لبنان
21 نيسان 2016, 16:27

كلمة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي في الندوة حول كتاب المطران يوسف رزق - بكركي الخميس 21 نيسان 2016

برعاية وحضور غبطة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي جرى بعد ظهر اليوم الخميس 21 نيسان 2016، في الصرح البطريركي في بكركي، إطلاق كتاب "المطران يوسف رزق الجزيّني 1780-1865" للمؤلف الخوري مخايل قنبر، خلال ندوة شارك فيها البروفسور الاب سليم دكاش اليسوعي رئيس جامعة القديس يوسف، الدكتور عصام خليفة امين الاعلام في الحركة الثقافية – انطلياس، المحامي امين رزق من لجنة وقف مار يوسف – جزين والدكتور انطوان سعد امين عام جامعة الحكمة.


في ختام الندوة القى البطريرك الراعي كلمة جاء فيها:
"1. يسعدني أن أعرب باسمكم عن الشّكر الكبير للخوري مخايل قنبر على تحقيق هذا الكتاب النفيس عن حياة المثلَّث الرحمة المطران يوسف رزق، ابن جزين العزيزة، باني ومؤسّس وقفية مار يوسف ومدرستها وكنيستها ومقدِّم أراضيها، ورئيس مدرسة عين ورقة، وعن الأحداث الكنسيّة والمدنيّة والسياسيّة التي رافقت حياته من مولده سنة 1780 حتى مماته سنة 1865. وقد توزّعت بين 28 سنة قبل الكهنوت، و26 سنة بعده، و31 سنة في الأسقفية. وكان له دور مميّز ودقيق في معالجة العديد منها. هذا الكتيّب يبرز شخصية كاهن وأسقف مميّزة وصفحة غنية من تاريخ لبنان اتّصف بها القرن التاسع عشر. أهمية هذا الكتاب أنه ينهل من مخطوطات رسمية محفوظة في أرشيف كلّ من عين ورقة في بكركي ومجمع انتشار الإيمان في روما وجمعية المرسلين اللبنانيّين.
2. "كان المطران القدوة الذي يتمتّع بخصال حميدة عديدة؛ فكان في حياته الروحية قدوة لتلاميذه ومعارفه، يحرص على إداء فروض صلاته في أوقاتها، وعلى ممارسة الإماتات وأعمال التقشف. وكان ورعًا في عبادته، لا يجلس في الكنيسة بل يكون فيها دائمًا منتصبًا في ركوعه. كان في حياته اليومية محبًّا للعلم والعمل، "وكثيرًا ما كان يتمثّل بهذا القول "إن البطالة قبر الأحياء". كان بارعًا في إدارة الأعمال، ويتمتّع بنظرة ثاقبة في الأمور الاقتصادية، وكان ذا فراسة غريبة، ولهذا كان معاشروه عند وقوع الحوادث يتذكرون إنباءه بوقوعها قبل أوانه. كان سخيًّا مضيافًا يساعد مَن يلتجئ إليه (صفحة 202).
"كان في حياته الاجتماعية والسياسية شديد المقاومة لأرباب السلطة، الذين يستغلّون سلطتهم الزمنية من أجل تحقيق مآربهم الشخصية وقد اتّخذ في السياسة مواقف متمايزة عن بقيّة رجال الإكليروس في أيامه" (صفحة 203).
 
3. يقترن اسم مدرسة عين ورقة باسم المطران يوسف رزق:
تولّى الوكالة العامّة على أرزاقها سنة 1825، فبدأ حالًا بورشة الإصلاح الكبير، ثمّ تسلّم رئاستها سنة 1834 فواصل ترقّيها وازدهارها ونموّها على كلّ صعيد. ضبط إدارتها، وحرّر أملاكها من الاعتداءات، وأصلح أرزاقها وحفظها، وأوفى ديونها، واشترى لها في مدّة أربع سنوات (1853-1839) أربعة عشر عقارًا في مناطق عشقوت، والدامور، والشويفات، وحالات وغوسطا وعلما وسواها (راجع التفاصيل في ص123، 133 وما يليها، و175).
4. هذا من الناحية الماديّة، أمّا من الناحية العلميّة والروحيّة، بتشجيع ومساندة من البطريرك يوسف حبيش، راح المطران يوسف رزق يعمل على رفع مستواها، بحيث تسدّ الفراغ الذي أحدثه إقفال المدرسة المارونيّة في روما سنة 1733. فأضاف تعليم اللّغتَين الإيطالية واللاتينيّة على اللّغتَين العربية والسريانيّة منذ سنة 1826، ثمّ اللغة الفرنسيّة سنة 1860. وهكذا أصبحت أوّل مدرسة أكاديميّة عالية للكنيسة في لبنان، بعد مدرسة روما التي تأسّست سنة 1584. وبعد أن أحرزت مدرسة عين ورقة نجاحًا مرموقًا، توصّلَ المطران يوسف إلى الحصول من مجمع إنتشار الإيمان بروما، على جعلها بمرسوم 20 تموز 1840 كاتدرا العلوم الفلسفيّة واللاهوتيّة (راجع ص 142-143).
ولقد خرّجت العديد من رجالات التاسع عشر والقرن العشرين، من بطاركة وأساقفة وكهنة وعلماء، ومن أعلام في الخطابة والفلسفة واللاهوت والشعر واللغة العربية والرياضيات والموسيقى والتاريخ والفقه (راجع ص 144، وص192-194).
5. وسارت، كعادة ضعفاء النفوس، حملات الافتراء وشهادات الزور بحقّ المطران يوسف رزق، عبر القصّاد الرسوليِّين، لدى مجمع انتشار الإيمان في روما، الذي كان في حينه مرجع كنائس الشّرق، قبل تأسيس مجمع الكنائس الشرقيّة. فدافع المطران يوسف عن نفسه بأعماله وإنجازاته، وبنزاهته وصلاته وتقشّفاته وأعمال الخير. هذه كلّها كانت خطّ دفاعه الأوّل (راجع صفحة 118- 122؛ 125- 126).
لكنّ الكذب والإفتراء والنميمة كلّها سريعة الإنكشاف، فتسطعَ الحقيقة كالشّمس. وهكذا سرعان ما وصلت الحقيقة إلى الحبر الأعظم البابا الطوباوي بيوس التاسع، فكلّفَ إسكندر برنابو، رئيس مجمع إنتشار الإيمان، أن يكتبَ إلى المطران يوسف رزق في 22 أيلول 1856، رسالة امتداح على أعماله في مدرسة عين ورقة، مع هديّة كأس كرّسه البابا القدّيس (راجع نصّ الرسالة صفحة 182).
6. أُسعدتُ في ايلول الماضي برفع السّتارة عن نُصب المطران يوسف رزق، بمناسبة الزيارة الراعويّة التي قمتُ بها إلى منطقة جزين بدعوة كريمة من سيادة أخينا المطران الياس نصّار، رئيس أساقفة صيدا. وقد شاءَ معالي النائب والوزير السابق الأستاذ إدمون رزق وآل رزق الكرام رفع هذا النُّصب أمام وقفيّة المطران يوسف المؤلّفة من المدرسة والكنيسة والعقارات الموقوفة لها.
في سنة 1845 بنى من ماله الخاصّ مدرسة جزين بأقبيتها الأربعة وملاعبها، وجهّزها بأملاكٍ وفيرة. فكان لها الفضل الخاصّ في تثقيف أبناء جزّين والمنطقة من سنة 1856 إلى سنة 1913، وأرادها أن تتبع منهج مدرسة عين ورقة (صفحة 172 و189 -192). وفي سنة 1865 أنهى بناء كنيستها الجميلة على اسم القديس يوسف. وكان قد جعلَ المدرسة والكنيسة المنوي بناؤها وقفًا على فقراء أبرشيّة صيدا، بتولية مطران صيدا ووكالة آل رزق. فأثبتَ البطريرك بولس مسعد هذه الوقفية، وسجّلَ صكّها في ديوان البطريركيّة (صفحة 189).
7. لقد تزامنت حياة المطران يوسف رزق مع مجرى تاريخ القرن التاسع عشر وأحداثه الكنسيّة والمدنيّة وأهمّها الفتن التي توالت سنة 1840 و1845 و1860، وضربت الجبل اللبناني ووحدته، وإنشاء القائمقاميَّتَين، ثمّ نظام المتصرفية.
كان للمطران يوسف في كلّ هذه الأحداث والإمارة الشهابية ديبلوماسية وحكمة ودراية. ورؤية ورأي، بشجاعة وتجرّد وتواضع.
يصف الخوري مخايل قنبر القرن التاسع عشر بأنّه "القرن المتلوِّن العقود، الذي صبغ تاريخ لبنان الحديث بألوان لم يزَل بعضُها باهتًا حتى الآن. فهو القرن الذي ظهَّر هويّة لبنان التعدّدية بمزاياها وبلاياها. هو القرن الذي أطلق قطار العلم والمعرفة، فاستقلّه كثيرون من أبناء الوطن. كما أنّه القرن الذي أظهر براثن الطائفية، قتقاتل إخوان الأمس، وتحالف أعداء الماضي. كلّ ذلك برعاية قناصل الدول الأوروبية، وتحريض السلطنة العثمانية الهرمة. هو القرن الذي لعبت فيه الكنيسة المارونية أدوارًا متعدِّدة تشبه شخصيّات أحبارها. فخطّت في تاريخ لبنان سطورًا لن تُمحى".
8. غاية هذا الكتاب القريبة التعريف بشخصية المطران يوسف رزق وإنجازاته في مدرسة عين ورقة التي رئسها، ومدرسة جزين التي أسّسها، ودوره الكنسي والوطني في أحداث القرن التاسع عشر. أمّا غايته البعيدة والمنشودة فهي أن تكون قصة هذا الكبير من عندنا "عبرةً للأجيال. فلا من مدرسة أرقى وأعظم من مدرسة التاريخ والزمن" (ص 26). "إن خلاص لبنان يكمن في حسن قراءة تاريخه الثقافي والحضاري العريق، حيث الرجال مثال يُحتذى به" (ص 16).
معلوم أنّ الحاضر المبني على وعي الماضي هو الأساس الضامن للمستقبل الأفضل.
 
كتاب الخوري ميخائيل قنبر خير برهان لهذه الحقيقة. فالشكر كلّ الشكر له على تعبه. نرجو لكتابه الرواج الذي يستحقّه، ولغايته بلوغ مبتغاها."