لمحة عن زيارة البابا فرنسيس إلى جنوب السّودان؟
وفي هذا الإطار، توجّه الأب الأقدس إلى المسؤولين فقال: "أنتم مدعوّون إلى أن تجدّدوا الحياة الاجتماعيّة، كينابيع صافية للازدهار والسّلام، لأنّ هذا ما يحتاج إليه أبناء جنوب السّودان: آباء لا أسياد، خطوات ثابتة للتّنمية لا سقطات مستمّرة. لتترك السّنوات الّتي تَلَت ولادة البلد، والّتي تميّزت بطفولة جريحة، المجال لنموٍّ سلميّ".
أمّا السّبت صباحًا فالتقى البابا الأساقفة والكهنة والشّمامسة والمكرّسات والمكرّسين والإكليريكيّين في جنوب السّودان في كاتدرائيّة القدّيسة تريزيا الطّفل يسوع في جوبا، حيث شكرهم بإسم الكنيسة على تفانيها وشجاعتهم وتضحياتهم وصبرهم، متمنّيًا أن يكونوا على الدّوام "رعاة وشهودًا أسخياء، يتسلّحون فقط بالصّلاة والمحبّة، ويسمحون لنعمة الله بأن تُدهشهم فيُصبحوا أدوات لخلاص الآخرين؛ وأنبياء قرب يرافقون الشّعب، وشفعاء بأذرع مرفوعة".
وعصرًا توجّه البابا فرنسيس إلى قاعة الحرّيّة في جوبا حيث كان له لقاء مع عدد من المهجّرين حضره منسّق الجمعيّة العامّة لكنيسة أسكتلندا ورئيس أساقفة كانتربوري، وتخلّلت اللّقاء شهادات لأطفال يقيمون في المخيّمات.
وفي كلمته جدّد البابا نداءه "لوقف كلّ صراع، وأن يعود الجميع بجدّيَّة إلى عمليّة السّلام، حتّى ينتهي العنف ويستطيع النّاس أن يعودوا ليعيشوا بكرامة. بالسّلام والاستقرار والعدل فقط، يمكن أن تبدأ أعمال التّنمية والاندماج الاجتماعيّ. لا يمكننا أن ننتظر أكثر من ذلك: إذ إنّ عددًا هائلًا من الأطفال وُلدوا في السّنوات الأخيرة، لم يعرفوا سِوى واقع مخيّمات النّازحين، ونَسَوا أجواء البيت، وفقدوا ارتباطهم بوطنهم الأصليّ، وبجذورهم، وبتقاليدهم".
وتوجّه إلى الأطفال وأكّد "نحن اليوم، في لقائنا معكم، نريد أن نعطي أجنحة لآمالكم. نحن نؤمن بذلك، ونؤمن أنّه الآن، حتّى في مخيّمات النّازحين، وحيث للأسف يجبركم الوضع في البلد أن تبقوا، يمكن أن تولد بذرة جديدة، كما تولد من الأرض الجرداء، وستؤتي ثمرها.
أودّ أن أقول لكم: أنتم البذرة لجنوب السّودان الجديد، أنتم البذرة من أجل نموٍّ خصيب ونَضِرٍ للبلد. أنتم، من كلّ المجموعات العرقيّة المختلفة، الّذين عانيتم وتعانون، ولكنّكم لا تريدون أن تردّوا على الشّرّ بِشَرٍّ آخر. أنتم، الّذين اخترتم منذ الآن الأخوّة والمغفرة، أنتم تزرعون غدًا أفضل."
هذا وترأّس البابا مع رئيس أساقفة كانتربوري ومنسّق الجمعيّة العامّة لكنيسة اسكتلندا، مساء السّبت، الصّلاة المسكونية في ضريح جون قرنق في جوبا، كانت له خلالها عظة جاء فيها بحسب "فاتيكان نيوز": "إنّ هذه الأرض المحبوبة والمُعذَّبة، ارتَفَعَت قبل قليل صلوات كثيرة إلى السّماء: اجتمعت أصوات مختلفة معًا، مكوّنة صوتًا واحدًا. معًا نحن شعب الله المقدّس، صلّينا من أجل هذا الشّعب الجريح. كمسيحيّين، تشكّل الصّلاة أوّل وأهمّ شيء دُعينا للقيام به، لكي نتمكّن من أن نعمل جيّدًا وتكون لنا القوّة لكي نسير. الصّلاة والعمل والسّير: لنتأمّل حول هذه الأفعال الثّلاثة.
أوّلًا، الصّلاة. إنّ الالتزام الكبير للجماعات المسيحيّة في تعزيز الإنسان والتّضامن والسّلام يكون عبثًا بدون الصّلاة. في الواقع، لا يمكننا أن نعزّز السّلام بدون أن نتضرّع الى يسوع "رَئيسَ السَّلام". إنّ ما نقوم من أجل الآخرين ونتقاسمه مع الآخرين هو أوّلاً عطيّة مجّانيّة ننالها من الله بدون مقابل. إنّها نعمة، نعمة صرفة. نحن مسيحيّون لأنّ المسيح قد أحبنَّا مجّانًا.
إنَّ الصّلاة تعطينا القوّة لكي نمضي قدمًا، ونتغلَّب على المخاوف ونرى الخلاص الّذي يُعِدّه الله لنا حتّى في الظّلمات. لا بل أكثر من ذلك، فالصّلاة تجذب خلاص الله على شعبه. إنَّ صلاة الشّفاعة الّتي ميّزت حياة موسى هي الصّلاة الّتي دُعينا إليها بشكل خاصّ، نحن رعاة شعب الله المقدّس لكي يتدخّل ربُّ السّلام حيث لا يستطيع البشر بناء السّلام، لذلك هناك حاجة للصّلاة، لصلاة شفاعة ثابتة ومستمرّة. أيّها الإخوة والأخوات، لنعضُد بعضنا بعضًا في هذا: في طوائفنا المختلفة، لنشعر بأنّنا متّحدون فيما بيننا، كعائلة واحدة. ولنشعر أنّ لدينا مهمّة ومسؤوليّة أن نصلّيَ من أجل الجميع. في رعايانا وكنائسنا وجمعيّات العبادة والتّسبيح الخاصّة بنا لنصلِّ مواظبين وبقلب واحد لكي يصل جنوب السّودان، مثل شعب الله في الكتاب المقدّس، إلى أرض الميعاد: فيُرتِّب، بسلام وإنصاف، الأرض الخصبة والغنيّة الّتي يملكها، ويمتلئ بذلك السّلام الموعود، والّذي للأسف لم يبلغه بعد.
من أجل قضيّة السّلام بالتّحديد نحن مدعوّون ثانيًا لكي نعمل، لأنّ يسوع يريدنا أن نكون "صانعي سلام"، فهو لا يريد أن تكون كنيسته مجرّد علامة وأداة للاتّحاد الحميم مع الله وحسب، وإنّما أداة وَحدة بين الجنس البشريّ بأسره أيضًا. إنّ المسيح في الواقع، كما يذكّرنا بولس الرّسول، "هو سلامنا"، وبالتّحديد بمعنى إعادة إحلال الوَحدة بيننا: هو الّذي "جعل من الجماعتين جماعة واحدة وهدم في جسده الحاجز الّذي يفصل بينهما، أيّ العداوة"؛ هذا هو سلام الله: فهو ليس مجرّد هدنة بين النّزاعات، وإنّما هو شركة أخويّة، تولد من الوحدة وليس من التّفرُّد والاستئثار، من المغفرة وليس من السّيطرة، ومن المصالحة وليس من فرض الذّات. إنَّ رغبة السّماء في السّلام كبيرة جدًّا لدرجة أنّها أُعلنت في لحظة ميلاد المسيح: "السَّلامُ في الأَرضِ لِلنَّاس فإِنَّهم أَهْلُ رِضاه!". وكان حزن يسوع عظيمًا إزاء رفض هذه العطيّة الّتي جاء ليحملها، فبكى على أورشليم قائلًا: "لَيتَكِ عَرَفتِ أَنتِ أَيضًا في هٰذا اليَومِ طَريقَ السَّلام!".
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، نحن نعمَلْ بلا كلل من أجل هذا السّلام الّذي يدعونا روح يسوع والآب لكي نبنيه: سلام يدمج التّنوّع ويعزّز الوَحدة في التّعدّديّة. هذا هو سلام الرّوح القدس، الّذي يصنع الانسجام في الاختلافات، فيما يركّز روح عدو الله والإنسان على الاختلافات لكي يقسِّمنا. في هذا الصّدد يقول الكتاب المقدّس: "ما يُمَيِّزُ أَبناءَ اللهِ مِن أَبناءِ إِبليس هو أَنَّ كُلَّ مَن لا يَعمَلُ البِرَّ لَيسَ مِنَ الله، ومِثلُه مَن لا يُحِبُّ أَخاه". أيّها الأعزّاء، على الّذي يقول إنّه مسيحيّ، أن يختار على أيّ جانب يقف، والّذي يتبع المسيح يختار السّلام على الدّوام، أمّا الّذي يُثير الحروب والعنف يخون الرّبّ وينكر إنجيله. إنّ الأسلوب الّذي يعلِّمُنا إيّاه يسوع واضح: أن نحبّ الجميع، لأنّهم محبوبون كأبناء للآب الواحد الّذي في السّماء. إنَّ محبّة المسيحيّ ليست للقريبين فقط، وإنّما لكلّ إنسان، لأنّ كلّ شخص في يسوع هو قريبنا، وأخونا وأختنا، حتّى عدوّنا، وبأولى حجّة الّذين ينتمون إلى شعبنا، وإن كانوا من إثنيّة مختلفة. "أَحِبُّوا بَعْضُكم بَعضًا كما أَحبَبتُكم". هذه هي وصيّة يسوع، الّتي تتعارض مع كلّ نظرة قبليّة للدّين. و"ليكونوا بِأَجمَعِهم واحِدًا": هي الصّلاة الّتي رفعها يسوع من أعماق قلبه إلى الآب من أجلنا نحن المؤمنين.
الفعل الثّالث بعد الصّلاة والعمل هو السّير. هنا، ولمدّة عشرات السّنين، التزمت الجماعات المسيحيّة بقوّة بتعزيز مسارات مصالحة. أريد أن أشكركم على هذه الشّهادة المنيرة للإيمان، الّتي ولدت من الاعتراف ليس فقط بالكلمات، وإنّما بالأفعال، أنّه قبل الانقسامات التّاريخيّة هناك حقيقة ثابتة: نحن مسيحيّون، نحن للمسيح. ما أجمل أنّ الانتماء المسيحيّ، رغم الصّراعات الكثيرة، لم يفكّك السّكّان أبدًا، بل كان ولا يزال عاملًا للوَحدة. إنّ الإرث المسكونيّ لجنوب السّودان هو كنز ثمين، وتسبيح لاسم يسوع، وفعل حبٍّ للكنيسة عروسه، ومثال عالميّ لمسيرة الوَحدة المسيحيّة. إنّه إرث علينا أن نحافظ عليه بالرّوح عينها: لا ينبغي للانقسامات الكنسيّة للقرون الماضية أن تؤثِّر على الّذين يُبشَّرون بالإنجيل، وإنّما يجب على بذار الإنجيل أن تساهم في نشر وحدة أكبر. كذلك لا يجب على القبليّة والفئويّة اللّتين تغذّيان العنف في البلاد أن تؤثِّرا على العلاقات بين الطّوائف، وإنّما يجب على شهادة وَحدة المؤمنين تفيض على الشّعب كلّه.
بهذا المعنى أودّ أن أقترح كلمتَين أساسيّتَين لاستمرار المسيرة: الذّاكرة والالتزام. الذّاكرة: لتكُنْ الخطوات الّتي تقومون بها على خُطى أسلافكم. ولا تخافوا من ألّا تكونوا على مستواهم، بل اشعروا بأنَّ الّذين قد أعدّوا الطّريق هم يرافقونكم في المسيرة. ومن ثمّ الالتزام: نحن نسير نحو الوَحدة عندما يكون الحبّ ملموسًا، وعندما نساعد معًا المهمّشين والجرحى والمبعَدين. أنتم تقومون بذلك في مجالات عديدة، أفكّر بشكل خاصّ في الرّعاية الصّحّيّة والتّعليم وأعمال المحبّة: كم من المساعدات المُلحّة والضّروريّة أنتم تحملون إلى السّكّان! أشكركم على ذلك. سيروا قدمًا لا كمتنافسِين، وإنّما كعائلة، إخوةٌ وأخوات يرفعون المجد لله ويشهدون على الشّركة الّتي يريدها الرّبّ، من خلال شفقتكم إزاء المتألّمين والّذين يحبّهم يسوع.
أيّها الأعزّاء، أتينا إليكم، أنا وإخوتي حجَّاجًا في وسطكم، أنتم شعب الله المقدّس الّذي يسير. وحتّى لو كنَّا بعيدين عنكم جسديًّا، إلّا أنّنا سنكون قريبين منكم على الدّوام. لننطلق مجدّدًا يوميًّا من الصّلاة من أجل بعضنا البعض ومع الآخرين، ومن العمل معًا كشهود ووسطاء لسلام يسوع، ومن السّير على الدّرب عينه، بخطوات محبّة ووحدة ثابتة. وفي النّهاية لنحِبَّ بعضنا بعضًا حبًّا ثابتًا وبقلب طاهر".