الأب يوسف مونّس: حياد لبنان من أساس كيانه
"الحياد اللّبنانيّ كما يطرحه ويشرحه غبطة السّيّد البطريرك بشارة الرّاعي الكلّيّ الطّوبى هو من جوهر الكيان اللّبنانيّ ومن أساس وجوده وركائز ذاتيّته وشخصيّته الوجوديّة المميّزة، ومن ذاته اللّبنانيّة وكينونته الأنتولوجيّة«Antologique» . وعندما أعلن لبنان الكبير دولة في محيطه الإسلاميّ والعربيّ في الأوّل من أيلول 1920.
حمل نظامه الدّيموقراطيّ التّعدّديّ المبنيّ على الحرّيّة العامّة للجماعات الدّينيّة والحضاريّة والثّقافيّة مرتكزًا على أساس العيش المشترك معًا مسيحيّين ومسلمين. فاحترم في دستوره المميّز عن جميع دساتير محيطه العربيّ، جميع المكوّنات الدّينيّة والثّقافيّة والحضاريّة والأنتربولوجيّة والأتنولوجيّة في بنية غنيّة بوحدتها وتنوّعها طارحًا مقولة أساسيّة ألا وهي "لا شرق ولا غرب"، ملتزمًا قضايا الإنسان وحرّيّته واحترام شخصه مطالبًا بحقّ الفلسطينيّين، داعمًا قضيّتهم العادلة، ملتزمًا بحقوق الإنسان والجماعات وعاداتها وتقاليدها وإرثها الثّقافيّ وأنماط سلوكها وسلّم قيمها. داعيًا إلى حوار الثّقافات والحضارات والأديان من دون الدّخول في محاور الأحلاف والمنظومات العسكريّة أو الإقليميّة أو الدّوليّة.
الحياد هو استرجاع لهويّتنا
وكما قال غبطته إنّ "الحياد هو استرجاع لهويّتنا وطبيعتنا وباب الخلاص لجميع اللّبنانيّين دون استثناء".
ويتابع غبطته طرحه قائلاً: كلّنا بحاجة لأن نعيش بفرح كلبنانيّين والخروج من أزماتنا السّياسيّة والاقتصاديّة والماليّة والمعيشيّة. ولكن الطّريق إلى ذلك هو مفهوم الحياد الّذي سيعيد الازدهار والنّموّ كما كنّا نعيش في الخمسينيّات والسّتّينيّات وانغمسنا بالمحاور والنّزاعات شمالاً ويمينًا ووصلنا إلى الأزمة الّتي نعيشها. وخلاصنا كلّنا جميعًا هو بالحياد وكلّنا نعيش الحرمان والفقر وشبابنا يعاني البطالة ويقف في الحرّ والبرد ليعبّر عن ما يعانيه لأنّه لم يعد يستطيع التّحمّل، ولهذا السّبب رأينا كلّ الشّباب في كلّ المناطق يطلق صرخة واحدة أمام هذا الواقع الحذريّ ويريدون الكرامة والعيش بحرّيّة.
الحياد من شخصيّة لبنان المميّزة
الحياد هو لحماية لبنان من الصّراعات والمحاور لأنّ لبنان له شخصيّته المميّزة والمستقلّة والحرّة، والحياد يحفظ لبنان في وحدته وتنوّعه.
الحياد ما هو؟
الحياد إذًا هو الحياد عن صراعات المنطقة ومحاورها الإقليميّة والدّوليّة ما عدا الصّراع مع إسرائيل وهو حياد ملتزم بالقضيّة الفلسطينيّة والتّضامن العربيّ في القضايا المحقّة.
وهذا الموقف من البطريرك الرّاعي ليندرج في سياق تاريخ بكركي ودورها الوطنيّ الّذي قامت به دائمًا وقام به البطاركة الموارنة الّذين استلموا الوديعة اللّبنانيّة بين أيديهم. الوديعة اليوم بين أيدي البطريرك بشارة الرّاعي وهو يحافظ عليها بأمانة وجرأة.
وهو الّذي أعطي مجد لبنان وديعة وطن ورمزًا مدافعًا دومًا عن استقلال لبنان وحرّيّته وخاصّة عندما يتخاذل القادة السّياسيّون ويتركون فراغًا على ساحة القيادة اللّبنانيّة خاصّة في هذه الأيّام، إذ يسيطر حزب الله على القرار اللّبنانيّ ويأخذ لبنان إلى محاور لم تكن موجودة في مساره الحضاريّ الثّقافيّ التّاريخيّ ودعوته التّاريخيّة كوطن رسالة ومحور حوار بين الدّيانات والشّعوب.
الإستقلال والحرّيّة
الإستقلال والحرّيّة والحفاظ على الهويّة الشّخصيّة المميّزة هذا ما يقوم به غبطة البطريرك بشارة الرّاعي وخاصّة الحفاظ على الحرّيّة والاستقلال واحترام التّنوّع والتّعدّد الثّقافيّ والحضاريّ والدّينيّ.
ولنا المثال الكبير الّذي قام به البطريرك الرّاحل نصرالله صفير في أيلول سنة 2000 عندما طرح نداءه لرحيل السّوريّين وهذا ما تمّ في نيسان سنة 2005 وهذا ما قام به البطريرك المعوشي سنة 1970 مدافعًا عن الحرّيّة والاستغلال ضدّ الفلسطينيّين.
دولة لبنان الكبير
والدّور الكبير كان للبطريرك الياس الحويّك عندما أعلنت دولة لبنان الكبير يوم سقوط الامبراطوريّة العثمانيّة سنة 1918.
وهذا ما قام به المؤسّس الأوّل يوحنّا مارون فجعل من الموارنة أمّة معلنًا لبنان لبنانيّ لا عربيّ ولا بيزنطيّ.
وكما أعلن البطريرك صفير: إذا أجبرنا على الخيار بين التّعايش والحرّيّة فنحن نختار الحرّيّة.
واليوم يختار: البطريرك الرّاعي الحرّيّة في الحياد.
ما كتب ميشال توما
في النّهاية أتمنّى أن أشير إلى المقال الهامّ الّذي صدر بالفرنسيّة حول هذا الموضوع للإعلاميّ ميشال توما في جريدة L'orient le Jour 20 تمّوز سنة 2020، حيث يقول إنّ موقف البطريرك الرّاعي بالنّسبة لحياد لبنان هو متجذّر في أعماق تاريخ بكركي والبطريركيّة المارونيّة. وسنة 1959 في 7 نيسان كان طرح هذا الموضوع بدون الوصول إلى اتّفاق حوله بين رؤساء الوفود المجتمعة في بيروت إلى ما بعد منتصف اللّيل من دون نتيجة.
خاتمة
لنقف جميعًا خلف البطريرك الرّاعي في طرحه للحياد الإيجابيّ ليعود لبنان إلى زمن البحبوحة الّتي عشنا فيها قبل أن نتشرذم ويأكل الجوع والفساد والنّهب والسّرقة الدّولة اللّبنانيّة. الشّعب جائع ولا دواء عنده ولا كساء ولا غذاء ولا ماء ولا كهرباء، وقد قاطعته جميع الدّول العربيّة والدّول الأوروبيّة حتّى وصل إلى حافّة الاختناق في زمن وباء الكورونا القاتل.
ولنصلّ لله ليرحمنا ويرفع غضبه عنّا ويشفق علينا بحنانه وعطفه ورحمته، ولنلتزم الحياد لنعيد للبنان مجده ومجد تاريخه وتاريخ بطاركته العظام."