الأراضي المقدّسة
20 آب 2021, 09:30

متى تعيد حياتنا اكتشاف معناها وتحقّق ذاتها؟

تيلي لوميار/ نورسات
عشيّة الأحد الحادي والعشرين من الزّمن العاديّ، تأمّل بطريرك القدس للّاتين بييرباتيستا بيتسابالا بكلمة الرّبّ فقال بحسب موقع البطريركيّة:

"في نهاية الفصل السّادس من إنجيل يوحنّا، تصدر عن التّلاميذ ردّة فعل مزدوجة: يمثّل كلام يسوع بالنّسبة لبعضهم حجر عثرة وسببًا للابتعاد عنه. بالنّسبة للآخرين، على العكس تمامًا، كان كلامه سببًا لتجديد ولائهم له وفرصة للتّأكيد مجدّدًا على إرادتهم في اتّباع المعلّم.

إنّهم جميعًا تلاميذ، أيّ أنّهم أشخاص لم يكن تواجدهم هناك بالمصادفة. كما أنّهم ليسوا من الّذين يصغون إلى يسوع أحيانًا فقط. إنّهم نفس التّلاميذ الّذين تبعوا يسوع وجذبهم كلامه وأعماله.

وعليه، لدينا صورتان متناقضتان، كلّ واحدة منهما تميّزها بعض الكلمات الرّئيسيّة.

تنتهي الصّورة الأولى (يوحنّا 6: 59 – 66) بكلام مرير يكتب عنه يوحنّا ويتعلّق بابتعاد التّلاميذ: "فارتدّ عِندَئِذ كَثيرٌ من تَلاميذه وانقطَعوا عَن السَّيْر مَعه" (يوحنّا 6: 66).

نتعرّف من هذه الآية على ثلاثة عناصر تتعارض جميعها مع خبرة التّلمذة واتّباع يسوع.

نجد العنصر الأوّل في كلمة "عِندَئِذ" أيّ بمعنى "من هذا المنطلق، وبسبب هذا الأمر" ومعناها أنّ تلك اللّحظة في حياة التّلاميذ شكّلت منعطفًا يترتّب عنده اتّخاذ قرار ما. ثمّة وحي جديد وهامّ لم يستطع التّلاميذ استيعابه وتقبّله. عندما أوحى يسوع أنّه طعامٌ لنيل الحياة الأبديّة، مثّل هذا الوحي حجر عثرة لهم بدلاً من تقوية مسيرة اتّباعهم له.

إعتبر التّلاميذ هذا الكلام "عسيرًا" (يوحنّا 6: 60)، وأعرضوا عن قبوله. نستنتج أنّ مسيرة التّلاميذ غير مضمونة مرّة واحدة وإلى الأبد، بل إنّ القرار الأوّليّ في اتّباع المعلّم يجب أن يتوافق مع القدرة على تقبّل وحي الله في التّاريخ، وهو وحي ذاتيّ لا يمكن اعتباره أمرًا مسلّمًا به، وهو يدعو القلب إلى قبول التّغيّر. على هذا الأساس لا يمثّل كلامه حجر عثرة.

أمّا العنصر الثّاني فنجده عندما "ارتدّ" التّلاميذ، وهي كلمة تدلّ على الإحباط والتّوهّم والفشل. سنجد هذه الكلمة لاحقًا في الفصل العشرين من إنجيل يوحنّا، عندما رجع بطرس ويوحنّا، بعد رؤيتهما للقبر الفارغ لأنّهم لم يفهما بعد ما ورد في الكتاب (يوحنّا 20: 9 – 10). إنّها ذات الخبرة الّتي عاشها تلميذا عمّواس والشّابّ الغنيّ، وهم عبارة عن أفراد مدعوّين إلى القيام بتغيير وتقبّل وحي واتّخاذ توجّه ما.

إنّ عبارة "ارتدّوا إلى الوراء" الّتي يستخدمها يوحنّا للإشارة إلى الرّجوع هي ذاتها الّتي يستخدمها الإنجيليّون للحديث عن "اتّباع" يسوع. ولكن الكلمة هنا لم تعد تعني اتّباع يسوع، بل تدلّ ببساطة على الرّجوع وملاحقة أمور سابقة كانت محور حياة التّلاميذ قبل السّير معه.

لقد فوّت التّلاميذ فرصة هامّة. إن كان هذا الخبز الّذي يقدّمه يسوع هو للحياة، فرجوعهم وارتدادهم سيؤدّي إلى الموت.

أمّا العنصر الثّالث فأحداثه مأساويّة أكثر لأنّ التّلاميذ "انقطعوا عن السّير معه". إن كان كلام يسوع يهدف إلى جعل التّلاميذ يعيشون خبرة ألفة معه، تمامًا كالخبرة الّتي يعيشها يسوع مع الآب (يوحنّا 6: 56– 57)، فهذا الكلام هو عن حياة تتوقّف عمّا كانت عليه، حياة تفقد جميع معانيها وجمالها، وإمكانيّاتها غير مألوفة.

وفي مقابل هذه الصّورة المأساويّة ثمّة صورة التّلاميذ الإثني عشر (يوحنّا 6: 67– 69)، المدعوّين أيضًا إلى اتّخاذ قرار تمامًا كالتّلاميذ الآخرين.

يتكلّم بطرس بإسم الجميع للتّعبير عن موقفهم. إنّ الكلمات الّتي يستعملها بطرس "إلى من نذهب؟" هي مماثلة لتلك الّتي استعملت سابقًا للإشارة إلى ارتداد التّلاميذ ورجوعهم. كما نستطيع القول إنّ هذه الكلمات كانت عسيرة عليهم ومثلّت حجر عثرة يجب التّغلّب عليه. في الوقت الّذي قرّر فيه التّلاميذ الأوائل مواجهة هذه الكلمات برفضهم للرّبّ، فإنّ التّلاميذ الإثني عشر واجهوها بالإقبال نحوه. يكمن هنا الاختلاف الأكبر وينمو هنا الإيمان وينضج. يمكن لكلمات يسوع بهذه الطّريقة فقط أن تصبح كلمات حياة.

لتحقيق هذا الإدراك، قطع الاثنا عشر هذه المسيرة من خلال كلمتين: آمنّا وعرفنا، أيّ سمحنا لأنفسنا أن نُقبِل إلى الآب (يوحنّا 6: 43، 65)، وأن تكون لدينا الثّقة الّتي اختبرنا أنّها تؤدّي إلى الحياة.

يوحي يسوع عن نفسه هنا على أنّه شخصٌ مكانه في السّماء كما على الأرض: "فكيف لو رأيتم ابن الإنسان يصعد إلى حيث كان قبلاً" (يوحنّا 6: 62). ينتمي يسوع إلى كلا المكانين. إنّه الكلمة المتجسّد وهذا الجسد والدّمّ هما هيكلان للحياة الدّاخليّة للكلمة. الجسد وحده لا يجدي نفعًا كما جاء في الآية 63. ولكن عندما يكتسي الجسد حياة الله والكلمة الّتي هي الله، فمن المنطقيّ التّكلّم عنها في الطّريقة الّتي تحدّث عنها يسوع. يدعو يسوع تلاميذه إلى الذّهاب إلى ما وراء الإدراك الملموس لما أوحى به أو كشفه، وتقبّل وحيه وفقًا للرّوح القدس.

في بداية الفصل وبعد أحداث تكثير الخبز وقبل الحوار الطّويل عن خبز الحياة، ثمّة حدث تغفل عنه ليتورجيّة الأحد، إلّا أنّه على الأرجح المفتاح لقراءة النّصّ بأكمله. إنّه حدث عبور بحيرة طبريّا وسط العاصفة (يوحنّا 6: 16– 21).

تشبه طريقة الوصول إلى الإيمان والمعرفة في الحقيقة المرور وسط العاصفة، وهي خبرة يلمس فيها الشّخص الموت، ويعترف بعدم قدرته على بلوغ الضّفّة الأخرى وحده.

هناك يصل الرّبّ إلينا بطريقة لا نتوقّع حدوثها، وتتحدّث عن سيادته على الشّرّ والموت. وإن لم نَدَعِ الخوف والإحباط يغلباننا، حينها ستعيد حياتُنا اكتشاف معناها وتحقّق ذاتها.

نستطيع القول إنّ التلاميذ الّذين توقّفوا عن اتّباع الرّبّ لم يبلغوا الضّفة الأخرى، ولم يكملوا عبورهم، بعكس الإثني عشر الّذين عبروا، لا بقدراتهم بل بقوّة الإصغاء إلى كلمته: "أنا هو: لا تخافوا!"."