العراق
08 شباط 2022, 13:30

ماذا يقول البطريرك ساكو عن نشأة الطّقوس الكلدانيّة؟

تيلي لوميار/ نورسات
أطلق بطريرك الكلدان مار لويس روفائيل ساكو سلسة مقالات عن اللّيتورجيا الكلدانيّة، مستهلّاً إيّاها بالإضاءة على نشأة الطّقوس الكلدانيّة، فكتب بحسب الموقع الرّسميّ للبطريركيّة:

"أودّ أن أقدّم خلاصة علميّة شاملة لملامح طقسنا المشرقيّ الكلدانيّ- الآشوريّ، خدمةً لإرثنا الأصيل الّذي يشكّل هويّتَنا. هذه الدّراسة هي ثمرة بحث منهجيّ وتحليل وتأمّل في طقوس كنيستنا المشرقيّة الّتي تعدّ لؤلؤة في عقد الكنيسة الجامعة، وقد اعتمدتُ على المصادر العلميّة الرّصينة.

إنّ دراسة طقوسنا ليست بالأمر الهيِّن، لأنّ الإكليروس والمؤمنين ألفوا تأديتها دون محاولة معرفة نشأتها ولاهوتها وأجناسها اللّغويّة الفنّيّة، ورموزها وروحانيّتها وريازتها الكنسيّة. هذا هو السّبب في تعاطف البعض تعاطفًا متزمّتًا مع التّقليد، وينتقد التّأوين والتّجديد من دون أن يميّز بأنّ هذه النّصوص روحيّة وراعويّة وليست عقائديّة ثابتة. هذه الإشكاليّة غريبة أساسًا عن طبيعة الطّقس الّذي يحمل في جوهره القدرة على التّجديد والتّواصل. أخيرًا أقول لهم إنّ الله سوف يحاسبنا على المحبّة وليس على الطّقوس اللّيتورجيّة.

إستخدام مصطلح "طقس"

إنّ لفظ "طقس- ܛܟܣܐ" معرَّبة عن اليونانيّة "taxis"، وتعني تنظيمًا وترتيبًا، وباللّاتينيّة ordo في المجال الّليتورجيّ تعني لفظة الطّقس رتب العبادة بضمنها صلاة الصّباح والمساء والاحتفال بالقدّاس وبقيّة الأسرار المقدّسة وتكريس الكنائس.. الخ. تستعمل أيضًا كلمة الخدمة ܬܫܡܫܬܐ السّريانيّة أو الصّلاة "ܨܠܘܬܐ".

طقوس الكنيسة بنصوصها وألحانها ورموزها وحركاتها تتضمّن تعليمها الرّسميّ وترسّخ العلاقة بين المؤمنين والله ومع بعضهم البعض كجسم واحد. والسّؤال، كيف تكون العلاقة مع الله من دون الصّلاة، ومن دون أن نفهمها ونعي ما نصلّيه؟

نبذة تاريخيّة عن طقوس كنيسة المشرق

نشأتْ كنيستنا في بلاد ما بين النّهرين بمعابدها ومؤسّساتها ورهبانها ولاهوتها وطقوسها وروحانيّتها، ومن هنا انطلقتْ إلى سائر المناطق. هذا التّراب المَرويّ بدم شهدائها وقدّيسيها، يحتّم علينا نحن أحفادهم، أن نكرِّم ذكراهم ونواصل رسالتهم في حمل قنديل الإيمان وحضارة المحبّة والسّلام والتّلاقي. من هذا المنطلق نرتّل تراتيل الشّهداء ܣܗܕ̈ܐ صباحًا ومساءً والّتي كانت تتمّ في السّابق ضمن تطواف إلى بيت الشّهداءmartyrium  حيث ذخائرهم.

اللّاهوت الشّرقيّ، لاهوت ليتورجيّ- عباديّ في جوهره، وليس مدرسيًّا أو منهجيًّا كما هو في الغرب. إنّه لا ينفصل عن رُتَب الصّلاة. طقوسها قانون إيمانها وتعليمها الرّسميّ، ودستور سلوكها. كذا الحال مع الكلمة الإلهيّة (الكتاب المقدّس)، إذ لا تنفصل عن الطّقوس، بل تُرتَّل لتكون محييّة.

لصلاة الكنيسة الرّسميّة أهمّيّة بالغة في حياة المسيحيّين، فالاحتفال اللّيتورجيّ هو المناسبة المميّزة الّتي تعبّر فيها الكنيسة عن إيمانها كجماعة حيّة ومحتفِلة. اللّيتورجيا تُغذّي إيمان المشترِك فيها وتُنَشّئه وتُنضِجه وتساعده على الارتقاء والاتّحاد بالله. هذا ما عاشه قدّيسونا وشهداؤنا.

قد يظنّ البعض أنّ طقوس الكنيسة ونظمَها جاءت كلّها دفعةً واحدةً، متكاملة ثابتة. هذا التّفكير غير دقيق. تكوين طقوس العبادة استغرق وقتًا طويلاً وبدأت ملامحه تظهر في القرن الثّالث والرّابع. و كان هناك تنوّع في الطّقوس وفي النّصوص، ولم تستقرّ الخدمات الكنسيّة إلّا في القرون الوسطى. في البداية كان المسيحيّون يتردّدون إلى الهيكل أو المجمع اليهوديّ للصّلوات الاعتياديّة، ويلتقون في أحد البيوت مساءَ الأحد للصّلاة والتّعليم وكسر الخبز بحركاته الأربع: أخذ خبزًا، بارك، كسر، وناول. كانت هناك حرّيّة كبيرة في إقامة الشّعائر، ومساحة للإلهام الشّخصيّ، لكن انتشار المسيحيّة في أوساط متعدّدة وبخاصّة الوثنيّة، وازدياد عدد المنتمين إليها، والشّعور بالحاجة إلى التّنظيم، دفعَ الكنيسة إلى التّعبير عن إيمانها في طقوس وممارسات منظَّمة، تلبّي حاجات النّاس ومحيطَهم الجغرافيّ والفكريّ والاجتماعيّ والثّقافيّ، معتمدة الأجناس الأدبيّة من مزامير، وقراءات من الكتاب المقدّس، وترانيم وطلبات ومداريش، نثرًا وشعرًا، ورافقها حركات وتطواف أحيانًا.

طقوس كنيسة المشرق بسيطة بعيدة عن مظاهر الاُبّهة، تحتفظ برصيد وافر من التّآليف الشّعريّة، موزونة وموجزة وألحان شجيّة ومتنوّعة. هذه الطّقوس هي أشبه بسمفونيّة تؤدّيها الكنيسة لتعبّر عن حبّها لله وابنه يسوع المسيح ولروحه القدّوس. عمومًا هذه الصّلوات موجّهة إلى الله الآب أو المسيح لكن تُختم بالثّالوث الأقدس.

هذه الطّقوس حافظت على مسيحيّتنا عبر القرون وأمام تحدّيات واضطهادات وقدوم المسلمين العرب واحتلالهم هذه البلاد. لكي تؤثّر هذه الطّقوس على حياة النّاس اليوم، تحتاج إلى الإصلاح والتّحديث خصوصًا أنّ اللّغة الّتي كُتِبَت فيها هي السّريانيّة الشّرقيّة الّتي تدعى أيضًا الكلدانيّة والّتي لا يعرفها الجيل الجديد.

لقد نظَّم هذه الطّقوس آباء كنيسة المشرق أمثال مار شمعون برصباعي وافرام ونرساي، ويزدين وباباي، وبطاركتها، لاسيّما البطريرك ايشوعياب الثّالث الحديابي (649 – 659) الّذي عنى بتنظيمها مع فريق من الرّهبان العلماء أمثال عنانيشوع، مستندًا على النّصوص الموجودة. وأجرى تعديلات عليها، وعمّمها على جميع أبرشيّات كنيسة المشرق. شكّل هذا التّنظيم نقطة تحوّل في تاريخ اللّيتورجيا المشرقيّة ويُعَدّ عصرها الذّهبيّ.

التّأثير الجغرافيّ

تنوّع الكنائس وتسميتها ظهر تباعًا نتيجة عوامل الرّقعة الجغرافيّة واللّغة والثّقافة والسّياسة. لذا نجد عدّة طقوس في الكنيسة، نذكر منها الطّقس الرّومانيّ/ اللّاتينيّ، والبيزنطيّ- اليونانيّ، والسّريانيّ والمارونيّ والآشوريّ- الكلدانيّ- الملاباريّ، والقبطيّ والأرمنيّ.

1. طقس كنيسة المشرق (الكلدانيّ- الآشوريّ) ثروة كبيرة! إنّه أقدم الطّقوس الشّرقيّة وأبسطها. نشأ في بلاد ما بين النّهرين (Mesopotamia)، الّتي كانت تحت الحكم الفارسيّ. لذلك اُعتبرت هذه الكنيسة خارج أسوار المملكة الرّومانيّة، ولم تتمكّن من الاشتراك في مجامعها البتّة، لكن ظلّ مضمون إيمانها رسوليًّا حقًّا وطقوسها سليمة عقائديًّا. وما نجَمَ من سوء فهمٍ سببه اختلاف الثّقافة واللّغة. نشأت طقوس كنيسة المشرق في بيئة من أصل أورشليميّ (يهوديّ) يظهر ذلك من الرّيازة الكنسيّة: قدس الأقداس، السّتارة، البيما، واستعمال المزامير بكثرة. هذه النّشأة في بيئة جغرافيّة وثقافيّة بعيدة عن التّأثير اليونانيّ ساعدتها على الاحتفاظ باصالة طقوسها وطابعها المشرقيّ- السّاميّsamite ، وألحان شجيّة ذات صبغة من الخشوع والرّجاء والفرح، وغير مقيّدة بأساليب النّوتة وأوزانها.

هذه الطّقوس كُتِبت باللّغة السّريانيّة- اللّهجة الشّرقيّة الّتي تسمّى أحيانًا "خطأً" اللّغة الآشوريّة أو الكلدانيّة مقارنة باللّهجة الغربيّة السّريعة (سعرتو) الّتي يستعملها السّريان الكاثوليك والأرثوذكس والموارنة.

2. الطّقس الكلدانيّ: ينتمي إلى طقس كنيسة المشرق، أجريت عليه بعض التّعديلات بسبب انتماء قسم من أبناء كنيسة المشرق إلى الكنيسة الرّومانيّة الكاثوليكيّة عام 1553 لكنّهم عمومًا، حافظوا على نفس الطّقس. وأدخلت فيه بعض العبادات اللّاتينيّة والأعياد المريميّة كعيد قلب يسوع وعيد الجسد.

3. طقس الهنود الملابار، أيّ طقس الهنود في ساحل الملابار الّذين كانوا منتمين لكنيسة المشرق ويتبعون طقسها ويمارسونها باللّهجة السّريانيّة الشّرقيّة إلى القرن السّادس عشر. وعندما قدم المبشّرون البرتغال اللّاتين إلى الهند غيّروا طقوسهم فاصطبغت بصبغة اللّيتورجيا اللّاتينيّة. حاليًّا عادوا إلى الطّقس المشرقيّ ورفعوا عنه اللّتننة، ورتبوه بحسب ثقافتهم وترجموه إلى لغتهم "مليالم".

كنيسة المشرق

تاريخ كنيسة المشرق بلا بهاء خارجيّ ولا قوّة سياسيّة مثلما كان حال الكنائس البيزنطيّة واللّاتينيّة. إنجازاتُها الرّئيسية: ليتورجيّة، روحانيّة، ثقافيّة وتبشيريّة. كنيستنا كافحت للبقاء على قيد الحياة بالرّغم من العزلة والاضطهاد. ولكونها خارج الامبراطوريّة الرّومانيّة، نَعَمِت بِقِسْطٍ من الاستقلاليّة. كنيسة لم تكن قوميّة بالمعنى الحصريّ، بل ضمّت شعوبًا وأقوامًا من أعالي ما بين النّهرين وبلدان الخليج العربيّ والهند حتّى الصّين. ليتورجيّتها باختصار كونيَّة ديناميكيّة، عيدٌ واحتفالٌ، وينبوعُ حياةِ.

يرسم التّقويم الكنسيّ الأزمنة الطّقسيّة (السّابوعات) بصلواتها الخاصّة على محور التّدبير الخلاصيّ (ܡܕܒܪܢܘܬܐ). ولكلّ موسم تراتيله وصلواته ومزاميره وقراءاته، لتساعد المؤمن على عيش الزّمن (الحدث) الّذي يُحتَفل به.

كانت توجد خدمتان أمام البطريرك ايشوعياب الثّالث الحديابي عندما قام بتنظيم طقوس كنيسة المشرق في الدّير الأعلى (الطّهرة في الموصل): خدمة كنيسة كوخي الكاتدرائيّة، كنيسة الكرسيّ البطريركيّ، والخدمة الدّيريّة الرّهبانيّة، فوحَّد الخدمتين في طقس واحد أقرب إلى الخدمة الرّهبانيّة منه إلى الخدمة الرّعويّة. ولا ننسى أنّ يشوعياب كان راهبًا من دير المرج بنواحي عقرة وفريقه الفنّيّ كان من الرّهبان أيضًا.

خدمة الكاتدرائيّة والرّعيّة: كانت تشمل صلاة الصّباح والغروب ܨܦܪܐ ܘܪܡܫܐ مع مزامير مختارة ومرتّلة، وترانيم وتسابيح وطلبات تصحبها الرّدّة الّتي كان يردّدها المشتركون فيها.

الخدمة الدّيريّة إلى جانب الصّلاتين الرّسميّتين للكاتدرائيّة كانت تضمُّ طقوسًا أخرى كصلاة اللّيل والمجلس والسّهر ܠܠܝܐ ܘܡܘܬܒܐ ܘܫܗܪܐ …الخ. وفي الصّوم الكبير تتضاعف أوقات الصّلاة لتصبح سبعة أوقات.

توزيع الصّلوات والأداء: وزّع البطريرك ايشوعياب وفريقه الصّلوات إلى أسابيع فرديّة ܩܕܡܝ̈ܐ وأسابيع زوجيّة ܕܚܪ̈ ܝܐ، لربّما كان هذا التّوزيع موجودًا قبله! كذلك وزّع المصلّين إلى فريقين: الفرديّ والزّوجيّ.

حديثًا

الدّراسات اللّيتورجيّة عندنا حديثة العهد، بدأت بالمطرانين سرهد جمو وجاك اسحق والآباء بطرس يوسف، منصور فان فوسيل المخلّصيّ، ريّان عطو، والأخت سناء حنّا من راهبات القلب الأقدس والأخت مرتا الدّومنيكيّة. معظم هولاء الأشخاص درس على يد المتخصّص بطقوسنا المشرقيّة الأب خوان ماتيوس Juan Mateos، الأستاذ في المعهد الشّرقيّ بروما، وكان قبله الكاهن الفرنسيّ لويس دوشسن Louis Duchesne (1843-1922).

ثمّة ملافنة قدامى قاموا بتفسير الخِدم الكنسيّة المشرقيّة: جبرائيل برليفي القطري (نحو سنة 615) ونسيبه ابراهيم برليفي القطريّ (القرن السّابع) ومؤلّف مجهول من القرن التّاسع، ويوحنّا بن زعبي (+ 1235) وعبديشوع الصّوباوي (+ 1318) والبطريرك طيمثاوس الثّاني (+1332) والبطريرك يوسف الثّاني آل معروف (1713).

كما أنّ هناك توثيقًا لألحاننا الطّقسيّة بالصّوت الجميل للأساقفة: أفرام بدي وأسطيفان بابكا وأندراوس صنا والخوراُسقف أفرام رسام، هذه التّسجيلات كانت محفوظة في مكتبة معهد مار يوحنّا الحبيب بالموصل واليوم في مركز توثيق المخطوطات الشّرقيّة الرّقميّ الّذي يشرف عليه سيادة المطران ميخائيل نجيب ميخائيل.

ختامًا: الطّقس الآن ليس محصورًا كما ألِفناهُ سابقًا بين المحتفل والشّمّاس، بل يتطلّب مشاركة فاعلة من قبل المؤمنين الّذين يُعدُّ وجودهم عنصرًا أساسيًّا ومن هذا المنطلق تعني لفظة اللّيتورجية liturgy صلاة الشّعب. الطّقوس نعمة كبيرة للكنيسة، وحياة وشركة متجدّدة دومًا مع الله. طقوس الكنيسة تمثّل إرثها التّاريخيّ وهويّتها وشخصيّتها المتميّزة. والتّأوين لا يعني إلغاء الطّقس الأصيل أو إبقائه جامدًا، بل يعني العمل على إزالة الدّخيل والتّكرار وإبراز الأصيل وإنعاشه ليتواصل مع الأجيال الجديدة. هذا ما قام به آباء السّينودس الكلدانيّ بكلّ حرص وصدق في السّنوات الأخيرة، رعايةً لمؤمنيهم وفق متطلّبات ثقافات بلدانهم، وسهرًا على إيمانهم".