ثقافة ومجتمع
02 تموز 2016, 08:00

2 تمّوز 1991: نلسون مانديلا رئيساً للمؤتمر الوطنيّ الأفريقيّ

ريتا كرم
حرّ هو منذ نشأته، مناضل لا يهاب الموت، إنّه النّور في الظّلام، وأيقونة في النّضال والمقاومة والدّفاع عن الحقّ ضدّ العنصريّة وتوابعها. هو نيلسون مانديلا (1918- 2013) رجل القرن العشرين الّذي من جنوب أفريقيا "السّمراء"، حمل حلمه "الأبيض" إلى العالم كلّه، حلمه بالمثاليّة الدّيمقراطيّة حيث يتساوى الجميع ويعيشون بتناغم رغم الاختلاف العرقيّ. هذا الحلم الّذي عاش من أجله وكافح في سبيله حتّى النّصر.

حمل مانديلا شهادة في الحقوق، ما فتح له الباب ليحمل قضيّة الفقراء فيحامي عنهم ضدّ ما شهدته عيناه من ظلم وبؤس وتمييز عنصريّ يعيشه الأقلّيّات وأبناء قومه. فانغمس في همومهم وانخرط في العمل السّياسيّ. فأصبح عضواً في الكونغرس الأفريقيّ عام 1944 كناشط أوّلاً، ثمّ كمؤسّس ورئيس للمؤتمر الوطنيّ الأفريقيّ للشّباب، طاف أرجاء كثيرة في بلاده حاملاً القضيّة لتحرير الظّالم من الكراهيّة والتّحيّز وضيق الأفق، والمظلوم من العنصريّة الّتي رمت بذيلها عليه، ودخل في صراعات بالجملة مع السّلطات، خصوصاً بعد دعوات الإضرابات والعصيان المدنيّ وحظر المؤتمر الأفريقيّ للشّباب عام 1960 وتزايد التّوتّرات في البلاد مع تنامي الحملة المناهضة للتّمييز العنصريّ، تصاعدت بعد حوادث متفرّقة بين عامي 1960 و1969 بعد أن قتلت الشّرطة عدداً من السّود في مجزرة شاربفيل. فعاش لفترة كمخلوق ليليّ مختبئاً ومتخفّياً، يغادر البلاد ويعود إليها سرّاً، إلى أن ألقي القبض عليه عام 1962، وحكم عليه بالسّجن مدّة 5 سنوات بتهمه السّفر غير القانونيّ والتّدبير للإضراب، ثمّ بالسّجن مدى الحياه عام 1964 بتهمه التّخطيط لعمل مسلّح.

فيما ظنّ الكثيرون أنّ السّجن سينهك قواه ويكمّ فاه، بقي نيلسون مانديلا شامخاً بمواقفه حرّاً حتّى خلال أسره، فـ"الحرية لا يمكن أن تعطى على جرعات، فالمرء إمّا أن يكون حرّاً أو لا يكون". لذا، تابع مسيرته الطّويلة نحو الحرّيّة حتّى في معقله فأبقى راية الكفاح مشتعلة وعمل على تحسين أحوال المسجونين، رغم مساعي السّلطات العنصريّة إلى تضييق الخناق عليه ورفاقه في السّجن بأبشع الأساليب وأقلّها إنسانيّة، بهدف أن يتخلوّا عن قضيّتهم.  

في المقلب الثّاني، خارج أسوار الحبس، تصاعدت الاحتجاجات في ساحات جنوب أفريقيا، وطالب زعماء وقادة دول كبرى بإطلاق سراح مانديلا، ما دفع رئيس جنوب أفريقيا حينها إف دابليو دي كلارك إلى الدّخول في مفاوضات مع السّجين المناضل، شريطة تخلّيه ورفاقه عن نهجهم القديم، لكن مانديلا رفض الشّروط تلك وأجبر السّلطات على الجلوس معهم والتّفاوض بلا أيّ تنازلات، حتى تمّ الإفراج عنه سنة 1990، بعد 27 عاماً من الأسر. وبدأت محادثات بإنشاء نظام جديد يقوم على ديمقراطيّة تعدّد الأعراق في جنوب أفريقيا.

خرج مانديلا عجوزاً من سجنه ولكنّ فكره بقي شابّاً فتابع المسيرة بعزم أكبر معلناً استعداده لدخول السّجن مرّة أخرى من أجل استكمال ما بدأه وهو شابّ. أثمرت جهوده خيراً، فاعترفت السّلطات بالمؤتمر الوطنيّ ورفعت الحظر عنه وعن أعضائه، وأفرج عن المعتقلين السّياسيّين، وهدم نظام التّمييز العنصريّ وأشرقت شمس الحرّيّة والدّيمقراطيّة والمساواة على جنوب أفريقيا بفضل بطل ثار ذات يوم على النّظام الجائر، وفاعل سلام في مناطق النّزاعات وقائداً للحملات ضدّ الفقر والفساد والإيدز، وحاصد جائزة نوبل للسّلام عام 93.

توّج الزّعيم الحرّ نضاله، في 29 نيسان 1994، بالفوز برئاسة الجمهوريّة في جنوب أفريقيا منتخباً من كلّ الأعراق ليتقاعد عام 1999 ويصبح سفيراً من أرفع طراز لجنوب أفريقيا ويؤسّس مؤسّسة نيلسون مانديلا الخيريّة، إلى أن تقاعد عام 2004، ليغيب رجل التّاريخ الحديث أيقونة الحقّ سنة 2013 عن 95 عاماً ويشيّع في جنازة رسميّة وشعبيّة مهيبة، ويؤكّد ما قاله يوماً: "الجبناء يموتون مرّات عديدة قبل موتهم، والشّجاع لا يذوق الموت إلّا مرّة واحدة".