لبنان
23 شباط 2018, 10:22

من لمسني؟

لمناسبة أحد شفاء المنزوفة، كتب كاهن رعيّة مار فوقا الخوري جوزف سلّوم تأمّلاً تحت عنوان "من لمسني؟"، قال فيه:

 

"يسوع يعبر إلى الشّاطئ المقابل، وتمنعه معوّقات الرّياح من العبور، وأمواج تلاطم سفينة سفره وتعلو وسط الرّغبة للذّهاب إلى البشارة، وإعلان سرّ ملكوت الله.

والجميع يطلبونك يا معلّم، الجميع ينتظرونك يا سيّد، الجميع يترقّبون مجيئك، وفي سراج مصابيحهم انتظارات اللّقاء والشّفاء، هناك على الشّاطئ انتظروك وانتظروا منك وآمالهم عالية، منهم وجعه علنيّ وظاهر كإبنة يائيروس، ومنهم وجعه خفيّ صامت مزمن، كالمرأة المنزوفة تعاني منذ اثنتي عشرة سنة، وكانت قد أنفقت كلّ ما لديها على الأطبّاء وبقيت تترنّح بين الموت والحياة، تأكل خبز الآلم والانتظار، والكلّ يلتمس الشّفاء من يسوع، ويرغب اللّقاء به.

جرأة المرأة، وقوّة إيمانها، جعلاها تثق بلمسة حبّ تبادر بها، لتخرج إلى لقاء يسوع وتخرج منه نعمة الشّفاء، وتنال قوّة السّماء، وحدها من بين كلّ الجموع الّذين لمسوه في ضبابيّة الازدحام أهداها قوّته ونعمته، إنّها لمسة الإيمان.

أعلنت شرائع وتنظيمات اللّاويين آنذاك أنّه "ممنوع اللّمس"، ممنوع عليها أن تلمس يسوع، تمنع أن تختلط بالجمهور ولا تدخل الأماكن المقدّسة، ولا تعلو درجات الهيكل، ولا تقترب من الأنبياء، فحالة المرأة المنزوفة هي حالة التّدنيس والنّجاسة.

هل حقًّا ممنوع أن نلمس يسوع؟!

هل لمسه بأيدينا يصنع تدنيسًا؟!

لماذا النّجاسة وأنت تدعونا لنقترب منك لأنّك أنت الحجر الحيّ، ونلقاك في القربان والحياة، ويكون لنا بك القرب والاتّحاد والعشق الإلهيّ، أنت الإله القريب والحقيقة الخلاصيّة والحبّ اللّامتناهي والسّعادة الوحيدة؟

في عالم العهد القديم المضطرب فقط محاذير للاقتراب من يسوع، من القدّوس، وقد نحيا هذا الاضطراب في عالمنا اليوم، ونأخذ أقصى درجات الحذر والحيطة، في عالم يتّكل على قوّته الذّاتيّة وعلى محافظته على حرفيّة الشّريعة حيث ينصّب ذاته حارسًا للقوانين، هؤلاء لم يقتربوا منه بل كانوا يراقبونه ويراقبون من معه ومن يلمسه إذا كان مستوفيًا الشّروط الوافية، هؤلاء هم المقترعون على ثيابه... الّذين خسروا نعمة التّذوّق لسرّ الحبّ واللّقاء والشّفاء.

خرقت هذه المرأة المؤمنة ليس فقط الجموع بل التّقاليد والشّرائع ولم تنظر إلى تطهير خارج الكأس والإناء بل إلى الدّاخل، وعلمت أنّها لو لم تلمس المسيح لكانت دخلت عتمات الموت، لأنّ من لا يلمس يسوع سيموت موتًا... وعلمت واحدة أنّ النّجاسة هي في القلب والفكر والضّمير وسوء الفهم.

وكأنّي بها خرجت من صحراء وجعها الجسديّ والنّفسيّ والاجتماعيّ والدّينيّ لتلاقي يسوع الصّائم في صحرائه فمعه الغلبة وبه تنال الحياة.

والسّرّ يكمن في شيء واحد: في كيفيّة لمسك والدّنوّ منك. فوصلت هذه المرأة من خلال نضج إيمانها وإعلانها وثبات اعترافها، إلى كلّ بهاء احترام قدسيّة حضورك فمدح يسوع إيمانها "يا ابنتي إيمانك خلّصك، اذهبي بسلام".

هنيئًا لك أيّتها المرأة بلمسة إيمانك لجسد يسوع.

وتحرّرتي أيّتها المرأة من أطبّاء هذا الدّهر وكلّ الأنبياء الكذبة، ورفضتي أن يكون قلبك باردًا وأخذتي بيديك نار الفصح المهداة من العريس الفادي وغسلتي آثامك وتقدّستي وأخذتي معك الجموع إلى مسيرة اتباع ليسوع صوب فئة أخرى، شقيقة لنا قاصرة على فراش الموت إبنة رئيس المجمع، حيث خرجنا من حضرة الإيمان الخفيّ الفاعل، إلى وسط دار يأيروس، إلى وسط هذا الضّجيج الظّاهر والعويل وعلامات الموت، الواصل إلى صفحات وسائل التّواصل الاجتماعيّ اليوم...

أسمعك يا سيّدي تقول لهم: "لماذا تضجّون وتبكون؟ أنت ترغب يا سيّدي أن تأخذهم وتأخذنا إلى معاينة القيامة والحياة".

أخرجهم يا ربّ جميعًا من نتن القبور وفساد الألسنة وقل لهم ليس الوقت وقت دينونة، إنّها نائمة ولم تمت بعد، وعمل الدّينونة أمر يبقى لي فقط عند الممات، قل لهم أخرجوا، وافسحوا الطّريق لبطرس، ويعقوب ويوحنّا ليدخلوا معي، قولوا لبطرس الحاجة أن يأتي ويدخل ويعاين القيامة والدّهشة والفرح وحياة قاصرة ترغب أن تسير وتمشي على دروب الإيمان النّاضج والحيّ وفي معيّة بطرس.

قل لبطرس حاجة كنيستنا اليوم أن تلتقي تلك المرأة والفتاة معًا على دروب الإيمان، واحدة أمسكت بيمينها أهداب يسوع وأخرى أمسك يسوع بيمينها وأقامها ولتلتقي يمين المرأة بيمين الفتاة مع يمين يسوع فيكون لنا عرس وفرح أبديّ".