دينيّة
19 تشرين الثاني 2023, 08:00

خاصّ- زمن الميلاد... والتّدبير إلهيّ

تيلي لوميار/ نورسات
"في أَحَد بشارة زكريّا، ندخلُ عمليًّا في زمن الميلاد. فنبدأ من أحَدٍ إلى أحَد، نعيش بفرحٍ الأحداث العجيبة التي مهّدت لميلاد الطّفل يسوع، الْمَلِكِ الإلهيّ في مغارة بيت لحم. فرح السّماء ينزلُ فيما بيننا ويَتوالفُ بتواضع مع فرحنا، فرح كلّ النّاس. هذه الولادة الإلهيّة العجيبة من عذراء في مذود فقير، غير الاعتياديّة في عاديّات حياة البشر، استدعت هي أيضًا تهيئة غير اعتياديّة في أحداثٍ بشريّة عاديّة. لم يُرِد الرّبّ تغيير المجريات البشريّة المتسلسلة باعتيادٍ منذ فجر التّاريخ، إنَّما إصباغها الطّابع غير الاعتياديّ بنكهتها الإلهيّة السّماويَّة. ليصيرَ الإعلانُ بأنّ شيئًا جديدًا يحدث في العالم. ما كرّت عليه الأزمان، وباتت على شيء من التّكرار الاعتياديّ، تغيّر فجأةً، لتّتشح ثوبًا جديدًا: الملء بذاته يأتيها ويهديها أجمل "هديّة الأزمان": إنَّه ملء الزّمن وفِيه يولد الابن الإله…"

بهذه الأجواء اللّيتورجيّة الميلاديّة استهلّ الأب جوزف أبي عون الرّاهب المارونيّ المريميّ كلمته الرّوحيّة ليضعنا بأجواء زمن الميلاد المجيد ويخصّ موقعنا بشرح بسيطٍ ومعمّق.

واستطرد الأب أبي عون مفسّرًا: "ما قام به زكريّا الكاهن في تقدمة البخور في الهيكل، هو عملٌ عاديّ يتوالى عليه الكهنة منذ زمن طويل. لكنّ الشّيء غير العاديّ، هو دخول الله بملاكه جبرائيل في هذه الخدمة العاديّة، ليُحدثَ الفرقَ ويبعث الاندهاش وتُصبحَ الأكثر أهميّة بحيث انطلق منها مشروع التّاريخ الخلاصيّ بأكمله. ما أجمل إلهِنا، بأحداثنا البشريّة العاديّة تكلّم معنا، وجعلها غير اعتياديّة ليتوّج هذا الكلام بابنه يسوع…وما برِح يتكلّم فينا بأحداثنا البشريّة العاديّة…".

وأضاف كاهن رعيّة سيّدة التّلّة - دير القمر: "في انجيلنا الْيَوْم، نرى الله وكأنّه كان ينتظر دور فرقة أبيَّا التي ينتمي إليها زكريّا الكاهن لتقعَ عليه القرعة فيدخلَ إلى القدس في الهيكل لتقديم البخور ويتمّ هناك حدث البشارة العجائبيّ. ولَم يكن بالأمر السّهل وقوع القرعة على أحد الكهنة، خاصّة عندما نرى أنّ عدد الكهنة في زمن زكريّا، كان يناهزُ العشرين ألفًا، بوجود هيكلٌ واحد. هذا يعني أنّه كان من الممكن أن يدخل مرّة واحدة الكاهن في حياته إلى قدس الهيكل أو حتّى لا يحظى أبدًا بهذا الإنعام. كان الكهنة مقسّمين إلى أربع وعشرين فرقة، وكلّ فرقة تخدم أسبوعًا في الهيكل، أيّ كلّ فرقة كانت تخدم مرّتين في السّنة. وضمن الفرقة الواحدة، كان الكهنة موزعّين إلى مجموعات لكلّ مجموعة يوم في الأسبوع. وفي صباح كلّ يوم من خدمة هذا الأسبوع، كانت تُقام القرعة في ما بين المجموعة لمعرفة من يدخل إلى قدس الهيكل لتقديم البخور. تخيَّلوا أحبّائي كيف أنّ الله القدير اللّامتناهي، دخل في هذا التّدبير البشريّ الرّوتينيّ العاديّ ليصلَ إلى تحقيقِ تدبيره الإلهيّ الخلاصيّ. يوم عادي مثل كلّ يوم من أسابيع الخدمة في الهيكل حيث يلتقي الكهنة صباحًا للتّشاور فيما بينهم للتّنظيم الإداريّ وتوزيع المهمّات وضمنها إلقاء القرعة لمعرفة من هو صاحب الحظّ الاستثنائيّ للدّخول إلى قدس الهيكل. وهذا كان حلمُ كلّ كاهن، وقوع القرعة عليه ونيل هذه الحظوة. ميلاد يسوع العجيب مرّ في هذه التّفاصيل اليّوميّة العاديّة في الهيكل وصارت حدثًا مميّزًا."

 

وأردف الأب المريميّ قائلًا: "عبرت عناية ذاك الذي وعدنا بالخلاص منذ البدء، بالقرعة التي تحدث كلّ يوم صباحًا، وأوقعتها على الكاهن زكريّا الذي كان دوره، بعد طول انتظار، في هذا النّهار السّعيد. إنتظاران التقيا في الهيكل: إنتظار الكاهن زكريّا البارّ الذي كان يصلّي ويتضرّع إلى الله مع زوجته أليصابات الطّاعنين في السّنّ لحصولهما على نعمة إنجاب ولد؛ وانتظار الله منذ أجيال هذا الوقت لبدء تحقيق مشروعه الخلاصيّ للبشريّة والتّحضير لولادة ابنه الوحيد في الجسد من العذراء مريم."

 

تابع الأب أبي عون متأمّلًا: "جمال تدبير الله بأنّه يُعطي لأحداثنا اليوميّة الباهتة لونًا سماويًّا رائعًا. ما ليس لنا في الحسبان وفاقد الأهميّة، يراه الله وينفحُ فيه روحه ويبني عليه مشروعه. ينظر الله أحيانًا كثيرة إلى حيث لا ننظر نحن ولا نعيرُ اهتمامنا: نحن ننظر بمصلحة، وهو ينظر بحبّ، وهنا الفرقْ كلّ الفرق. بين زكريّا الكاهن وإمرأته أليصابات العاقر الطّاعنين في السّنّ، وبين الفتاة الصّبيّة الطّيّبة العذراء مريم وخطيبها الشّاب يوسف، قصّة كتبها الله بيده ومنحنا فيها الخلاص التّام. حيث لم يكن اهتمام النّاس وشغلهم، نظر الله ودبَّر وبدأ مشوار الخلاص في التّاريخ… ولَم يبرح حتّى اكتمال التّاريخ…".

 

وضعنا الأب أبي عون أمام مشهديّة زكريّا والملاك فقال: "أحاول أن أرى زكريّا، بعد هذا الحوار الشّيّق مع الملاك جبرائيل في قدس الهيكل، وعدم تغيير الله تدبيره رغم تردّده وبلوغه حدّ الشّكّ، وهو خارج في وسط النّاس؛ ماذا كان يمكن أن يقول لهم، بأيّ تعابير بشريّة كان بمقدوره تصوير ما جرى بينه وبين الملاك. أمر الملاك بالبُكم نتيجة عدم تصديقه لكلامه وتأكيدًا على أنّه مرسلٌ من الله، رافقه صمتٌ داخليّ فصله قليلاً عن سائر النّاس ليلجَ عمق أغوار هذا السّرّ الذي حلّ في بيته…وهذا السّرّ الجميل المتخطّي قدرتنا البشريّة والمنساب في الوقت عينه في قدراتنا البشريّة، دفع بتلك المرأة الطّيّبة العظيمة، أليصابات، الصّابرة على جرح عقمها الاجتماعيّ، أن تصرخ بفرح هتافين، طبعًا تاريخنا الكنسيّ: شكرها للرّبّ بعد حملها لأنّه أزال العار عنها في تلك الأيّام من بين الناس،

واستقبالها النّبويّ لمريم حين زارتها في بيتها لخدمتها قائلة لها: من أين لي أن تأتي إليّ أمّ ربّي…".

 

واختتم كاهن رعيّة سيّدة التّلّة - دير القمر بعبرة روحيّة فقال: "زمن الميلاد، هو زمن التقاء الله ورؤيته في الأمور البسيطة اليوميّة… ورغم ضعفنا وشكوكنا أحيانًا، لا يُبَدِّل الله مشروعه علينا… سيولد… آمين."