لبنان
09 نيسان 2019, 13:48

كيف علّق المتروبوليت الياس عوده على افتتاح حديقته؟

عند الواحدة من بعد ظهر اليوم، افتُتحت "حديقة المتروبوليت الياس عوده"، متروبوليت بيروت للرّوم الأرثوذكس، وقد ألقى كلمة للمناسبة قال فيها:

 

"عندما يقرّر الإنسانُ تَـرْكَ الاهتماماتِ الدّنيويّة واتّباعَ المسيحِ والمسيحِ وحدَه، يُفرغُ قلبَه من كلِّ شهوةٍ أرضيّة ويرنو إلى خالقِه وربِّه، راجيًا أن يكونَ، يومَ الدّينونةِ الرّهيب، من مختاري اليمين الّذين قال لهم الرّبّ يسوع: "تعالوا يا مبارَكي أبي رثوا الملكوت المُعَدَّ لكم منذ تأسيسِ العالَمِ" (متّى 25: 34) فيكون بذلك قد حصلَ على المكافأةِ السّماويّة الّتي أمضى العمرَ يجاهدُ لكي يحصلَ عليها. يقول بولس الرّسول في رسالته إلى أهل كولوسي: "مهما تعملوا إعملوه من كلّ قلوبِكم كأنّه للرّبِّ لا للنّاس، عالمين أنّ الرّبَّ سيكافئُكم بميراثه" (3: 24).

يا أحبّة،

من نذرَ نفسَه للرّبّ لا يبتغي تكريمًا أرضيًّا أو اعترافًا بفضلٍ أو مكافأةً على جميل. إنّه يعملُ بحسب تعاليمِ الإنجيل وبحسبِ وصيّةِ الرّبّ يسوع: "مَن أراد أن يتبعني فليكفرْ بنفسه ويحملْ صليبَه ويتبعْـني" (مر 8: 34). 

هذه يجب أن تكونَ حال كلِّ مسيحيّ. لكنّها بالضّرورة حالُ الكاهنِ الّذي نذرَ النّفسَ والحياةَ لخدمة الله. ومتى وضعَ الكاهنُ يدَه على المحراث لا يلتفتُ إلى الوراء ولا يتردّدُ بالقيام بواجبه ولو لم يعجبْ كلامُه أو سلوكُه بعضَ النّاس. لأنّ هدفَه إرضاءُ الله لا البشر. لذلك نحن معشرَ الكهنة لا نبالي بالتّكريم الأرضيّ ولا نطلبه بل نطلبُ ملكوت الله لأنّنا لا نستغني إلّا بالله. 

لقد قرّر المجلس البلديّ السّابق إطلاق اسمي على هذه الحديقة يدون استشارتي، وعندما أبلغوني بالأمر لم أكن مرتاحًا للتّسمية لكنّني فرحتُ بإنشاء الحديقة لأنّ عاصمتنا الحبيبة تختنق بالأسمنت وتحتاج إلى مساحات خضراء وحدائق. 

لقد قال الله في اليوم الثّالث من الخلق: "لِتُنبِتِ الأرضُ عُشبًا وبَقْلاً يُبزِرُ بِزرًا وشجرًا ذا ثمرٍ... ورأى اللهُ أنَّ ذلك حسنٌ» (تك 1: 11-12). 

لقد خلق اللهُ كلَّ شيءٍ وهيّأه ثمّ خلقَ الإنسانَ وجعلَه سيّـدًا على الطّبيعة وما تحتويه من نباتٍ وحيوان، ما عدا أخيه الإنسان. إلّا أنّ الإنسانَ المخلوقَ على صورةِ اللهِ ومثالِه، نسيَ أنّ المحبّةَ هي أساسُ السّيادة، وراحَ يستعبدُ كلَّ ما في الطّبيعةِ ويستعمله لخدمته. حتّى إنّه أعاد خطيئةَ قايين الّذي قتل هابيلَ أخاه، وهو يعيدُها يوميًّا. خيرُ دليل على ذلك الحقد والحسد والقتل والحروب الّتي تعمّ العالم. 

الجشعُ أعمى القلوب، وبسببه صارت الأبنيةُ السّكنيّةُ العاليةُ والمتراصّةُ مقصدَ الجميع ومحطَّ الزّهو. أصبحنا نفتقدُ المساحاتِ الخضراء، مهما صغرتْ، في غاباتِ الباطون الّتي نعيش داخلها. لقد كان لبنانُنا، منذ القديم، مضربَ مثلٍ بخضرتِه وأشجارِه، خصوصًا الأرز، الّذي اختير رمزًا لبلدنا الحبيب ومُنِحَ شرفَ أن يكونَ على العلم اللّبنانيّ. يقول كاتبُ المزامير: "الصّدّيقُ كالنَّخلة يَزهو، وكالأرزِ في لبنان ينمو" (مز 92: 12). هذه الطّبيعة المقدَّسةَ تحوَّلت بسببِ الإنسان إلى كائنٍ غاضب، لِما اقترفه من قطعٍ وتدميرٍ وتشويه وتلويث، ثمّ راح يتساءل عن سببِ ثورةِ الطّبيعةِ، واضعًا نفسه موضعَ البريء في المحاكمة. 

الشّكرُ لله أنَّ أبناءَ بيروت وعوا، ولو متأخّرين، أنّهم أصبحوا بلا رئة، بلا متَنَفَّس، بلا مكانٍ هادئٍ أخضر يذهبون إليه مع صغارهم ليهربوا، في المدينة، من صخبِ المدينة. لذا، نجدُ بلديّةَ بيروت تقوم حاليًّا بعمليّاتٍ جراحيّة في جسم المدينة، لتزرعَ في كلِّ قسمٍ منه رئةً تساعدُ أبناءَ المنطقة على تنفُّس الهواء النّقيّ، فجاءت هذه الحديقة الصّغيرة هنا، ضمن هذه المبادرة، الّتي نطلبُ إلى الرّبّ إلهنا أن يلهمَ غارسيها غرسَ الكثيرِ مثلَها، حتّـى يعودَ لعاصمتنا الحبيبة نَفَسُ الحياةِ الّذي نفتقدُه.

ومثلما يحتاجُ أبناؤنا إلى مساحاتٍ خضراء تنقّي أجسادَهم من أوساخِ التّلوّث، لا بدّ من التّذكير بأنّهم يحتاجون إلى مساحاتٍ تنقّي عقولهم من تلوّثِ التّكنولوجيا ومن آفاتِ هذا العصر. لذا، أدعو غارسي الحدائق إلى غرس المكتباتِ العامّة حيثما يُستطاعُ إلى ذلك سبيلاً، حتّى نحمي عقولَ أبناء هذا الوطن من التّعليبِ الّذي أصابها، فتعودُ آفاقُ الذّهنِ إلى التّوسُّع، وعندئذٍ نصبحُ أكثرَ قابليّةً للمحبّةِ وتقبُّل الآخر.

بارككم الرّبّ ومنحكم أيّامًا خضراء مزهرةً، كما منحَ نفوسكم أن تُزهر أزهارًا فردوسيّةً تليق بالصّورة والمثال الإلهيَّين اللّذين منحهما اللهُ لنا جميعًا عندما خَلَقَنا. 

فالتّكريم الّذي أريدَ لشخصي أتمنّاه لبيروت، ونحن نكرّم بيروتَ ولبنانَ كلَّه عندما يحترم أبناؤه بعضهم بعضًا ويحترمون جميعُهم عطايا الله الكثيرة وأهمّها الطّبيعة الّتي حباها للبشر والبيئة الصّحّيّة الّتي وَضَعَنا فيها وشوّهناها بإهمالنا أو بإيذائها والتّعدّي الدّائم عليها وتلويثها مما سبّب تفشّي الأمراض وازدياد الوفيّات.

أشكر كلَّ من اهتمَّ بإنجاز هذه الحديقة من رئيس ونائب رئيس وأعضاء المجلس البلديّ السّابق ورئيس ونائب رئيس وأعضاء المجلس الحاليّ وطبعًا سعـادة محافظ بيروت وكلّ مَن ساهم في إنجاز هذا العمل، وأرجو أن لا تكون هذه الحديقة يتيمةً، وأن يتبعَها افتتاحُ حدائقَ عديدةً تزيّن عاصمتنا وتمدّ أبناءها بالأوكسجين النّقيّ".