وجسدية، وبالتعليم والصلاة والتوبة وأعمال الرحمة" (105).

ومن جهة ثانية يؤكّد القرار المجمعي في رسالة العلمانيين على "ان كل عمل رسولي يجد أصوله وقوته في المحبة"، ويقول: بان الكنيسة تقدر الرحمة تجاه الفقراء والمرضى حق قدرها، وكذلك ما يُدعى بالاعمال الخيرية وأعمال التعاون المتبادل لتلطيف حاجات البشر على أنواعها".

واستناداً إلى ما تقدم اعتبر التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية ان "ثمر المحبة الفرح والسلام والرحمة، وهي تقتضى الاحسان واصلاح القريب" (1829). واعتبر أيضاً ان "التعليم والنصح والتعزية وتقوية العزم هي أعمال رحمة روحية... فيما تقوم أعمال الرحمة الجسدية على إطعام الجياع وعيادة المرضى وزيارة السجناء...".

ان واجبنا اليوم ملح للتجاوب مع تعاليم الكنيسة وللقيام بالتنشئة والتربية على أعمال الرحمة والمحبة لكي ننزع من عالمنا الصفحات السوداء التي يكتبها الكثيرون ممن تخلوا عن الإيمان وعن كل ما تدعو إليه تعاليم الكنيسة كالمحبة والغفران واحترام الآخر والقبول به موجوداً، وبذلك تتعزز في القلوب الرحمة لتصبح علامة تقارب بين جميع الناس لتقديم تنشئة انسانية وتخلق جواً من المحبة والحرية بحيث "توجه الثقافة الإنسانية، كما يقول البيان في المسيحية، (8) لنشر الخلاص بنوع ان الإيمان ينوّر المعرفة التدريجية التي يتلقاها التلامذة عن العالم والحياة والإنسان...".

ان هذه الرحمة التي يدعونا قداسة البابا فرنسيس للاحتفال بيوبيلها هي التي ننشئ عليها في مدارسنا لنعزّز روح العدالة والخير العام وكرامة الإنسان والمجانية وبخاصة التضامن طبقاً لما قاله البابا فرنسيس: "دعونا نتعلم عيش التضامن، فمن دون التضامن، يكون إيماننا ميتاً".

ثالثاً: التربية على الرحمة ترتكز على اصالة الطبيعة البشرية

عندما خلق الله الإنسان خلقه حسناً، والكتاب المقدّس يعلمنا، كما ورد في الدستور الراعوي الكنيسة في عالم اليوم، "ان الانسان خُلق على صورة الله"، وصاحب المزامير "اعتبر ان الله أنقص الإنسان عن الملائكة قليلاً وكللّه بالمجد والكرامة وسلطه على أعمال يديه وأخضع كل شيء تحت قدمه" (مزمور 8: 5 – 7) وإلى هذا الشرف الذي كان للإنسان، هناك الاعتبار بأنه كائن اجتماعي يتميز بعلاقاته مع الآخرين...

لقد ورد في ديباجة الشرعة التربوية لمدارسنا الكاثوليكية ان الانسان يحمل في جوهره دعوةً للنمو بالقامة والحكمة أمام الله والناس من خلال التربية والتعليم، ومن خلالهما يكون صقل الشخصية عن طريق تكوين الإرادة والحرية والمسؤولية.

وقد ركّزت هذه الشرعة على ان الكنيسة في لبنان تسعى من خلال مؤسساتها التربوية لأن تبلغ بالإنسان إلى المعرفة الشاملة والمتنوّعة، التي تتماشى مع التقدّم العلمي والتقني، من خلال تربيته على نظرة مسيحية للإنسان والعالم، وعلى الحياة الجماعية المبنيّة على الحياة المشتركة، والاهتمام بالخير العام، واحترام التعدّدية الثقافيّة، والاجتماعيّة، والدينيّة، وتنشئته على احترام حقوق الإنسان، وعلى الالتزام المسيحي بشهادة الحياة اليوميّة، وبمسيرة بناء الوطن.

من هذه المفاهيم تتجلى الرحمة الواجب أن يتميز بها الإنسان في علاقاته مع الآخرين وفي خدمة الشأن العام، ولذلك تأخذ التربية على الرحمة واعمال الرحمة في مدارسنا حيزاً كبيراً من خلال نشاطات متنوعة تجدِّد الإنسان وتدفعه لكي يكون أكثر حضوراً لأخيه الإنسان.

ولعلّ هذه الرحمة هي التي تعزّز "النظام الذي يسود المجموعات البشرية والذي هو في طبيعته نظام غير مادي: فهو مؤسّس على الحقيقة ويجب انجازه وفق مقتضيات العدالة ويحتاج إلى المحبة المتبادلة لاحيائه وتطويره نحو الكمال، كما وان الحرية التامة تضمن له التكيّف مع مساواة تغدو يوماً بعد يوم "أكثر انسانية". هذا ما قاله البابا القديس يوحنا الثالث والعشرون في رسالته العامة: "السلام على الأرض، 37. وكأني بهذا القديس قد أراد أن يؤسس الرحمة وأعمالها على الحقيقة والعدالة والمحبة والحرية". وكل تربية على الرحمة لا تأخذ بعين الاعتبار هذه القيم تبقى تربية ناقصة.

رابعاً: التربية على الرحمة ترتكز على احترام البيئة

لقد شدّدت الشرعة التربوية المنوّه عنها أعلاه في المادة 17 على احترام الآخرين على اختلاف قناعاتهم وأواضاعهم ومواقفهم وعلى الحوار والمشاركة والتعاون توصلاً إلى تحقيق الخير العام وإيجاد الحلول للمشاكل.

كما شدّدت المادة 19 على ترسيخ روح العدالة والمصالحة والسلام القائمين على تنقية الذاكرة من البغض والتنابذ والتفرقة. والمادة الثانية والعشرون دعت إلى "إبراز أهمية الأرض وتثبيت العلاقة بها، والعمل على تثمير خيراتها، وتقوية الحنين إليها، وعدم اعتبارها سلعة تجارية، والحفاظ على الطبيعة وتنميتها وتجميلها والاهتمام بالبيئة بأوجهها كافة، بما يضمن المصلحة المشتركة لأبناء الوطن".

أوليست هذه القيم هي التي تساهم بالتربية على الرحمة وعلى كل أعمالها؟

ولعلّ ما أشار إليه البابا فرنسيس في الفصل السادس من رسالته البابوية العامة: كن مسبحاً، هو في حد ذاته خطة طريق من أجل تعزيز أعمال الرحمة تجاه الإنسان وتجاه الأرض. يقول: (202) "البشرية هي بحاجة للتغيير. هناك نقص في الوعي بالأصل المشترك، وبالانتماء المتبادل، وبمستقبل يتشارك به الجميع".

ويقول في البند 210: "تبقى على التربية البيئية ان تعدنا بقفزه نحو السر الذي منه تنهل الأخلاقية الايكولوجية معناها الأعمق... هناك مربون قادرون على إعادة وضع المناهج التربوية المرتبطة بالأخلاقية الايكولوجية، لتساعد بفعالية على النمو في التضامن وفي المسؤولية وفي الرعاية المبنية على التعاطف، وكل ذلك من أجل خلق مواطنية ايكولوجية..."

وبعد أن عدد قداسته بيئات التربية وأبرزها المدرسة، والعائلة ووسائل التواصل والتعليم الديني، دعا إلى "توبة ايكولوجية... وإلى خبرة توبة وخبرة تغيير للقلب".

ان عالمنا ومجتمعنا وبيئتنا وأرضنا هم بحاجة إلى هذه التوبة، توبتنا، يعني بحاجة إلى تربية على الرحمة، إلى رحمتنا، لكي تتعزّز فيهم "ثمار الروح" ويعود الحسن الذي كان عليهم في البدايات.

خامساً: خاتمة

ان هذه المرتكزات الأربعة للتربية على الرحمة وغيرها أيضاً تساعدنا لكي تصبح، كما يقول البابا فرنسيس في رسالته عن اليوم العالمي للشباب المقبل "رسلاً للرحمة من خلال الأعمال والكلمات والصلاة في عالمنا المجروح نتيجة الأنانية والحقد واليأس الشديد".

ولعل صلاة القديسة فاوستينا التي دعا البابا فرنسيس الشبيبة إلى تلاوتها، تكون أجمل تعبير عن التربية على الرحمة، قالت: "ساعدني يا رب كي ... تكون عيناي رحومتين حتى لا تنتابني الشبهات ولا أحكم استنادا إلى المظاهر الخارجية، كي أعرف كيف أرى ما هو جميل في نفس قريبي وكيف أساعده ... يكون سمعي رحوما، كي أنحني على احتياجات قريبي، وكي لا تكون أذناي غير مباليتين بآلام قريبي وأنينه ... يكون لساني رحوما لا يتكلم بالسوء عن القريب، بل يحمل كلمة مواساة ومسامحة لكل شخص ... تكون يداي رحومتتين ومفعمتين بالأعمال الجيدة ... تكون رجلاي رحومتين كي أهب دائما لمساعدة القريب، متغلبة على قنوطي وتعبي ... يكون قلبي رحوما كي يشارك في معاناة القريب كلها". (اليوميات، 163).
 

المصدر : المركز الكاثوليكي للإعلام