إبراهيم في التّجلّي: العالم اليوم بحاجة إلى قلوبٍ تحوّلت إلى جبل ثابور يظهر فيها يسوع حيًّا، حاضرًا، مخلّصًا
بعد الإنجيل المقدّس، ألقى المطران ابراهيم عظة قال فيها بحسب إعلام الأبرشيّة: "في ليلةٍ مشبعةٍ بالنّور، حيث تتلاقى الأرض بالسّماء، نلتقي في كنيسة مار الياس المخلّصيّة في زحلة، هذه الكنيسة الّتي لا تحمل فقط حجارةً وجدرانًا، بل تحتضن في قلبها تاريخًا طويلًا من الصلاة والعطاء، من الشّهادة والرّجاء، من الرّهبان الّذين عاشوا التّجلّي كلّ يوم على هذه الأرض، فصاروا أيقوناتٍ حيّة تشهد للمسيح، نور العالم.
نحن اللّيلة لا نحتفل فقط بعيد التّجلّي، بل نعيش سرّه. فالتّجلّي ليس فقط حدثًا ماضيًا حصل على جبل تابور، بل هو واقعٌ إلهيّ حاضرٌ معنا إذا انفتحت عيوننا بالإيمان. هو كشفٌ للوجه الحقيقيّ للمسيح، ذلك الوجه الّذي تراه القلوب النّقيّة، وتلهج به النّفوس العطشى إلى النّور.
في جبل التّجلّي، صعد يسوع ومعه بطرس ويعقوب ويوحنّا، فاستنار وجهه، وتلألأت ثيابه بيضاء كالثّلج. لم يكن هذا مجرّد مشهدٍ باهر، بل إعلانٌ عن هويّة يسوع الحقيقيّة: هو ابن الله، وهو النّور الّذي لا ينطفئ، هو الكلمة المتجسّدة الّتي ارتضت أن تحمل ضعف الإنسان، وتكشف له مجده في قلب الألم والصّليب.
وهذا ما فهمه بطرس حين قال: "يا ربّ، جيّدٌ أن نكون ههنا"، لأنّه رأى السّماء على الأرض، رأى الملكوت حاضرًا في وجه الرّبّ.
وهكذا، أيّها الأحبّة، كلّ مكانٍ فيه يسوع يتحوّل إلى جبل تجلٍّ، وكلّ قلبٍ يسمح ليسوع أن يسكن فيه، يصير مسكنًا للمجد الإلهيّ. فهلّا جعلنا من حياتنا مكانًا للتّجلّي؟ هلّا سمحنا لنور المسيح أن يبدّد ظلامنا الدّاخليّ، ظلام الخوف واليأس، ظلام الأنانيّة والقلق، لنصير بدورنا أنوارًا في عالمٍ يتخبّط في العتمة؟
وهنا، في زحلة، مدينة القدّيسين والشّهداء، تتجلّى هذه الدّعوة بأبهى حللها. في زحلة، حيث الدّمّ والدّمع صارا بخورًا يرفع إلى الله، وحيث الصّلوات لم تنقطع يومًا، مهما اشتدّت العواصف وتكاثرت الغيوم. في زحلة، حيث أجراس الكنائس تُقرع كأنّها قلوب تنبض بالإيمان، وحيث الرّهبانيّة الباسيليّة المخلّصيّة قد حفرت حضورها في أعماق هذه الأرض وفي قلوب أهلها.
يا كنيسة مار الياس، يا كنيسة الرّهبان الّذين سكنوا الصّمت والصّلاة، يا صدى المخلّص في قلب زحلة… كم من نفوسٍ شُفيت هنا، كم من دعواتٍ رُسمت بين جدرانك، كم من صلواتٍ ارتفعت من مذبحك، حاملةً وجع النّاس وأحلامهم، ترفعها إلى ذاك الّذي تجلّى نورًا فوق الجبل.
أجل، هذه الكنيسة المخلّصيّة ليست فقط شاهدةً على التّجلّي، بل هي نفسها تتجلّى كلّ يوم عبر رهبانها، عبر عطاءاتهم، عبر صلواتهم في قلب اللّيل، عبر خدمتهم للنّاس البسطاء، عبر فقرهم الطّاهر الّذي يختزن غنى الملكوت. الرّهبانيّة المخلّصيّة لم تأتِ إلى زحلة لتسكن حجارة، بل لتسكن القلوب. لم تأتِ لتشيّد بناءً، بل لتشيّد إنسانًا، لتبني جسورًا بين السّماء والأرض، وتكون وجهًا حيًّا لذاك الّذي تجلّى.
أحبّائي، في زمنٍ يكثر فيه الكلام ويقلّ فيه النّور، نحن مدعوّون اليوم أن نعود إلى روح التّجلّي. أن نصعد الجبل مع يسوع، لا لنرتاح بعيدًا عن العالم، بل لنمتلئ من نوره ونعود إلى السّهل، إلى الحياة اليوميّة، حاملين فينا ذلك المجد، ذلك الحضور، ذلك النّور الّذي لا يُطفأ.
العالم اليوم بحاجة إلى شهود لا إلى خطباء، إلى وجوهٍ تشعّ بالرّجاء وسط اليأس، إلى قلوبٍ تحوّلت إلى جبل تابور صغير، يظهر فيها يسوع حيًّا، حاضرًا، مخلّصًا."
فيا ربّ، في ليلة عيدك، دعنا نكون كالرّسل، لا نخاف أن نصعد الجبل معك، ولا أن ننزل معك إلى الجلجلة. دعنا نرى في وجهك المتجلّي، صورتنا الجديدة، دعوتنا الحقيقيّة، غايتنا الأبديّة.
ولك يا مار الياس، نبيّ النّار والصّمت، يا من شهدت للتّجلّي بصعودك حيًّا إلى السّماء، كن شفيعنا اللّيلة، علّنا نحن أيضًا نتحرّر من الأرضيّات، ونصعد بروحنا، فنلتقي بربّ المجد، وجه الآب، نور الحياة، يسوع المسيح، له المجد من الآن وإلى الأبد، آمين."
واختتم القدّاس برتبة تبريك العنب، مستذكرين أنّ التّجلّي هو دعوة دائمة للثّبات في الإيمان والعيش بقداسة.