الفاتيكان
07 كانون الأول 2022, 06:55

واعظ الكرسيّ الرّسوليّ يفتح "باب الإيمان" في زمن المجيء

تيلي لوميار/ نورسات
"باب الإيمان" هو عنوان التّأمّل الأوّل الّذي ألقاه واعظ الكرسيّ الرّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا لمناسبة زمن المجيء، في قاعة بولس السّادس بالفاتيكان، بحضور البابا فرنسيس.

وفي عظته قال بحسب "فاتيكان نيوز": "لقد فكّرت أن أختار الفضائل اللّاهوتيّة الثّلاث كموضوع لتأمّلات المجيء الثّلاث هذه. الإيمان والرّجاء والمحبّة هي الذّهب والبخور والمرّ الّذي نريد، نحن مجوس اليوم، أن نقدّمها كهديّة لله الّذي "يأتي لزيارتنا من علو".

في الصّلاة المسيحيّة، يتردّد بشكل كبير صدى المزمور الّذي يقول: "إرفعن رؤوسكنّ أيّتها الأبواب وارتفعن أيّتها المداخل الأبديّة فيدخل ملك المجد. من هذا ملك المجد؟ ربّ القوّات هو ملك المجد!". في التّفسير الرّوحيّ للآباء واللّيتورجيا، الأبواب الّتي يتحدّث عنها المزمور هي أبواب قلب الإنسان: "طوبى لمن يقرع المسيح بابه"، يقول القدّيس أمبروسيوس. "بابنا هو الإيمان ... إذا أردت أن ترفع أبواب إيمانك، سيدخل إليك ملك المجد". كذلك جعل القدّيس يوحنّا بولس الثّاني كلمات المزمور شعارًا لحبريّته، إذ صرخ إلى العالم في يوم بدء خدمته: "افتحوا، لا بل شرِّعوا الأبواب للمسيح!". إنّ الباب الكبير الّذي يمكن للإنسان أن يفتحه أو يغلقه للمسيح ليس سوى بابًا واحدًا ويسمّى الحرّيّة. ولكنّه يفتح بثلاث طرق مختلفة، أو وفقًا لثلاثة أنواع مختلفة من القرارات الّتي يمكننا اعتبارها أبوابًا أيضًا وهي الإيمان والرّجاء والمحبّة. إنّها جميعها أبوابًا خاصّة: تفتح من الدّاخل والخارج في الوقت عينه: بمفتاحين، أحدهما في يد الإنسان والآخر في يد الله.

لذلك دعونا نبدأ تأمُّلنا من أوّل باب من هذه الأبواب الثّلاثة: الإيمان. إنَّ الله- نقرأ في أعمال الرّسل- "فتح باب الإيمان للوثنيّين". مع مجيء المسيح، نجد قفزة في الجودة فيما يتعلّق بالإيمان. ليس في طبيعته وإنّما في محتواه. الآن لم يعد الأمر يتعلّق بإيمان عامّ بالله، وإنّما بالإيمان بالمسيح الّذي ولد ومات وقام من أجلنا. تضع الرّسالة إلى العبرانيّين قائمة طويلة من المؤمنين: "بالإيمان هابيل... بالإيمان إبراهيم... بالإيمان إسحاق... بالإيمان يعقوب... بالإيمان موسى..." لكنّها تختتم بالقول: "وهؤلاء كلّهم تلقّوا شهادة حسنة بفضل إيمانهم، ولكنّهم لم يحصلوا على الموعد".. ماذا كان ينقصهم؟ كان ينقصهم يسوع، أيّ الّذي تقول عنه الرّسالة عينها أنّه "مبدئ إيماننا ومتمّمه". هذا هو الإيمان الآن الّذي يبرّر الأشرار، الإيمان الّذي يلدُنا مجدّدًا لحياة جديدة. ويأتي في نهاية عمليّة يرسم فيها القدّيس بولس، في الفصل العاشر من الرّسالة إلى أهل روما، المراحل المختلفة، بشكل بصريٍّ تقريبًا، من خلال رسمها على خريطة الجسم البشريّ. كلّ شيء يبدأ، كما يقول، من الأذنين، بسماع إعلان الإنجيل: "الإيمان يأتي من السّماع". لكن العمليّة لا تنتهي هنا، بل تنتقل من الأذنين إلى القلب والفم وصولاً إلى اليدين. نعم، لأنّ "القيمة للإيمان العامل بالمحبّة"، كما يقول الرّسول في رسالته إلى أهل غلاطية. في هذه المرحلة، يطرح سؤال آنيٌّ جدًّا. إذا كان الإيمان الّذي يخلّص هو الإيمان بالمسيح، فماذا علينا أن نفكّر في جميع الّذين ليس لديهم أيّة إمكانيّة لكي يؤمنوا به؟

إنَّ لاهوتنا قد تطوّر في عالم كانت توجد فيه المسيحيّة فقط عمليًّا. أمّا اليوم، فلم يعد الأمر كذلك. منذ بعض الوقت، يدور حوار بين الأديان، يقوم على أُسس الاحترام المتبادل والاعتراف بالقيم الموجودة في كلّ منها. بهذا الاعتراف تمّ التّأكيد على القناعة بأنّه حتّى الأشخاص الّذين هم خارج الكنيسة يمكنهم أن يخلصوا. لا يمكن للمرء أن يؤمن بأنّ يسوع هو الله، ومن ثم يحدُّ أهمّيّته بقطاع صغير واحد منه فقط. يسوع هو "مخلّص العالم"؛ والآب أرسل الابن "ليخلِّص به العالم": وبالتّالي لا أقلّيّة في العالم! لنحاول إذن أن نجد إجابة في الكتاب المقدّس. هو يؤكد أنّ الّذي لم يعرف المسيح، ولكنّه يعمل على أساس ضميره ويصنع الخير لقريبه يكون مرضيًّا عند الله. ونسمع في كتاب أعمال الرّسل، من فم بطرس، هذا الإعلان الرّسميّ: "أدركت حقًّا أنّ الله لا يراعي ظاهر النّاس، فمن اتّقاه من أيّة أمّة كانت وعمل البرّ كان عنده مرضيًّا". حتّى أتباع الدّيانات الأخرى يؤمنون بشكل عامّ أنّ "الله موجود وأنّه يجازي الّذين يبتغونه"؛ ومع ذلك، فإنّ السّبب الرّئيسيّ لتفاؤلنا لا يقوم على الخير الّذي يستطيع أتباع الدّيانات الأخرى فعله، وإنّما على "نعمة الله المتنوّعة".

لدى الله طرق كثيرة للخلاص أكثر ممّا نعتقد. فقد أقام "قنوات" لنعمته، ولكنّه لم يربط نفسه بها. وإحدى هذه الوسائل "غير العادية" للخلاص هي الألم. بعد أن أخذه المسيح على عاتقه وافتداه، أصبح هو أيضًا، بطريقته الخاصّة، سرّ خلاص شامل. نحن نؤمن أنّ جميع الّذين ينالون الخلاص يخلُّصون باستحقاقات المسيح: "فلا خلاص بأحد غيره، لأنّه ما من اسم آخر تحت السّماء أطلق على أحد النّاس ننال به الخلاص". مع ذلك، فإنّ التّأكيد على الضّرورة الشّاملة للمسيح من أجل الخلاص هي شيء، وتأكيد الضّرورة العامّة للإيمان بالمسيح من أجل الخلاص هي شيء آخر. فليس ضروريًّا إذن أن نستمرّ في إعلان الإنجيل لكلّ خليقة؟ لا! وإنّما يجب على الدّافع أن يتغيّر وليس الحقيقة. علينا أن نستمرّ في إعلان المسيح. ولكن ليس لدافع سلبيّ- لأنّه بخلاف ذلك سيتمّ إدانة العالم- وإنّما لدافع إيجابيّ: من أجل العطيّة اللّامتناهية الّتي يمثّلها يسوع لكلّ إنسان. إنَّ وصيّة المسيح: "اذهبوا في العالم كلّه، وأعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين" و"تلمذوا جميع الأمم" تحتفظ بصلاحيّته الدّائمة، ولكن يجب أن نفهمها في سياقها التّاريخيّ. هذه كلمات للإشارة إلى اللّحظة الّتي كُتبت فيها، عندما كانت عبارة "العالم كلّه" و"جميع الأمم" وسيلة للقول إنّ رسالة يسوع لم تكن موجّهة لشعب إسرائيل وحسب، وإنّما لبقيّة العالم أيضًا. إنّها صالحة دائمًا للجميع، ولكن بالنّسبة للّذين ينتمون إلى ديانة أخرى، يُطلب منّذا الاحترام والصّبر والمحبّة تجاههم، والقدّيس فرنسيس الأسيزيّ فهم هذا الأمر ووضعه موضع التّنفيذ.

مع انفتاح القلب هذا، نعود الآن إلى إيماننا المسيحيّ. إنَّ التّحدّي الكبير الّذي عليه أن يواجهه في عصرنا لا يأتي كثيرًا من الفلسفة، كما في الماضي، وإنّما من العلم. هناك خبر مثير يعود لبضعة أشهر خلت. تمّ إطلاق تلسكوب إلى الفضاء في ٢٥ كانون الأوّل ديسمبر ٢٠٢١ وتمّ وضعه على بعد مليون ونصف المليون كيلومتر من الأرض، وفي ١٢ تمّوز يوليو من العام الحاليّ، أرسل صورًا فريدة للكون دفعت العالم العلميّ إلى النّشوة. سنكون أغبياء وناكرين للجميل إذا لم نشارك في فخر البشريّة بهذا الاكتشاف كما في أيّ اكتشاف علميّ آخر. إذا ولد الإيمان- بالإضافة إلى كونه يولد من السّماع- من الذّهول، كما قيل، فإنّ هذه الاكتشافات العلميّة لا ينبغي أن تقلّل من إمكانيّة الإيمان وإنّما أن تزيدها. لقد أراد الله أن يعطينا علامة ملموسة على عظمته اللّامحدودة مع ضخامة الكون وعلامة على "غموضه" مع أصغر جسيم من المادّة، والّذي، حتّى بمجرّد بلوغه- تؤكّد الفيزياء- يحافظ على "لا نهائيّته". إنَّ الكون لم يخلق نفسه بنفسه؛ ونحن نقوم بهذه التّأمّلات حول الإيمان والعلم لا لكي نُقنع العلماء غير المؤمنين وإنّما لكي نثبّت أنفسنا نحن المؤمنين في بالإيمان ولا نسمح بأن يقلقنا ضجيج الأصوات المعارضة.  

إزاء الأبعاد اللّامحدودة للكون الّتي تتكشف أمام أعيننا، يكون أعظم فعل إيمان لنا نحن المسيحيّين لا أن نؤمن بأنّ الله قد خلق هذا كلّه، وإنّما بأنّ "كلُّ شيء قد خلق بالمسيح وله"، وأنّ "بدونه ما كان شيء ممّا كان". إنَّ المسيحيّ يملك برهانًا عن الله أكثر إقناعًا من البرهان المزعوم الّذي يملكه عن الكون: شخص وحياة يسوع المسيح. الإيمان هو المعيار الوحيد القادر على أن يجعلنا نتواصل بطريقة صحيحة، ليس فقط مع العلم، وإنّما أيضًا مع التّاريخ. في حديثه عن الإيمان الّذي يُبرر، يستشهد القدّيس بولس بوحي حبقوق الشّهير: "البارّ بإيمانه يحيا". ماذا يقصد الله بهذه الكلمة النّبويّة، بما أنّ الله نفسه هو الّذي يقولها؟ تبدأ الرّسالة بشكوى النّبيّ على هزيمة العدالة ولأنّ الله يبدو أنّه يراقب العنف والقمع من أعلى السّماء. فيجيب الله أنّ كلّ هذا على وشك أن ينتهي لأنّ كارثة جديدة ستأتي قريبًا- الكلدان- وستمحو كلّ شيء. فثار النّبيُّ على هذا الحلّ. هل هذا جواب الله؟ ظلم يحلّ محل ظلم آخر؟ ولكن هنا بالتّحديد كان الله ينتظر النّبيّ. "هوذا منتفخة غير مستقيمة نفسه فيه. والبارّ بإيمانه يحيا"، وبالتّالي يُطلب من النّبيّ أن يقوم بقفزة إيمان.

إنَّ رسالة حبقوق هي آنيّة بشكل فريد. فقد شهدت البشريّة خلال السّنوات الأخيرة من القرن الماضي التّحرّر من القوّة القمعيّة للأنظمة الشّموليّة الشّيوعيّة. لكن لم يكن لدينا وقت لكي نتنفّس الصّعداء قبل أن يظهر المزيد من الظّلم والعنف في العالم. وكان هناك من اعتقد بسذاجة، في نهاية "الحرب الباردة"، أنّ انتصار الدّيمقراطيّة سيغلق الآن بشكل نهائيّ دورة الاضطرابات الكبيرة وأنّ التّاريخ سيستمرّ في مجراه دون مزيد من الصّدمات. ولكن سرعان ما ناقضت الأحداث هذه الافتراض، مع ظهور دكتاتوريّات أخرى واندلاع حروب أخرى، بدءًا من "الخليج"، وصولًا إلى الحرب في أوكرانيا. في هذه الحالة، يبرز فينا أيضًا سؤال النّبيّ حبقوق: يا ربّ إلى متى؟ ألا ترى الشّرّ! لماذا كلّ هذا العنف، والكثير من الأجساد البشريّة الّتي أضناها الجوع، والكثير من القسوة في العالم، بدون أن تتدخّل؟ لكن جواب الله يبقى هو نفسه: إنَّ الّذين لا تتأصّل قلوبهم في الله يخضعون للتّشاؤم ويتشكّكون، في حين أنّ البارّ بالإيمان يحيا وسيجد الجواب في إيمانه. وسيفهم ما قصده يسوع عندما قال أمام بيلاطس: "مملكتي ليست من هذا العالم". ولكن لنحفظ ذلك جيّدًا ولنذكر به العالم، إذا لزم الأمر: الله عادل وقدوس؛ ولن يسمح بأن تكون الكلمة الأخيرة للشّرّ ولا للأشرار بأن يفلتوا من العقاب.

إنَّ يسوع قد قلب الأدوار إلى الأبد. "انتصر لأنّه الضّحيّة": هكذا يصف القدّيس أوغسطينوس المسيح. وبالتّالي في ضوء الحياة الأبديّة- وفي ضوء التّاريخ أحيانًا أيضًا- لا يكون الجلّادون المنتصرين الحقيقيّين، بل ضحاياهم. لذلك فما يمكن للكنيسة أن تفعله، لكي لا تشهد بشكل سلبيّ على تقدّم التّاريخ، هو أن تقف ضدّ الاضطهاد والغطرسة، وأن تضع نفسها على الدّوام في صفِّ الفقراء، والضّعفاء، والضّحايا، الّذين يتحمّلون وطأة كلّ مصيبة وكلّ حرب. ما يمكنها أن تفعله أيضًا هو إزالة أحد العوامل الّتي لطالما آثار النّزاعات وهو التّنافس بين الأديان. وبهذا المنظار، علينا أن ننظر إلى المبادرات مثل تلك الّتي بدأها القدّيس يوحنّا بولس الثّاني وسرعها البابا فرنسيس اليوم من أجل حوار بنَّاء بين الأديان.

الإيمان هو سلاح الكنيسة، لأنَّ الكنيسة، مثل حبقوق البارّ، "بإيمانها تحيا". وبالتّالي فإنّ أعظم فعل إيمان يمكن للكنيسة أن تقوم به- بعد الصّلاة وبذل كلّ ما في وسعها لتجنب النّزاعات أو إنهائها- هو الاستسلام لله بفعل ثقة كاملة واستسلام وأن تكرّر مع بولس الرّسول: "لأنّي عالم على من اتّكلت". لنذهب إذن للقاء المسيح الّذي يأتي بفعل إيمان يكون أيضًا وعدًا من الله وبالتّالي نبوءة: "إنَّ العالم في يد الله وعندما، بسوء استعماله لحرّيّته يصل الإنسان إلى الحضيض، سيتدخّل الله لكي يخلِّصه". نعم، سيتدخّل لكي يخلّصه! لهذا، في الواقع، جاء إلى العالم، منذ ألفي واثنين وعشرين عامًا."