رتبة السجدة في أحد العنصرة

مقدّمة

عيد العنصرة هو تتويج لسرِّ موت الابن وقيامته من بين الأموات. وحلول الرّوح القدُس هو خاتمة كلّ التّدبير الخلاصيّ وتتمَّة العهد الذي قطعه الله مع شعبه على جبل سيناء. وتشير العنصرة إلى الشّريعة الجديدة التي أنبأَ بها الأنبياء على مرِّ العصور. وهي تشكِّل الظُّهور السّامي والفريد والمميَّز لله، وتُؤَكِّد حضوره الدّائم والنّهائيّ وسط أخصّائه.

ليست العنصرة، إذًا، حدثًا تاريخيًّا، من الماضي، تحتفل فيه اللّيتورجيّا اليوم، بل واقعٌ حاضرٌ اليوم وكلّ يوم، يدفع بتاريخ الكون والبشر إلى الملء والإكتمال.

ولأنَّ للأعياد المسيحيّة الكبرى ميِزتين ليتورجيَّتَين أساسيَّتين وهما: إحتفالٌ برُتبةٍ طقسيَّةٍ في قدّاس العيد، وافتتاح زمنٍ طقسيّ، نجد في عيد العنصرة رُتبة السّجدة (أو حني الرُّكبة) وافتتاح زمنٍ طقسيٍّ جديدٍ هو: “الزَّمن العاديّ” أو “زمن العنصرة المجيدة” (بحسب تسمية كتاب القُدّاس المارونيّ، بكركي، 2005).

 يُقسَم مقالنا هذا إلى قسمَين إثنين: نتناول، في القسم الأوَّل، عيد العنصرة في المسيحيّة. ونعالج في القسم الثاني موضوع رُتبة السّجدة في الطّقس المارونيّ.

 

القسم الأوَّل، عيد العنصرة في المسيحيّة

إذا عُدْنا إلى كتاب أعمال الرّسل (أع 2/ 1 – 11)، الذي يذكر حدث حلول الرُّوح القدس على تلاميذ يسوع في “اليوم الخمسين” بعد قيامته من بين الأموات، يمكننا أن نستخلص أهمّ معاني عيد العنصرة المسيحيّة.

 

1- العنصرة هي سيناء الجديدة

لقد حلَّ الرّوح القدُس على التّلاميذ في اليوم نفسه التي كانت تحتفل فيه الدّيانة اليهوديّة بإعطاء الشّريعة وإبرام العهد مع موسى على جبل سيناء. لم يستطع الشّعب اليهوديّ الحفاظ على الشّريعة لأنّ الخطيئة قد سيطرت عليه فجعلت العهد غير ممكن التّحقيق. حلَّت العنصرة المسيحيّة محلَّ العنصرة اليهوديّة. العنصرة المسيحيّة هي عيد العهد الجديد، عيد الشّريعة الجديدة وولادة شعبٍ جديدٍ هو الكنيسة.

 

2- العنصرة عيد “بيعة الشّعوب”

في البدء كان البشر شعبًا واحدًا ولغةً واحدة (تك 11/ 6). وعندما تشامخوا في حادثة بابل بدَّدهم الله من هناك على وجه الأرض، “وسميَّت المدينة بابل لأنَّ الربَّ بَلْبَلَ هناك لغة الأرض كلِّها” (تك 11/ 8 – 9). ولمّا أعطى الله الشّريعة لموسى، إعتبر الشّعب اليهوديّ أنَّ الشّريعة “ملكه الخاصّ” وإعتبر نفسه “شعب الله الخاصّ” من بين سائر الشّعوب، ومن الواجب الإنتماء إليه لنَيل الخلاص.

أمّا في العنصرة فالرّوح القدس، العهد الجديد والشّريعة الجديدة، قد أُعطيَ لا لشعبٍ مُعيَّنٍ بل لجميع شعوب الأرض، وبذلك أُعيدَت وحدة الشّعوب التي تَبَلْبَلَتْ في بابل، في الكنيسة الواحدة، “بيعة الشّعوب” كلِّها.

 

3- من لغةٍ واحدةٍ إلى كلّ لغات البشر

أصبحت اللُّغة العبريّة التي كُتِبَتْ فيها الشّريعة لغةً مقدّسة، بحسب العلماء اليهود. هي “لغة الله”، وما كُتب بغيرها لا قيمة روحيّة له، وهو بالتّالي لا يحمل وحيًا إلهيًّا. غيَّر حلولُ الرّوح القدس هذا الوضع. فكلمة الله أصبحت “حاملة الرّوح” إلى النّاس؛ والرّوح يتخطّى كلَّ لغةٍ وحضارة. وهكذا الكنيسة التي إنطلقتْ في العنصرة والتي تحيا في زمن الرّوح القدس، لا تتقيَّد بلغةٍ من اللُّغات ولا بحضارةٍ من الحضارات. كلُّ اللُّغات لغاتها والحضارات حضاراتها. فالرّوح يهبُّ حيث يشاء ويهب إمكانيّة عبادة الله وتمجيده لكلِّ من يُصغي إلى إلهاماته مهما كانت حضارته واللُّغة التي يتكلّمها.

 

القسم الثاني، رُتبة السّجدة في الطّقس المارونيّ

إنَّ عيد العنصرة عيدٌ مسيحيٌّ عريقٌ وقديمٌ إحتفلت به الجماعة المسيحيّة الأولى في أورشليم بكلِّ اُبَّهة. تصف الرّحّالة إيجيريا، في كتابها يوميّات رحلة، وصفًا دقيقًا الإحتفال اللّيتورجيّ الذي كان يجري، في أواخر القرن الرّابع، يوم أحد العنصرة. لقد جاء لدى إيجيريا ما يلي:

“في اليوم الخمسين بعد الفصح، يوم الأحد، وهو يومٌ حافلٌ للشّعب، يُقام كلُّ شيءٍ حسب المُعتاد، إبتداءً من صياح أوَّل ديك. وفي حال وصولهم [في تمام السّاعة الثالثة] إلى جبل صهيون، يقرأون النًّصّ من سفر أعمال الرّسل الوارد فيه أنَّ الرّوح نزل. وبعدئذٍ يُحتفل بالرُّتبة، حسب الطّريقة المُعتادة. والكهنة يقرأون هنا هذا النّصّ من سفر أعمال الرّسل، لأنّه طبقًا لهذا النّصّ، في هذا الموضع من جبل صهيون – حيث تقوم الآن كنيسة أخرى – تجمهر الجمعُ في الماضي، بعد آلام الربّ، مع الرّسل، عندما حدث ذلك كما أوردنا أعلاه. وبعد ذلك يُحتفل بالرُّتبة حسب الطّريقة المُعتادة، ويقيمون الذّبيحة هنا أيضًا”.

أمّا كتاب القراءات الأرمنيّ، المعروف بالمُجلَّد الأورشليميّ 121، فيشير في إحدى روبريكاته إلى حركة السّجود التي هي في أساس رُتبة عيد العنصرة، أيّ رُتبة السّجدة. لقد جاء في كتاب القراءات هذا ما يلي:

“في يوم الأحد بالذّات، في تمام السّاعة العاشرة، يجتمعون في جبل الزّيتون المُقدَّس، في الأمبومون حيث يتمِّمون هذا القانون: المزامير وأعمال الرّسل كالعادة. وإنجيل يوحنّا (يو 16/ 5 – 15). وهنا بعد الإنجيل، يسجدون. ويُعاد القانون ثلاث مرّات، في كلِّ الأماكن المُقدَّسة وبالتّرتيب نفسه”.

حول هذا العنصر الطّقسيّ الجديد، أيّ السّجود، سوف تتكوّن رُتبة العنصرة، في كلِّ الطّقوس الشّرقيّة. نجد رُتبة السّجدة أو رُتبة حَني الرُّكبة في الطّقس البيزنطيّ والأرمنيّ والسّريانيّ والكلدانيّ والمارونيّ. وعن معاني هذه الرُّتبة، “إختلفت آراء علماء الطّقوس في تحديد هويّة هذه الرُّتبة: فبالعض يظنُّ أنّها رُتبة توبة قبْلَ صيام الرّسل، والبعض الآخر يضعها في علاقةٍ مباشرةٍ مع حلول الرّوح القدس، وفي التّقليد المارونيّ والسّريانيّ أخذت هذه الرُّتبة معنًى ثالوثيًّا واضحًا”. سيقتصر بحثنا هذا على رُتبة السّجدة في الطّقس المارونيّ.

 

والسّؤال الذي يطرَح هو الآتي: لماذا السّجدة أو السّجود أو حني الرُّكبة في أحد العنصرة؟

السّبب واضح، لأنَّ السّجود ممنوع في زمن القيامة إكرامًا لقيامة الربّ من بين الأموات.  فالشّعب لا يركع البتَّة من عيد القيامة إلى أحد العنصرة. ويستأنف السّجود أو الرُّكوع يوم أحد العنصرة.

يُحتفل برتبة السّجدة في قُدّاس أحد العنصرة عند السّاعة الثالثة (أي التّاسعة صباحًا). وبعد الرّفعة أي بعد أن يقول المُحتفل: الأقداس للقدّيسين…، وقبلَ مناولة الشّعب، تُغطّى الأسرار وتبدأ الرُّتبة. تتضمَّن رُتبة السّجدة ثلاث قومات (أو محطّات أو وقفات).

القومة الأولى موجّهة لأُقنوم الآب، والثانية للابن والثالثة لأُقنوم الرّوح القدس. وتنتهي الرُّتبةُ ببركة الماء الذي يُرشّ منه على المؤمنين، ويأخذون منه إلى بيوتهم. وتتضمّن كلُّ قومةٍ من القومات الثلاث العناصر الآتية: الفروميون والسّدرو ولحن البخور وصلاة البخور ومزمور القراءات والفتغام وقراءة من الإنجيل، وأخيرًا السّجود على الرُّكبة.

في القومة الأولى، يركع الشّعب على رُكبة الشّمال. ويركعون في الثانية على رُكبة اليمين. وفي القومة الثالثة، يركعون على الرُّكبتَين معًا.

أمّا لماذا بركة الماء في ختام الرُّتبة فتجيب بالآتي: العلاقة بين الرّوح القدس والمياه علاقةٌ وثيقة. يظهر ذلك، في رتبة السّجدة، من خلال قراءة نصّ حوار يسوع مع السّامريّة ونصّ حواره مع نيقوديمُس. ويظهر ذلك أيضًا في كلام الربّ يسوع. لقد قال يسوع في إنجيل يوحنّا ما يلي: “إنْ عطشَ أحدٌ فليُقبِلْ إليَّ، ومن آمن بي فليشرب كما ورد في الكتاب: ستجري من جوفه أنهارٌ من الماء الحيّ” (يو 7/ 37 – 38). ويُضيف الإنجيليّ قائلاً: “وأراد بقوله الرّوحَ الذي سيناله المؤمنون به،…” (يو 7/ 39). فـ “الماء الحيّ”، إذًا، هو رمزٌ للرّوح القدس؛ وبركة الماء، في آخر رُتبة السّجدة، ما هي إلاّ تجسيدٌ لهذه النّظرة اللاّهوتيّة والكتابيّة.

وقد أعدَّ معهد اللّيتورجيّا، في جامعة الرّوح القدس – الكسليك، رُتبة مُصلّحةً ومختصرة للسّجدة يُحتفل فيها في قدّاس أحد العنصرة، بعد العظة وقبل نقل القرابين وبدء النّافور. تتضمَّن الرُّتبة ثلاث قومات. القومة الأولى لأُقنوم الآب، يرفع فيها الشّعب أيديهم نحو السّماء ويمجِّدون الآب. والقومة الثانية لأُقنوم الابن، وفيها يسجدون على الرُّكبتين. وفي القومة الثالثة المُوجّهة لأُقنوم الرّوح القدس، يضمُّ الشّعبُ أيديهم على صدورهم ويشكرون الرّوح القدس على كلِّ عطاياه. ومن ثمَّ يتمّ تبريك الماء ورشّه على الشّعب الحاضر.

يهمُّنا، أخيرًا، أن نُقدِّم بعض النّماذج من نصوص الرُّتبة الأساسيّة ونُعلِّق عليها لنكتشف غناها اللاّهوتيّ الكبير.

 

1- أقنوم الآب

لقاء جاء في فروميون القومة الأولى ما يلي:

“لنرفعنَّ التّسبيح (…) إلى المحجوب  الخفيّ والبعيد عن كلّ الحركات والأفكار والعقول البشريّة؛ إلى من هو الكائن بذاته، والعارف بذاته والمُكتفي بذاته (…). وهو أيضًا بدون بداية، والباقي بدون نهاية، الأزليّ والسّرمديّ وغير المدرك؛ السُّلطان الواحد المتساوي، والمشيئة الواحدة المتَّفِقة، للآب والابن والرّوح القدس (…). إنْ قيلَ الآبُ، فالإبنُ والرُّوحُ هما منه. وإن قيلَ الإبنُ، فالآب والرُّوح معروفان فيه. وإن قيلَ الرّوحُ، فالآبُ والإبنُ مكمَّلان فيه. الآبُ والدٌ غير مولود. الإبن مولودٌ وغير والد. وروح القدس منبثقٌ من الآب وآخذٌ من الإبن، وهو من ذات طبعه وجوهره…”.

يصف هذا الفروميون القديم والعريق العلاقة التي تربط الأقانيم الثّلاثة بعضها ببعض، مُظهِرًا دور كلٍّ منها في علاقته بالآخر. وعلى الرُّغم من أنَّ القومة الأولى في رُتبة السَّجدة تتوجَّه إلى أُقنوم الآب، فالنَّصّ اللّيتورجيّ يذكر الأقنومَين الآخرَين ودورهما معه. ومن أهمّ صفات الآب كونه: الأزليّ والسّرمديّ وغير المدرَك؛ وهو والد وغير مولود.

وفي نصوص أُخرى من القومة نفسها، نجد أنَّ الآب هو “القدُّوس، والمُقدِّس الكلّ، السيِّد الحقّ”، وهو الذي قدَّس الرُّسلَ القدّيسين بروحه القدُّوس. وعن خلاصِنا نحن، جاء في الكُروزوتو ما يلي: “أللَّهُمَّ الآب، يا من بواسطة ابنِكَ الوحيد المولود منك منذ الأزل خلَّصْتنا بعد أن سقطْنا وانحدَرْنا من درجة وقارنا، بسبب تعدِّي أبينا آدم للوصيَّة”.

وفي مكانٍ آخر من الرُّتبة، نجد أنَّ الآب هو “أبو المراحم”، و”واهب كلِّ الخيرات”، وهو الذي ملأَ التّلاميذ من الرُّوح القدس وقدَّسهم وسلَّحهم وأرسلهم “لكي يجذبوا الجنس البشريّ إلى معرفة لاهوته”. وهو – في “يوم الخلاص والتعزية” هذا – مَنْ “أعطى موهبة الألسن الجديدة” للتّلاميذ، فأرجعوا “الشُّعوب من الضّلال”.

 

2- أقنوم الإبن

لقد جاء في سِدْرو القومة الثانية المُخصَّصة لأُقنوم الإبن ما يلي:

“أيُّها المسيح إلهنا، أيُّها الضّياء والنّور (…)، لأنَّك شئتَ فانحدرتَ إلينا ومزجتَ ذاتك بنا، من البتول القدّيسة، وقَبِلْتَ أن تولَدَ بالجسد، وتُتمَّ تلك الأمور التي بها خلَّصْتنا: الميلاد، والصَّلب والموت والقيامة. وعندما شئت أن تصعَدَ إلى أبيكَ، جمعتَ رسلك في جبل الزّيتون، وباركتهم بوضع يديك المقدَّستين، ومنحتهم موهبتَكَ الوافرة، ونفخت فيهم روحك القدُّوس، وقلتَ لهم: إنتظروا في مدينة أورشليم إلى أن أُرسِلَ إليكم البرقليط من عند الآب،…”.

يعبِّر هذا السِّدْرو عن تدبير الإبن الخلاصيّ بوضوحٍ تامّ: فالإبن إنحدرَ إلينا، وإمتزَجَ بنا، ولبس جسدنا، ومات وقام من أجلنا ومن أجل خلاصنا. وكأنَّ هذه الصّلاة هي صلاة ذِكْرٍ تُدخلُنا في عمل الإبن وتجعله آنيًّا، فنكتسب مفاعيله في حياتنا اليوم.

ونجد في فروميون القومة الثالثة المخصَّصة للرُّوح القدس، وصفًا للإبن ودوره وعلاقته بالأُقنومَين الأخيرَين، كما يلي:

“(…) وإلى إبنه يسوع المسيح ربّنا، كلمة الله وحكمته وقوَّته، الولد السّرمديّ للآب، بكونه مساويًّا للأزليَّة، إلى المولود عند الوالد (…)، وبغير إنقسام ولا تألُّم، مولود من الآب كالكلمة من العقل، وهو الكلمة الحيّ الذي من الآب الحيّ، والضّياء البهيّ الذي من الآب يضيء بغير زمن، وهو ضياء مجده وصورة أزليَّته، وبه صُنِعَ العالم، إلهٌ من إله، نورٌ من نور، وحيدٌ من وحيد،…”.

 

3- أُقنوم الرُّوح القدس

لقد جاء فروميون القومة الثالثة وصفٌ لاهوتيٌّ رائعٌ لدور الرُّوح القدس؛ كما يلي: “(…) والرُّوح القدس الذي ينبثق من الآب وهو مع الإبن، وهو الذي يُكمِّلُ سرَّ الثالوث، وهو ينبوع المواهب الإلهيَّة، وهو الذي تكلَّم في الأنبياء والرُّسُل وفي البيعة المقدَّسة، وهو المحيي وواهب الحياة للجميع، وهو الخالق والمتقن والمجدِّد الجميع، وهو السيِّد الصّانع الحياة، ومالئ الجميع بجوهره مع الآب والإبن (…)”.

نصٌّ لاهوتيٌّ عريقٌ يكشف لنا لاهوت الرُّوح القدس بحسب نصٍّ ليتورجيٍّ تُصلّيه الجماعة المسيحيَّة يوم أحد العنصرة. ونستخلص، من هذا الفروميون، بأنَّ الرُّوح القدس أُقنومٌ قائمٌ بذاته، “يُكمِّل سرَّ الثالوث”، وليس وجهًا آخر للآب أو للإبن. فهو “النّاطق بالأنبياء والرُّسل”، وهو “صانع الحياة والخالق والمُجدِّد”، “مع الآب والإبن”.

لذا، لا يمكننا أن نتصوَّر عملاً كنسيًّا ولاهوتيًّا وأسراريًّا من دون دورٍ فاعلٍ وأساسيٍّ للرُّوح القدس. وهذا ما يؤكِّدُه نصّ كتاب القُدّاس المارونيّ عندما يقول إنَّ الرُّوح القدس هو “مبدأ وغاية وكمال كلّ ما كان ويكون في السّماء والأرض” (راجع: قسم “الكسر والرَّسم والنَّضح والمزج والرَّفعة” في كلّ النّوافير المارونيّة). مع العلم أنَّ أيَّ أُقنومٍ من الأقانيم الثّلاثة لا يعمل ألاّ بتناغمٍ وتكاملٍ تامَّين مع الأُقنومَين الآخرَين. فعمل الخلاص وعمل التّقديس صادران عن الثالوث كلّه، وما التّمييز الذي نقوم به سوى إبرازٍ لدور أحد الأقانيم وتعمُّقٍ به وسعي إلى إكتساب مفاعيله في حياتنا الكنسيَّة والشّخصيّة.

 

ولنقرأ معًا ما جاء في سِدْرو القومة الثالثة عن الرُّوح القدس ودوره وخصوصيَّتِه داخل العيلة الثالوثيَّة، كما يلي:

“أللَّهُمَّ، الرُّوح البرقليط الذي تكلَّم قديمًا في الأنبياء، وفي آخر الأزمنة في الرُّسل، يا مقدِّس الكنائس، ومكمِّل الخِدَم الإلهيّة، واهب الكهنوت، ومكمِّل المعموديّة، ومجلِّل الأسرار، وغافر الخطايا، والقدرة التي بها تتعلَّق كلّ قوّة المخلوقات، الرُّوح الفاحص أعماق الآب، والموحي بإحتجاب الإبن، والغافر لعبيده، والمُفهِّم الخفايا، والمُنبئ بالمُستقبلات، والصّانع العجائب، الرُّوح القدس الذي يُؤخذ ولا يأخذ، يكمِّل ولا يتكمَّل، يصف ولا يوصَف، يقدِّس ولا يُقدَّس، يُؤلِّه ولا يؤلَّه، الرُّوح القويُّ بقوَّته، الرُّوح الذي يُمَجَّد بمجده، الرُّوح الذي يُعظَّم بعظمته، الرُّوح واهب النُّور، وهو الصّلاح ومعين الصّلاح، والرُّوح المستقيم، الرُّوح الرِّئاسيّ، الرُّوح الربّ، روحُ ذخيرة البنين، روح الحقّ، روح الحكمة، روح الفهم، روح المعرفة، روح المخافة الحسنة، الرُّوح الذي يجعل لنفسه هيكلاً، الرُّوح الذي يهدي، الرُّوح الذي يعمل كما يشاء، ويشاء حيث يجب وكما يجب، الرُّوح الذي يوزِّع على كلِّ إنسانٍ موهبة، (…)، الرُّوح محبّ البشر، الرُّوح متمِّم الأنبياء، ومكمِّل الرُّسل، الرُّوح مسلِّح الشُّهداء، الرُّوح مزيِّن الهيكل، الرُّوح ينبوع العقائد للملافنة، الرُّوح مفقِّه البسطاء، الرُّوح صانع الصّالحات، الرُّوح القدير على كلِّ شيء، الرُّوح الذي به يؤمن (النّاس) بالإبن، الرُّوح الذي به يُعرَف الآب، الرُّوح الذي وحده يُسجد له مع الآب والإبن، الرُّوح الذي له كلّ ما للآب ما عدا الأُبوَّة، الرُّوح الذي له كلّ ما للإبن ما عدا الولادة وما عدا التَّجسُّد، الرُّوح السَّرمديّ الذي ليس هو أصغر من الآب، الرُّوح الأزليّ الذي ليس هو أجدَّ من الإبن، الرُّوح الأبديّ الذي ليس هو قبل الآب ولا هو أقدم من الإبن (…)”.

من أجمل ما يُقرأ عن لاهوت الرُّوح القدُس ودوره في حياتنا اليوم. هذا الدَّور الذي يقوم به الرُّوح بتوافق مع الآب والإبن، أي بسينرجيَّةٍ (synergie) لا توصَف.

 

خاتمة

تكشف لنا رتبة السّجدة، بقوماتها الثّلاث، المعنى الأساسيّ والعميق لعيد العنصرة: ليس هذا الأخير إحتفالاً بالرُّوح القدس وبحلوله على التّلاميذ في العلّيّة وحسب، بل هي إحتفالٌ بالثالوث الأقدس.

 

وعيد العنصرة هو عيد الثالوث كلّه، وهو إحتفال الجماعة المسيحيّة بمصدر وجودِها وخلاصها وحياتها.

إنَّ السُّجودَ الذي نقوم به ثلاث مرّاتٍ عائدٌ إذًا إلى الثّالوث الأقدس: “ثالوثٌ كاملٌ من ثلاثة كاملين، الآب والإبن وروح القدس الإله الواحد الحقّ، الذي نذكره ونسبِّحه في هذا الوقت…”. ويُختتم السِّدْرو الثالث بالمجدلة الآتية: “(…) ونسجد لك بنقاوةٍ وقداسة، أللَّهُمَّ الرُّوح البرقليط. وبواسطتك ومعك للآب المحجوب الذي منه أنت منبثق، وللإبن المسجود له الذي منه أنت آخذ، الأزليَّة غير الموصوفة وغير المدركة وغير المنظورة”. ولقد جاء في ختام صلاة العطر الثّالثة: “(…) فنرفع الشُّكر إلى الآب الذي منه أنت منبثق، وإلى الوحيد إبنه ربّنا يسوع المسيح الذي به أنت معروف”. ويكرز الشّمّاس في القومة الثّألثة قائلاً: “يا ربّنا، يا مَنْ علَّمتنا بهذه السَّجدة السَّيِّديَّة التي تُقرَّبُ بحقٍّ لك وللآب وللرُّوح، أهِّلْنا أن نكسر فخاخ الشِّرِّير ومكايده، ونبيدها”.

 

 

الخوري دانيال زغيب