سوريا
05 نيسان 2023, 08:45

ماذا يقول البطريرك العبسيّ عن الآلام المقدّسة؟

تيلي لوميار/ نورسات
تأمّل بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الملكيّين الكاثوليك يوسف العبسيّ بالالآم المقدّسة خلال صلاة الختن التّأمّليّة الّتي شارك بها بالأمس مع رعيّة وشبيبة الرّوم الملكيّين الكاثوليك، عبر تطبيق Zoom.

وفي عظته، قال العبسيّ: "في الصّلوات الّتي نقيمها في هذا الأسبوع تدعونا الكنيسة إلى أن نرافق الرّبّ يسوع على درب الآلام والصّلب من خلال القراءات الإنجيليّة الّتي تتلوها علينا ومن خلال الصّلوات الّتي تضعها بين أيدينا بحيث لا تكون هذه الآلام مجرّد ذكرى تاريخيّة ننظر إليها من الخارج كمتفرّجين، بل تكون حدثًا يجري الآن وهنا أمام أعيننا فنعيشه بقلبنا وفكرنا وتتفاعل معه، لأنّ الكنيسة تعتبر أنّ آلام السّيّد المسيح وموته هي عابرة للزّمان والمكان، وما زالت مفاعيلها الخلاصيّة حاصلة اليوم وفي كلّ يوم في سرّ القربان المقدّس الّذي أسّسه الرّبّ يسوع في مثل هذا اليوم رابطًا بين الصّليب والقيامة: "إنّكم كلّما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرّبّ إلى أن يجيء" (١كور ١١ ٢٦).

الموضوع الأساسيّ الّذي يشكّل لحمة هذا الأسبوع لاسيّما في الأيّام الثّلاثة الأولى هو السّهر. الكنيسة تدعونا على أثر السّيّد المسيح إلى أن نكون ساهرين فتنشد كلّ يوم في بدء الصّلاة: "هوذا العروس يأتي في نصف اللّيل فطوبى للعبد الّذي يجده ساهرًا، أمّا الّذي يجده غافلاً فإنّه غير مستحقّ فاحذري يا نفسي تستغرقي في النّوم فيلقى بك خارج الملكوت، بل كوني مستيقظة ساهرة". تطلب منّا الكنيسة أن نكون ساهرين ومرافقين للسّيّد المسيح وتقول لنا كيف. في اليوم الأوّل تقرأ علينا حادثة التّينة اليابسة داعية إيّانا إلى أن نسهر على حياتنا فلا نكون عقيمين بلا ثمر بل أن نعمل أعمالًا صالحة، وتعرض علينا أيضًا مثل يوسف الصّدّيق ابن يعقوب داعية إيَّانا إلى أن نسهر على ذواتنا مثلما سهر على نفسه من الوقوع في الخطيئة. وفي اليوم الثّاني تعرض علينا مثل العذارى الحكيمات والخادم الأمين داعية إيّانا إلى أن نسهر ونكون في أيّ لحظة مستعدّين لمجيء الرّبّ يسوع والدّخول معه إلى الملكوت مرتّلين: "إنّني أشاهد خدرك مزيّنًا يا مخلّصي وليس لي ثوب للدّخول إليه، فأبهج حلّة نفسي يا مانح النّور وخلّصني".

السّهر الّذي تدعو الكنيسة إليه هو على الأخصّ سهر القلب، سهر الحبيب المشتاق لرؤية حبيبه والصّديق التّائق لمشاهدة صديقه؛ إنّه سهر المتألمّ لملاقاة الطّبيب الشّافي وسهر الخاطئ لملاقاة المخلّص. إنّه ترقّب البشريّة كلّها لمجيء المسيح كما يقول الرّسول بولس؛ إنّه انتظار الشّيخ سمعان لملاقاة يسوع المخلّص كما أخير الإنجيليّ لوقا (۲: ۲۵- ۳۸)؛ إنّه شوق المخلّع لملاقاة يسوع كما روى مرقس (2: 1-12) إنّه حنين الابن الشّاطر إلى الرّجوع إلى البيت الأبويّ كما علم يسوع؛ إنّه انتظار الرّقباء للصّبح والحرّاس للفجر كما يترنّم صاحب المزامير (مز ۱۲۹).

سهر القلب هذا قوامُه المحبّة والفرح إذ إنّه مبنيّ على العلاقة الجديدة الّتي أنشأها السّيّد المسيح بين الله والإنسان علاقة الصّداقة والمحبّة: قال لنا في مثل هذه اللّيلة "لا أدعوكم بعد عبيدًا... بل أدعوكم أحبّائي" (يوحنّا ١٥:۱٥) ومبنيٌّ سهر القلب أيضًا على قول المسيح للرّسل: "سأعود فأراكم فتفرح قلوبكم (يوحنّا ١٦: ۲۲) وقد كان سهر القلب ولا يزال ركنًا من أركان الحياة الرّوحيّة والنّسكيّة والرّهبانيّة في المسيحيّة، ويتجلّى أكثر ما يتجلّى في الصّلاة "اسهروا وصلّوا" (لوقا ۲۱: ٣٦). وفي الرّسالة إلى أهل تسالونيكي ينتهي بولس بالقول: "كونوا فرحين على الدّوام... وصلّوا بلا انقطاع" (1 تسا ٥: ١٦- 17).

أمّا اليوم وهو الثّالث من أسبوع الآلام فتعرض علينا الكنيسة وجهين متناقضين في علاقتهما مع السّيّد المسيح يهوذا الغاشّ والمجدليّة الوفيّة، وتصنع مقارنة بينهما.

أحبّ الرّبّ يسوع يهوذا وجعل منه أحد رسله الاثني عشر وعامله كما عامل بقيّة الرّسل من دون أيّ تمييز. بيد أنّ يهوذا لم يستجب لهذا الحبّ بل خانه بعدم تقديره له من ناحية (غباء: "أمّا يهوذا فلم يشأ أن يفهم") وبحبّه للمال من ناحية أخرى (لازم الشّيطان. عمي يهوى حبّ المال. سقط من النّور كفر بالجميل) فهلك ولم ينل الخلاص.

كذلك أحبّ يسوع المجدليّة غير أنّ هذه قدّرت حبّه لها وعرفت كيف تبادله الحبّ ورجعت إليه، تابت إليه من خطيئتها، فنالت الخلاص، مقدّمة لنا مثالاً في عدم اليأس، أن لا نيأس من رحمة الرّبّ ومحبّته مهما عظمت وكثرت خطايانا، وأن لا نستسلم لليأس كما استسلم يهوذا بل أن نتوب إلى الرّب كما تابت هي وكما تاب بطرس أيضًا بعد أن جحد معلّمه وكما تاب اللّصّ الّذي كان على اليمين.

آلام المسيح لا نستطيع أن نفهمها أو أن نقبلها إلّا إذا علمنا أنّ ما دفع إليها هي محبة الله لنا نحن البشر. الآلام هي التّعبير الكبير عن محبّة الله. إذا لم ننظر إليها من هذا المنظار لا يسعنا البتّة أن نفهمها ونقبلها. صلوات الأسبوع المقدّس هي في الواقع تأمّل في محبّة الله لنا الّتي قال عنها يسوع: "ليس حبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبّائه".

تعلّمنا الكنيسة في صلوات الأسبوع المقدّس إلى أين يستطيع المرء أن يذهب بحبّه. لم يتألّم السّيّد المسيح لأنّه سعى أو يسعى إلى الآلام بل لأنه أحبّ. وقد أصدى لهذا القدّيس بولس حين قال: "لقد أحبّني وبذل نفسه من أجلي. هذا هو سرّ المسيحية، سرّ الصّليب الّذي قال عنه بولس أيضًا: "لست أعرف بينكم إلّا المسيح وإيَّاه مصلوبًا" وأيضًا: "إنّ كلمة الصّليب عند الهالكين جهالة أمّا عندنا نحن المخلّصين فهي قوّة الله"، "ونحن نكرز بالمسيح مصلوبًا. مشكلة اليهود أنّهم لم يستوعبوا حبّ الله لهم وللبشريّة من خلالهم. لم يرتقوا إلى مستوى الحبّ الّذي عاملهم به الرّبّ يسوع. ربّما المجدليّة أدركت شيئًا حين قال يسوع عنها: "نالت غفرانًا كبيرًا لأنّها أحبّت كثيرًا"، لأنّها بادلت الرّبّ يسوع المحبّة بالمحبّة، لأنّها أدركت ماذا يريد يسوع.

على طول صلوات الأسبوع تهتف الكنيسة للسّيّد المسيح المتألّم قائلة: "المجد لطول أناتك يا ربّ المجد لك". الكنيسة تمجّد حلم الرّبّ يسوع وأناته، تمجّد هذه الصّفات الإلهيّة الّتي لا يتحلّى بها إلّا الّذي يحبّ. الحبّ يستحقّ أن يمجّد لأنّه ينبوع خلاصنا. وكم أصاب القدّيس يوحنّا حين قال إنّ "الله محبّة". ليكن هذا دعاؤنا في هذا المساء وفي كلّ مساء فنشارك الرّبّ يسوع في آلامه ونعيش هذه الآلام، ولنرتّل له من أعماق قلوبنا: "المجد لطول أناتك يا ربّ المجد لك".