لبنان
29 تشرين الثاني 2023, 11:20

كلمة المطران كريستوموس ميخائيل شمعون خلال تجليسه على أبرشيّة جبل لبنان وطرابلس للسّريان الأرثوذكس

تيلي لوميار/ نورسات
خلال رتبة تجليسه على كرسيّ أبرشيّة جبل لبنان وطرابلس للسّريان الأرثوذكس الّتي ترأّسها البطريرك إغناطيوس أفرام الثّاني يوم الأحد في كاتدرائيّة مار يعقوب السّروجي- سدّ البوشريّة، ألقى المطران كريسوستوموس ميخائيل شمعون، قال فيها:

""إجعلني يا ربّ مستحقًّا أن أكون أداة محبّة وسلام وخلاص لشعبك".

المحبّة هي سرّ بذل المسيح ذاته لأجل كنيسته وعربون مجدنا العتيد. يقول ربّنا له المجد في إنجيله: لأجلكم أقدّس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضًا مقدَّسين في الحقّ (يو17: 19). فكان المسيح نفسه قد قدّس ذاته باحتمال الآلام لأجلنا لنكون نحن أيضًا أيّ جسده مقدَّسين في الحقّ، وأعطانا بذلك صورة عن رغبته بالتّشبّه به كرعاة نمثّله في رعاية شعبه، أيّ نتمثّل به في احتمال الآلام والمشقّات لأجل تكميل القدّيسين لعمل الخدمة ولبنيان جسد المسيح. صادقين في المحبّة– على حدّ تعبير القدّيس بولس– كي ننمو معًا في كلّ شيء إلى ذاك الّذي هو الرّأس أيّ المسيح فتعرف محبّته الفائقة المعرفة حسب قياس هبته لكلّ واحدٍ منّا.

إنّ المحبّة لعظيمة جدًّا لأنّها وحدها تخفّف كلّ ثقيل وتُصيِّر العبء بغير تعب وكلّ مرٍّ تجعله حلوًا. لا شيء أعذب من المحبّة، لا شيء أقوى ولا أسمى ولا أوسع ولا أطيب وأتمّ ولا أفضل لا في السّماء ولا على الأرض لأنّ المحبّة وليدة الله. فالمحبّة متى ما كانتْ حاضرة تجعل القلب في طمأنينة وتمنحه سلامًا عظيمًا فيتقدَّس الجسد والنّفس معًا فيصبح كلّ شيء مُستعذَب وحينئذٍ نستحسن كلّ خير وعطاء. لقد صلّى الرّبّ يسوع قُبيل آلامه في صلاته الأخيرة للآب بأن نكون واحدًا كما أنّه هو والآب واحد. ونكون واحدًا حقًّا بالمحبّة فهي تُصيِّر البعيدين قريبين والمتخاصمين متآلفين وغير المرغوبين مرغوبين ومحبوبين، ففيها تنتفي كلّ بغضة وأنانيّة وتسلّط لتبقى فقط الحرّيّة، حرّيّة أولاد الله الّذين اعتمدوا باسمه وشهدوا له بمحبّتهم له وللقريب فحيوا الحقّ وخدموه فنالوا وعده بالحرّيّة وبالخلاص لأنّ الّذين يحرّرهم الابن فبالحقيقة هم أحرار.

وما أحوجنا إلى السّلام في عالم اليوم المضطرِب والقَلِق، فقد فقدناه من قلوبنا وانعكس ذلك على تصرّفاتنا وأعمالنا. كثيرون هم مَن ينادون بالسّلام ويتظاهرون بأنّهم دعاة سلام ولا سلام في قلوبهم فهم بعيدون كلّ البعد عن بلوغ الهدف. فالسّلام الحقيقيّ منبعه القلب وأصله ومصدره وواهبه الله لأنّه إله السّلام (1كور14: 33). فهو من قال: سلامي أعطيكم سلامي أستودعكم لكن ليس كما يُعطي العالم أعطيكم أنا (يو14: 27). فسلام الله هو علامة النّبوّة له: طوبي لصانعي السّلام لأنّهم أبناء الله يُدعَون (مت5: 9). فهو عربون الميراث الإلهيّ والحياة الأبديّة. وإذا علّمنا أنّ سلام الله يحفظ القلوب والأفكار نُدرك أهمّيّته لتقديس الرّوح للطّاعة. فمتى ما كملت طاعتنا لله يملك على قلوبنا بسلامه فنكون أداة وسبب تقديس نفوسنا والآخرين.

يقول صاحب الأمثال: فوق كلّ تحفُّظ احفظ قلبكَ لأنّ منه مخارج الحياة (أم4: 23). وهنا نُدرك عظمة هذا القلب الّذي يملك عليه سلام الله، أيّة طاعة يُبدي وأيّة حياة يُخرِج وأيّ خلاص يَعِدْ.

هذه هي طلبتي إلى الله من أجلكم بأن يجعلني مستحقًّا بأن أكون أداة سلام بيده مجتهدًا بأن أحافظ على وحدانيّة الرّوح برباط السّلام. جسد واحد وروح واحد.

يقول القدّيس بولس الرّسول في رسالته لأهل رومية: أيّها الأخوة إنّ مسرّة قلبي وطلبتي إلى الله لأجلكم هي للخلاص (رو10: 1). الخلاص الّذي ابتدأه الرّبّ نفسه بتجسّده وبذله ذاته على خشبّة الصّليب بكلّ ما رافق ذلك من عار ومهانة. هذا الخلاص الّذي اشتراه ربّنا لكنيسته بدم أقنومه مجّانًا لكلّ مَن يؤمن به ويعترف باسمه ويعمل مشيئته. وإذ إنّنا قد اشتُرينا بدم كريم كما من حَمَلٍ بلا عيب دم المسيح (1بط1: 19). لنمجّد الله في أجسادنا وفي أرواحنا الّتي هي له لأنّ المسيح مات لأجل الجميع كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للّذي مات لأجلهم وقام لأنّنا في المسيح يسوع كنيسة العهد الجديد خليقة جديدة. فالكنيسة هي نحن بيت الله الحيّ عمود الحقّ وقاعدته (1تي3: 15) جسد المسيح المنظور على الأرض والشّاهدة الأمينة على آلام المسيح وقوته وموته وقيامته والمؤتمنة على توزيع نِعم خلاصه من خلال أسراره المقدّسة. فهي كما شاهدها يوحنّا الرّائي لها سبع منابر من ذهب، فهي كاملة في وضعها لأنّ أساسها ورأس زاويتها هو المسيح. وكاملة في اعتقادها وإيمانها لأنّها تبني تعليمها على أساس الوحي الإلهيّ وتحتفظ بالطّابع الرّسوليّ للتّعليم بل وكاملة في طقوسها لأنّ كلّ ما تمارسه من طقوس إنّما يقوم على أسس روحيّة سامية. والكنيسة في وظيفتها ورسالتها من نور رمز الهداية لأنّها تقدّم المسيح للعالم وتحثّ النّاس على الاستضاءة به فهو النّور الحقيقيّ لهم. وفي معدنها وطبيعتها من ذهب رمز النّقاء والجمال والغنى والملك. لا بل كلّما نزلت الكنيسة في بوتقة التّجارب والآلام فهي كالذّهب تزداد بهاءً ولمعانًا وقوذةً. لذلك لا نستغرب قول رسول الأمم: أنا أصبر على كلّ شيء لأجل المختارين لكي يحصلوا هم أيضًا على الخلاص الّذي في المسيح يسوع مع مجد أبديّ.  

فلنسعَ رعاةً كنّا أم مخدومين إلى أن نكون جميعًا في بيت الرّبّ آنيةً من ذهب وفضّة فقط لا من خشب وخزف، لنكون آنيةً للكرامة مقدَّسين نافعين للسّيّد مستعدّين لكلّ عمل صالح، لأنّه: صادقة هي الكلمة. أنّه إن كنّا قد متنا معه فسنحيا أيضًا معه، إن كنّا نصبر فسنملك أيضًا معه 2تي2: 13.

سيّدي صاحب القداسة الأب والرّاعي والمعلّم، عرفتُكم منذ جلوسكم على الكرسيّ الرّسوليّ الأنطاكيّ، حيث خدمتُ تحت إشراف قداستكم في المؤسّسات البطريركيّة فكنتم لي خير دليل ومساعد ومرشد لنجاح سير عمل هذه المؤسّسات الخيريّة واليوم أشكركم شكرًا جزيلًا على منحكم لي أنا الضّعيف ثقتكم، إذ شئتم ورشّحتموني لخدمة ورعاية هذه الأبرشيّة المباركة والمناضلة وقلبي المفعم بالامتنان يعجز عن التّعبير عن المشاعر الّتي تخالجني في هذه اللحظات المهيبة، وقد أوكلتموني اليوم وزنةً أخرى أصعب وأثقل وائتمنتموني عليها بالنّعمة لا بالاستحقاق مع كلّ الدّعم والمحبّة الّتي بادلتموني بهما منذ اليوم الّذي أرسلتموني فيه لأخدم هذه الأبرشيّة العزيزة.  

والله فاحص القلوب والكِلى ومختبر الضّمائر والنّيّات هو يختار خدّامًا لبيته حسب قلبه ليقيمهم رعاةً أمناء على شعبه فقد أقامكم وأرسلكم في هذه الأزمنة الصّعبة والقاسية بكلّ ما مررنا به من تحدّيات واضطرابات لتكونوا حجر الزّاوية على مثال فادينا المخلّص لترعوا كنيسته الّتي اقتناها بدمه فنحتذي بتوجيهاتكم ونتبارك بدعائكم حتّى نبلغ جميعًا إلى ميناء الأمان والخلاص بارخمور.

أيّها الأحبّاء شاءت العناية الإلهيّة أن أرتسم مطرانًا نائبًا بطريركيًّا على المؤسّسات البطريركيّة الخيريّة في العطشانة- لبنان قبل ثلاث عشرة سنة وفي العاشر من شهر تشرين الثّاني لعام 2023 تمّ تعييني من قِبل قداسته مطرانًا لأبرشيّة جبل لبنان وطرابلس بعد انتخابي من قِبل إكليروسها ومؤمنيها.  

هذه الأبرشيّة العزيزة والعريقة الّتي تأسّست عام ١٩٧٤ بقرار مجمعيّ ليكون الرّبّان جورج صليبا نائبًا بطريركيًّا عليها حتّى يوم رسامته في شباط من عام 1981 مطرانًا على هذه الأبرشيّة الّتي خدم وبقي فيها باذلًا الغالي والنّفيس لرفع شأنها والدّفاع عن حقوقها ورعاية أبنائها بكلّ غيرة ومحبّة وتفانٍ دون كلل أو ملل حتّى أمسى اسم السّريان في لبنان توأمًا مع اسم نيافته فهو المعلّم الحكيم والمعطي المسرور ولا أنسى كيف أنّه خلال الأشهر الأخيرة من خدمتي في هذه الأبرشيّة كمعتمد بطريركيّ كان بمثابة الأب والأخ الكبير والصّديق لما يتمتّع به من خبرة عالية في كافّة المجالات علاوة على ذكائه الحادّ وكرمه ومحبّته وشعبيّته وخدمته للجميع الّتي هي مثال للكبير والصّغير أعطاك الله سيّدنا جورج أيّامًا خيّرةً مباركةً مكللةً بالصّحّة والخير.

وهنا اسمحوا لي أن أضفي بالذّكر صاحبَي النّيافة إخوتي المطارنة المطران بولس سفر النّائب البطريركيّ في زحلة والبقاع، والمطران دانيال كورية مطران بيروت، حيث ولدنا ونشأنا في مدينة القامشلي ودرسنا في جامعة حلب ورُسمنا رهبانًا سويّةً وشاءت العناية الإلهّية أن يكون هذا البلد المبارك لبنان قسمة خدمتنا ومجال رسالتنا. هذا البلد الّذي أعتزّ به فهو وطني الحبيب والوطن الثّاني بعد وطني الأمّ سوريا. أشكرهما على حضورهما معنا وبنعمه الله سوف نتعاون معًا ببركه وتوجيهات قداسته لتعزيز الوجود السّريانيّ وتفعيل عمل مؤسّساته بالأكثر على قدر المستطاع لما فيه الخير العامّ والأبرشيّة.

ومن أعماق قلبي أعبّر عن خالص شكري وامتناني لأصحاب النّيافة إخوتي المطارنة على كلّ ما قدّمتموه لشخصي مِن دعم ومحبّة أعتزّ بها، أشكر حضوركم المبارك وتشريفكم لي. أشكر أصحاب النّيافة أعضاء المجمع السّريانيّ الأنطاكيّ المقدّس الّذين اتّصلوا بي مهنّئين وبالأخصّ ومن أعماق قلبي: مار ثاوفيلوس جورج صليبا، المستشار البطريركيّ. مار يوستينوس بولس سفر، النّائب البطريركيّ في زحلة والبقاع. مار إقليميس دانيال كورية، مطران بيروت. مار تيموثاوس متّى الخوري، مطران حمص وحماة وطرطوس وتوابعها. مار أنتيموس جاك يعقوب، النّائب البطريركيّ في القدس والأردنّ وسائر الدّيار المقدّسة. مار بطرس قسّيس، مطران حلب وتوابعها. مار يعقوب باباوي، النّائب البطريركيّ لشؤون الرّهبان وإدارة إكليريكيّة مار أفرام السّريانيّ اللّاهوتيّة في معرّة صيدنايا. مار كيرلّس بابي، النّائب البطريركيّ في أبرشيّة دمشق البطريركيّة ومدير المؤسّسات البطريركيّة الخيريّة في العطشانة. مار يوسف بالي، المعاون البطريركيّ. مار خريستوفوروس مرقس، السّكرتير البطريركيّ لشؤون الكنيسة في الهند. مار أندراوس بحي، النّائب البطريركيّ لشؤون الشّباب والتّنشئة المسيحيّة. مار أوكين الخوري نعمت، السّكرتير البطريركيّ.

الإخوة أصحاب السّيادة مطارنة الطّوائف الشّقيقة أرحّب بكم أنتم شخصيًّا ومَن تمثّلون وأشكركم جزيل الشّكر على محبّتكم ومشاركتكم معنا في هذا الحفل الرّوحيّ اليوم طالبًا منكم جميعًا الدّعاء بالتّوفيق والنّجاح في رسالتي وخدمتي الجديدة كمطران وراعٍ وخادم لأبرشيّة جبل لبنان وطرابلس. وأؤكّد لكم بأنّ يدي ستكون ممدودة للجميع من كلّ الطوائف والأديان بما فيه خير وطننا الحبيب لبنان وتقدّمه وازدهاره وحرّيّته وسيادته واستقلاله.

وإمتنان حميم لإكليروس هذه الأبرشيّة والخدّام الأمناء والأخوة الأعزّاء الّذين سأشارككم هذه الخدمة بأمانة كاملة لنشر كلمة الرّبّ وتعاليم مخلّصنا وفادينا يسوع المسيح ونكون المثل الصّالح عن أبناء الملكوت.  

نشكر رؤساء البلدات والمخاتير على حضورهم وجميع جمعيّات الأبرشيّة ومؤسّساتها على مساهماتهم وأنشطتهم وبالأخصّ الرّابطة السّريانيّة وحزب الاتّحاد السّريانيّ العالميّ.  

الشّكر الجزيل للجيش والقوى الأمنيّة حماهم الله وصانهم من كلّ مكروه.  

شكرًا لمراكز التّربية الدّينيّة والكشّاف السّريانيّ على تعبهم طوال الأيّام الماضية واهتمامهم. كما والشّكر لكلّ الجنود المجهولين الّذين ساهموا في تنظيم وإنجاح هذا الحفل المبارك. الشّكر الجزيل لتلفزيوننا المبارك تلفزيون البطريركيّة الجليلة "سوبورو تي في" على تغطيته الخاصّة لهذا الحفل الرّوحيّ، ولكلّ القنوات والإذاعات المرئيّة والمسموعة المشاركة له، ولمؤسّسة Spread Life.  

أشكر والديَّ الغائبَين بالجسد ولكن حاضرَين بالرّوح واللّذين كان لهما الفضل الكبير في تنشئتي ودعوتي وثباتي أطلب صلاتهم من أجل ضعفي ليسدّد الرّبّ طريقي حسب مشيئته لأسير على خطى آباء كنيستنا القدّيسين فأستحقّ مكافأة هذه الوزنة الجديدة. أيضًا أشكر أخي الحبيب وأختي الغالية وكافّة أقاربي وأصدقائي في كلّ مكان.

أخيرًا وليس آخرًا، أشكر أبناء أبرشيّتي إخوتي وعائلتي الكبيرة الّتي أفتخر وأعتزّ أنّي سأكمّل حياتي كلّها في خدمتها ورعايتها لأكون الأب والأخ والسّند والصّديق ونتشارك أحزاننا قبل أفراحنا فأطلب منكم بمحبّة أن تصلّوا لأجلي.  

شعوري اليوم مليء بالغبطة والسّعادة وفي الوقت عينه يختلج بالهيبة والمخافة تجاه المسؤوليّات الرّعويّة والاجتماعيّة والوطنيّة الكبيرة الّتي ستلقى على عاتقي خاصّة في هذه الظّروف القاسية الّتي يمرّ بها شرقنا الحبيب عمومًا، ووطننا الغالي لبنان، هذا البلد العظيم الّذي تقدّس بموطئ قدمَي السّيّد المسيح على أرضه ونحن السّريان نفتخر بجذورنا السّريانيّة الآراميّة الّتي يعود إلى عهود وبدايات التّاريخ الإنسانيّ، علاوة على أنّ طائفتنا السّريانيّة الأرثوذكسيّة هي من الطّوائف الأصيلة فيه، ضحّت وتضحّي في سبيله على الدّوام لأنّنا نحن السّريان فخورون جدًّا بلبنان وأوفياء له، ولا يستطيع أحد أن ينكر فضل السّريان وتضحياتهم وبذلهم لدمائهم في سبيل هذا البلد الحبيب، ولكن للأسف فإنّ حقوقنا كطائفة لا تزال مهمّشة ولم تنصفها بعد القوانين والدّساتير اللّبنانيّة. أخيرًا نتضرّع إلى إله المراحم أن ينظر إلينا بعين رحمته لتعبر هذه الأيّام العصيبة وتزول هذه القلاقل والاضطرابات ويسود من جديد السّلام في سوريا ولبنان وفلسطين وكلّ شرقنا الحبيب بشفاعة العذراء مريم وجميع القدّيسين. آمين".