أميركا
28 تموز 2023, 06:30

يوحنّا العاشر من مؤتمر أبرشيّة نيويورك وسائر أميركا الشّماليّة: أنتم أنطاكية وأنطاكية أنتم، نحن جسد واحد مهما باعدت المسافات

تيلي لوميار/ نورسات
ألقى بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الأرثوذكس يوحنّا العاشر كلمة في مؤتمر أبرشيّة نيويورك وسائر أميركا الشّمالية المنعقد في فينيكس- أريزونا، قال فيها بحسب إعلام البطريركيّة:

"آتي إليكم من دمشق، المدينة الّتي ورثت منذ قرون مجد أنطاكية. آتي وفي قلبي فرح فصحيّ، يغلب كلّ حزن وألم، ويمدّ إليكم أنوار القيامة الّتي رأيتها تفيض على وجوه إخوتكم الّذين يجاهدون للبقاء في مدينة الله أنطاكية العظمى، يوم احتفلت معهم بالفصح في أنطاكية فوق أنقاض كاتدرائيّة القدّيسين بطرس وبولس، الّتي دمّرها الزّلزال، ولكنّه لم يدمّر عزيمة شعبها وكنيستها الحيّة الّتي ما زالت تتحدّى قسوة التّاريخ وتصرّ على البقاء وعلى بناء ما تهدّم، والشّهادة لحلاوة المسيح وللإرث الأرثوذكسيّ الأنطاكيّ.

آتي إليكم من دمشق، الطّريق المستقيم، حيث تعمّد شاول وتحوّل إلى بولس رسول الأمم. وأحمل إليكم بركة مريميّة الشّام، ودير السّيّدة في صيدنايا، ودير القدّيسة الشّهيدة تقلا المعادلة للرّسل في معلولا، هذه البلدة الّتي ما زال أبناؤها يتكلّمون لغة المسيح، بالرّغم من كل مآسي التّاريخ الّتي عصفت بهم، وآخرها الاحتلال الإرهابيّ الّذي اقتلعهم من ديارهم ودمّر مقدّساتهم الّتي يعيدون هم أيضًا بناءها بإصرار وعزم، ويرفعون الصّلوات مع إخوتهم من أجل إحلال السّلام في سوريا وعودة النّازحين والمخطوفين وعلى رأسهم مطرانا حلب بولس ويوحنّا اللّذان يختصر خطفهما الوجع الأنطاكيّ في أيّامنا.

آتي إليكم، من لبنان، هذا البلد الّذي يزخر الكتاب المقدّس بذكره والّذي زاره السّيّد المسيح مع تلاميذه، وصنع فيه آياته، والّذي أسّس الرّسل عددًا من أبرشيّاته الّتي ما زال أبناؤها يشهدون للرّبّ بالرّغم من كلّ التّحدّيات والصّعوبات الّتي تواجههم وآخرها الأزمة الاقتصاديّة الّتي يرزحون تحت وطأتها. هذه التّحدّيات الّتي لم تمنعهم في زمن الحرب من بناء جامعة على التّلّة البلمنديّة صارت من أهمّ الجامعات في لبنان والشّرق.

آتيكم من ثلجِ حرمون ومن شموخ قممه الّتي تعانق الجليل وطبريّا وتُدفق مياهَ الأردنّ وتروي قلب فلسطين وتلثم وجه القدس. آتيكم من جيرة الأردنّ ومن طيبة شعبه ومن غور محبّته ومن شموخ بترائه. آتيكم من نسائم الشّام الّتي تغفو على أريج بيارات يافا وعلى عبقِ حبِّ فلسطين، الشّعبِ الأبيّ الصّامد، وعلى عشقِ القدس محجّتِنا مسحيّين ومسلمين مشرقيّين إلى رحمانيّة العليّ القدّوس.  

آتي إليكم، في هذه الأيّام المباركة، لنحتفل معًا بالذّكرى المئويّة الأولى لإنشاء هذه الأبرشيّة المحروسة بالله، الّتي هي فخر أنطاكية. آتي بعد أن عيّدنا منذ أيّام لعيد القدّيس الشّهيد في الكهنة يوسف الدّمشقيّ، الّذي تتلمذ القدّيس روفائيل، مطران بروكلين، في المدرسة البطريركيّة الّتي أسّسها القدّيس الشّهيد في دمشق، قبل أن ينتقل إلى معهد خالكي ومن ثمّ إلى أكاديميّة كييف اللّاهوتيّة للاستزادة من العلوم اللّاهوتيّة.

وإذ أتأمّل معكم اليوم في سيرة هذين القدّيسين، حيث تتعانق الشّهادة والرّسوليّة، ويبرز الجهاد بمختلف وجوهه، أراني أتعمّق معكم في الرّوحيّة الأنطاكيّة الّتي برزت في حياة كلّ منهما، في أماكن مختلفة من العالم، والّتي ما زالت تطبع كرسينا الأنطاكيّ وأبرشيّتكم المحروسة بالله.  

فالقدّيس يوسف الدّمشقيّ، "البيروتيّ الأصل والدّمشقيّ الموطن"، الّذي أعلن المجمع الأنطاكيّ المقدّس قداسته في العام ١٩٩٣، كان رجل النّهضة في الكنيسة الأنطاكيّة في القرن التّاسع عشر. ولم يحلّ فقره وانغماسه في العمل لتأمين معيشته ومعيشة أولاده دون انصرافه إلى التّعلّم، فقضى اللّيالي يطالع الكتب ويتعمّق في دراسة الكلمة ويعلّمها، حتّى استدعته الكنيسة ليصبح كاهن الكاتدرائيّة المريميّة ومدير المدرسة البطريركيّة، الّتي خرّجت جيلًا من الإكليروس والعلمانيّين الّذين أسّسوا لنهضة الكرسيّ الأنطاكيّ في مطلع القرن العشرين. وقد تكلّلت حياة الأب يوسف بشهادة الدّمّ، في العام ١٨٦٠، لمّا تعرّض المسيحيّون في دمشق وفي غيرها من مدن وقرى الكرسيّ الأنطاكيّ لمجازر لم تكن جديدة عليهم، ولكنّهم تجاوزوها كما اعتادوا، لأنّهم أبناء القيامة.  

وقد شاءت العناية الإلهيّة، أن يولد في السّنة ذاتها الّتي استشهد فيها الأب يوسف، القدّيس روفائيل هواويني في بيروت حيث التجأت عائلته، الّذي درس فيما بعد في المدرسة الّتي أسّسها القدّيس يوسف في دمشق، قبل أن ينتقل إلى القسطنطينيّة، وبعدها إلى روسيا، ومنها إلى هذه القارّة، أسقفًا لرعاية الجالية العربيّة فيها، وأصبح أوّل أسقف أرثوذكسيّ يسام على أرضها، ويبشّر فيها.

صحيح أنّ الفضل بوضع الأسس الصّلبة للحضور الأنطاكيّ في أميركا يعود بشكل أساسيّ للقدّيس روفائيل، الّذي رعى المهاجرين الأنطاكيّين بشكل خاصّ، غير أنّ القدّيس روفائيل لم يكن مطران العرب فقط، بل كان راعيًا لجميع الأرثوذكس المبعثرين على امتداد القارّة الأميركيّة، وقد تحمّل مشاق السّفر من أجل جمعهم، وبناء الكنائس لهم، وتأمين الرّعاة لهم، ورعايتهم بالكلمة، وبلغة الأرض الّتي يعيشون فيها لكي يبقوا في كنيستهم ويفهموا تعاليمها حيثما هم وبلغة بلادهم.

إنّ ما عبّر عنه القدّيس روفائيل، ما هو إلّا ترجمة للفرادة الأنطاكيّة، الّتي اختبرت منذ القدم على أرضها لقاء سائر الحضارات والّتي احترمت كلّ الثّقافات وأنماط الحياة وأساليب التّعبير، ولذلك عرفت استخدامًا للغات ليتورجيّة مختلفة ومتعدّدة ضمن حدودها التّاريخيّة، وقد نقلت خبرتها هذه إلى أبرشيّاتها في بلدان الانتشار، الّتي هي أبرشيّات متجذّرة في بلدانها، منفتحة على الجميع، وحاضنة للكلّ.

يا أحبّة، لقد استشهدت في مطلع حديثي بسيرة القدّيس الشّهيد في الكهنة يوسف الدّمشقيّ، لنتذكّر معًا أنّنا شهود وشهداء في آن واحد. فنحن لا نعرف متى تأتي السّاعة، ومتى يدهمنا الاضطهاد، ولذلك نسعى دائمًا لأن تبقى قناديلنا مشتعلة بانتظار العريس. نعم، فنحن في الكنيسة الأمّ، لم نعرف قطّ نظام المسيحيّة المنتصرة، ولا المسيحيّة الحاكمة، ومرّت علينا امبراطوريّات، جعلت من تاريخنا تاريخًا صعبًا ووعرًا، وأبعدتنا عن "أوهام روما"، وجعلتنا نفهم أنّ حاجتنا الوحيدة هي إلى رجال قياميّين وقدّيسين يقومون بيننا ويشهدون للنّور ويعملون من "أجل حياة العالم"، وقيامته من الخطيئة والموت.

وفي إطار فهمنا لواقعنا هذا، الّذي يزداد سوءًا ووعورة وتعقيدًا بسبب الحروب الّتي تشهدها أرضنا، والأزمات الحياتيّة والاقتصاديّة، والكوارث الطّبيعيّة الّتي تضاف إليها، بتنا أكثر إحساسًا بالآخر وبخطيئة الغفلة عن رعايته، وأكثر إدراكًا بأنّنا كنيسة الفقراء، هذه الكنيسة الّتي تختبر يوميًّا معنى أن يكون المسيح في كلّ مستضعف وفي كلّ شريد وفي كلّ مهمَل بات عاجزًا عن تأمين القوت والدّواء والتّعليم.  

ولكنّنا أيضًا، وفي وسط كلّ هذه الصّعوبات الّتي نختبرها، ما زلنا نسعى لكي نظهر للعالم أنّ الأرثوذكسيّة هي كنيسة الجمال والفرح وكنيسة القيامة والانتصار على الموت. ونحن ما زلنا ندرك، بالرّغم من كلّ التّحدّيات الّتي تحيط بنا من كلّ صوب، أنّ مسؤوليّتنا أن نكون صانعي سلام وشهودًا لوداعة المسيح الخلّاقة في وجه غطرسة القوّة.  

ونحن ندرك أنّ مسؤوليّتنا هي في أن نبقى شجعانًا في مواجهة التّحدّيات الّتي تواجهنا مهما كانت، وبأن نعبّر عن أصالتنا من خلال مبادرات تشهد هنا والآن بأنّ المسيح حيّ ويحيي، وبأنّنا مدعوّون لكيلا نعبد الماضي بل نمتدّ إلى الأمام لأنّ المسيح آت، وهو معنا وبيننا وأمامنا وليس فقط وراءنا. نحن نتمرّن أن نشهد للمسيح العاري والمرفوع على الصّليب، ونجاهد لكيلا نتركه ونطيّب جسده كحاملات الطّيب، ولا نسمح لأحد أو لشيء بأن يسرق رجاءنا.

وهنا أعود معكم إلى القدّيس روفائيل، أسقف بروكلين، وشفيع أبرشيّتكم، الّذي أدرك معنى الدّور الرّسوليّ لأنطاكية، فقضى عمره مسافرًا على دروب الرّبّ في هذه القارّة ليبني الكنائس، ويبني البشر، وينقل إليهم إيمان أجدادهم الّذي "دفع مرّة واحدة للقدّيسين" بقوالب جديدة تتناسب مع الحياة الجديدة في الأرض الجديدة، لأنّه أدرك أنّ مهمّته هو ألّا يقيم في الماضي بل أن يملأ الحاضر بروح الرّبّ وغنى إنجيله. وجعلتْ رسوليّةُ الكنيسة الأنطاكيّة خليفتَه المطران فيكتور أبو عسلي، أوّل مطران ينتخبه المجمع على هذه الأبرشيّة بعد إنشائها رسميًّا في العام ١٩٢٣، يرعى هذه الأبرشيّة بالقداسة والمحبّة ويضمّد الجراح الّتي عرفتها نتيجة التّطوّرات السّياسيّة الّتي رافقت تعقيدات الحرب العالميّة الأولى والتّغيير الّذي رافقها مع سقوط روسيا القيصريّة والسّلطنة العثمانيّة. أمّا المطران أنطونيوس بشير، فقد رسّخ الحضور الأنطاكيّ في المجتمعين الأميركيّ والكنديّ وعمل من أجل تفعيل التّعاون بين الأرثوذكس في هذه الدّيار من أجل شهادة واحدة، وحقّق الحلم الأنطاكيّ القديم من خلال بناء معهد القدّيس يوحنّا الدّمشقيّ الّذي أعاد للكرسيّ الأنطاكيّ مدرسته اللّاهوتيّة. وقد قادت رسوليّة أنطاكية نفسها، المثلّث الرّحمات، المطران فيلبّس صليبا، الّذي عرف كيف ينفتح على الآخرين إلى فتح أبواب هذه الأبرشيّة لإخوة لنا صاروا اليوم شهودًا للأرثوذكسيّة ورسلًا لأنطاكية في هذه البلاد. ومع المطران فيليب توسّعت هذه الأبرشيّة من ثمانين رعيّة لتضمّ أكثر من ٢٥٠ رعيّة.  

يا أحبّة،

لن أطيل عليكم، فأنتم أنطاكية وأنطاكية أنتم. نحن جسد واحد مهما باعدت المسافات. نحن نفرح معًا، ونحزن معًا، ننمو معًا وننهض معًا. ما يصيبنا يصيبكم وما يصيبكم يصيبنا. لذلك أغتنمها فرصة لأشكر محبّتكم على تعاطفكم المحبّ وعلى ما قدّمتموه وتقدّمونه لإخوتكم في الكنيسة الأمّ، الّذين تضرّروا ولاسيّما بعد انفجار بيروت والزّلزال الأخير. نحن معكم سنعيد بناء ما تهدّم، وسنعزّز حضورنا في مدينة أنطاكية وجوارها.

أمّا فيما يتعلّق بالرّؤية المستقبليّة لهذه الأبرشيّة، فسنعمل معًا من أجل صياغة رؤية تستلهم خبرتكم وحاجاتكم وتستجيب لهواجسكم وتتلاءم مع تطلّعات آباء المجمع المقدّس والفرادة الأنطاكيّة، وذلك في جوّ من التّشاور المحبّ والانفتاح على ما يلهمنا إيّاها الرّوح بواسطة الصّلاة والإخلاص لما تسلّمناه من القدّيسين.

وختامًا، لا بدّ لي، من أن أعبّر عن فرحي الكبير بكم، وثقتي بتعاونكم مع راعي هذه الأبرشيّة الّذي استدعاه الرّوح ليكون بينكم وفي وسطكم.  

المطران سابا، هو شاهد حيّ على الفرادة الأنطاكيّة هو الّذي رعى أبرشيّة قسا عليها الزّمن، فأقامها من سباتها بالتّعاون مع أبرشيّتكم وكلّ الخيّرين. وهو أمين على الرّسوليّة، الّتي نرجو أن تطبع عهده، بحيث يكون خير خلف للمطران هواويني ويؤسّس معكم للمئويّة القادمة من الحضور الأرثوذكسيّ الأنطاكيّ الشّاهد والفاعل في هذه البلاد، هذا الحضور الّذي يقوّي وجودنا في الكنيسة الأمّ ويتقوّى بما عندنا، من خلال التّعاون والتّفاعل والانفتاح على إرثنا المشترك وعلى الخبرات المتراكمة في كلّ المدى الأنطاكيّ الواسع.

لا تنسوا يا أحبّة، أنّ المسيح هو لكلّ النّاس، والإيمان المسيحيّ هو لكلّ المسكونة، ولكن المسيح عاش في الشّرق، وقبر وقام في الشّرق، ومسؤوليّتنا أن نحافظ على كنيسته وأن نقوم بكلّ شيء للشّهادة له في هذا الشّرق، مهما ابتعدنا أو مهما أرغمتنا الظّروف على الابتعاد.  

ألا بارككم الله وزادكم من نعمه وجعلكم شهودًا لقيامته، له المجد إلى أبد الدّهور".