كلمة البطريرك يوحنّا العاشر في افتتاح المؤتمر اللّاهوتيّ في جامعة تسالونيكي
"إنّها لبركة كبيرة أن نجتمع في جامعة أرسطو- تسالونيكي اليوم في هذا المؤتمر الهامّ، حيث نتعمّق في تاريخ واحدة من أكثر المدن المحوريّة في تاريخ إيماننا– ألا وهي أنطاكية العظمى، "تاج الشّرق الرّائع"، المدينة الّتي اكتسبت أهمّيّة عالميّة كبيرة، قبل أن تصبح مهدًا للبشارة بالإنجيل إلى الأمم، ومركزًا للحياة الرّوحيّة واللّاهوت المسيحيّ. فقد أضحت أنطاكية عاصمة مملكة سوريا السّلوقيّة، ثمّ مدينة رئيسيّة في الإمبراطوريّة الرّومانيّة والمركز الرّئيسيّ للتّجارة والجيوش في شرق الإمبراطوريّة، علمًا بأنّ يوليوس قيصر جعلها "متروبوليس مقدّسة ومستقلّة، لا يُسمح بالاعتداء على حدودها، تحكم وتترأّس على سائر المشرق". واستمرّت هذه المدينة تتغلّب على كلّ التّحدّيات الّتي هدّدت بقاءها، وسطع إشعاعها كمنارة في الفترة الإسلاميّة، وخلال استعادتها من قبل الرّوم، ثمّ خلال حكم الصّليبيّين لها.
تأسّست أنطاكية في القرن الرّابع قبل الميلاد على يد سلوقس الأوّل نيكاتور، أحد جنرالات الإسكندر الأكبر، على موقع استراتيجيّ على ضفاف نهر العاصي. وبفضل موقعها الّذي يتوسّط ساحل البحر الأبيض المتوسّط والأراضي الدّاخليّة، سرعان ما اشتهرت المدينة كمركزٍ تجاريٍّ مزدهر وملتقى للثّقافات والحضارات. وبحلول القرن الأوّل الميلاديّ نمت أنطاكية لتصبح واحدة من أكبر المدن في الإمبراطوريّة الرّومانيّة. وقد ساهمت أسواقُها النّابضة بالحياة وهندستها المعماريّة المذهلة ونشاطاتها الفكريّة الواسعة النّطاق في ترسيخ مكانتِها كمنارة للثّقافة اليونانيّة والرّومانيّة.
ولكن لم يكن اليونانيّون والرّومان وحدهم من اتّخذوا من أنطاكية موطنًا لهم. فبحلول القرن الأوّل الميلاديّ، سكن المدينةَ أيضًا مزيج من الأعراق والتّقاليد الثّقافيّة المختلفة (ومنها الثّقافة العربيّة). وقد تحدّرت غالبيّة المواطنين النّاطقين باليونانيّة في أنطاكية من أصل يونانيّ، من نسل الجنود والمستوطنين والإداريّين الّذين تبعوا السّلوقيّين قبل أربعمائة عام. وقد شكّل هؤلاء النّخبةَ السّياسيّة والثّقافيّة، وكان لهم الدّور الرّياديّ في حكم المدينة والحياة العامّة والأوساط الفكريّة.
وإلى جانب اليونانيّين، كانت هناك أعداد كبيرة من العرقيّات السّوريّة القديمة المتنوّعة والفينيقيّين واليهود. هؤلاء جلبوا معهم تقاليدهم ولغاتهم وعاداتهم الخاصّة، ما شكّل فسيفساء ثقافيّة غنيّة في أنطاكية. وقد وُجدت الجالية اليهوديّة في أنطاكية منذ أمد طويل، وكانت تتمتّع بتأثير قويّ. وبحلول القرن الأوّل، كان اليهود الهلّنستيّون يُشكلّون جزءًا مهمًّا من سكّان المدينة، ويعيشون في أحياء خاصّة بهم وينخرطون في التّجارة والعلم ويقيمون شعائرهم الدّينيّة.
من المهمّ أن نلاحظ أن أنطاكية لم تكن مدينة التّنوّع السّياسيّ والعرقيّ والثّقافيّ فحسب، بل كانت أيضًا مدينة التّعدّديّة الدّينيّة. فقد تعايشت معابد الآلهة اليونانيّة والآلهة الرّومانيّة والآلهة المحلّيّة جنبًا إلى جنب مع المجامع اليهوديّة، ممّا خلق مشهدًا جعلَ من الحوار الدّينيّ والصّراع الدّينيّ فيه أمرًا لا مفرّ منه. وبالرّغم من جميع هذه التّحدّيات، ستظهر المسيحيّة هنا كقوّة متميّزة وتغييريّة. وفي العصر المسيحيّ كانت أنطاكية أوّلَ من أطلقت لقب "مسيحيّين" وأرقصته نغمًا على شفاه الأجيال على حدّ تعبير سلفنا الرّاحل البطريرك الياس الرّابع معوّض.
هكذا أصبحت أنطاكية مدينة تفاعل العناية الإلهيّة أيضًا. فبعد أن زُرعت فيها بذور الرّسالة المسيحيّة، شعّ منها نور الإنجيل وانتشر إلى جميع الأمم.
وتشكّلت في أنطاكية بيئةٌ روحيّة مثمرة نشأت فيها هامات من رؤساء الكهنة والمعلّمين الّذي تركوا أثرًا عظيمًا في مسيرة الكنيسة. أبرزهم القدّيس إغناطيوس الأنطاكيّ المتوشّح بالله، الّذي استشهد خلال اضطهاد ترايان للكنيسة النّامية بسرعة في أنطاكية، في الفترة الّتي أقام فيها ترايان في المدينة بين ١١٤ و١١٧م. تُقدّم رسائل القدّيس إغناطيوس الأنطاكيّ إلى مختلف الجماعات المسيحيّة إرشادات رعائيّة في غاية الأهمّيّة حول دور الرّئاسة الكنسيّة والعقائد اللّاهوتيّة وتشكيل الكنيسة المحلّيّة ومفهوم الوحدة المسيحيّة.
كان القدّيس ثيوفيلوس الأنطاكيّ (حوالي 120-180 م) أحد أبرز الآباء اللّاهوتيّين المدافعين. وكان أوّل من أدخل مصطلح "الثّالوث". ولا ننسى القدّيس سيرابيّون أسقف أنطاكية ودوره في الدّفاع عن الأرثوذكسيّة ضد الغنّوصيّين والماركيونيّين.
ومن أنطاكية ظهر العلّامة الشّهيد لوقيانوس الأنطاكيّ (حوالي 240-312 ميلاديّة)، اللّاهوتيّ والعالم الكتابيّ، الّذي نعجز اليوم عن إعطاء إسهاماته الكتابيّة حقّها الواجب. وهو اشتهر بمساهماته في النّقد النّصّيّ الكتابيّ، وجهودِه في الحفاظ على ترجمة العهد القديم اليونانيّة المعروفة بالسّبعينيّة وتنقيحها. وما من شكّ بأنّ دراسات لوقيانوس قد وضعت الأساس للعلماء المسيحيّين اللّاحقين الّذين ساهموا في الدّراسة النّصّيّة لكلّ من العهد القديم والجديد.
عسى أن تُعمّق الدّراسات المُقدّمة في هذا المؤتمر فهمنا لإرث أنطاكية الغنيّ وتُلهمنا لمواصلة رسالة الكنيسة والشّهادة لوحدتها، على خطى الجماعة الأولى في أنطاكية منذ البدايات.
أيّها المؤتمرون الكرام،
حين أتكلّم عن أنطاكية وعن التّحدّيات الّتي تغلّبت عليها عبر التّاريخ، لا يمكنني أن أُنهي كلامي من دون أن أطلعكم على المصاعب والضّيقات الّتي تهدّد استمرار الشّهادة الأرثوذكسيّة في مدينة أنطاكية وسائر أبرشيّات الكرسيّ الأنطاكيّ الرّسوليّ. لقد واجهنا في السّنوات الأخيرة عقبات جسيمة تمثّلت في صعوبات متزايدة بدأت مع تفاقم الأزمات الاقتصاديّة في لبنان وسوريا، ما أنهك مواردنا الماليّة وجعل من الصّعب بشكل متزايد الحفاظ على مبادراتنا الاجتماعيّة الحيويّة الّتي تهدف إلى تقديم المساعدات الأساسيّة مثل الغذاء والماء والمأوى والدّعم التّعليميّ للمحتاجين. وفي شباط 2023 كان لأنطاكية ولجوارها النّصيب الأكبر من الزّلزال المدمّر. ونتيجة لذلك، وجد آلاف من المؤمنين أنفسهم مشرّدين، في حين دُمِّرت تسعُ كنائس بالكامل، من بينها الكاتدرائيّة البطريركيّة في سوق أنطاكية التّاريخيّ، وتعرّضت العديد من الكنائس الأخرى لأضرار جزئيّة جعلتها غير صالحة للاستخدام إلى حين الانتهاء من أعمال التّرميم. وبالإضافة إلى كلّ هذه المحن، يجد المسيحيّون أنفسهم في سوريا في بلد أنهكته الحروب ودُمّرت فيه البنى التّحتيّة ومصادر الطّاقة. إنّ إخوتكم الّذين ما زالوا هناك، بقوا بسبب انتمائهم المتجذّر إلى كنيسة يحبّونها ويعتبرونها جزءًا من كيانهم ومن هويّتهم المسيحيّة المشرقيّة الرّاسخة في تاريخ هذا الشّرق.
ما من أحد يجهل أنّ صوت أنطاكية صدح دائمًا من أجل وحدة الكنائس على أساس الإيمان الرّسوليّ و"حقّ الإنجيل"، فلنرفع صوتنا اليوم في الصّلاة سويّة من أجل كنائس الله المقدّسة والاتّحاد في الإيمان والتّعاضد في محبّتنا بعضنا لبعض.
في موسم الفصح المقدّس أعايدكم جميعًا من هذه المدينة الرّائعة وأسأل الله أن يبارك اليونان وشعب اليونان الطّيّب وأضرع إلى المسيح القائم أن يكلّل مؤتمركم بالنّجاح.
في ختام كلمتنا الافتتاحيّة، نُعبّر عن بالغ تقديرنا لوزارة الخارجيّة في الجمهوريّة اليونانيّة، الّتي ينعقد تحت رعايتها الكريمة هذا المؤتمر، لما أبدته من دعمٍ ورعاية لصالح الحوار والتّعاون الأكاديميّ.
كما نتوجّه بجزيل الشّكر إلى كلّيّات اللّاهوت في جامعتي أرسطو في تسالونيك، والجامعة الوطنيّة والكابودستريّة في أثينا، وفي جامعتنا في البلمند، على حسن الإعداد والتّنظيم الرّاقي لهذا المؤتمر.
نُثني ونُبارك جميع الّذين بذلوا جهدًا في سبيل نجاح تنظيم هذه المؤتمر، ونرسل لهم بركتنا الأبويّة مع الدّعاء بدوام التّوفيق.
ونُعلن افتتاح أعمال مؤتمر "أنطاكية والمسيحيّة الباكرة: من كرازة الرّسل إلى إيمان نيقية"، راجين لها ثمارًا علميّة وروحيّة وافرة.
دمتم بخير. المسيح قام حقًّا قام".