البابا: المقياس الحقيقيّ للصّداقة بين الأديان هو استعدادنا للوقوف معًا في خدمة الأشدّ هشاشة
وفي تفاصيل الرّسالة، كتب البابا بحسب "فاتيكان نيوز": "يسعدني أن أوجّه تحيّة صداقة إلى المشاركين في اللّقاء بين الأديان في بنغلادش. وقبل كلّ شيء، أتمنّى لكم السّلام الّذي لا يأتي إلّا من الله- سلام "أعزل ويجرِّد من السّلاح، متواضع ودؤوب"، سلام "يبحث دائمًا عن المحبّة، ويحرص على أن يكون قريبًا، ولاسيّما من المتألّمين".
أُحيّي القيّمين على هذا اللّقاء لاختيارهم موضوع: "تعزيز ثقافة الانسجام". فهذا الموضوع يعكس روح الانفتاح الأخويّ الّذي يسعى إليه أصحاب النّوايا الصّالحة مع أتباع الدّيانات الأخرى. وينبع أيضًا من القناعة بأنّ جماعتنا الإنسانيّة واحدة حقًّاـ في أصلها وفي مصيرها تحت نظر الله. فنحن جميعًا أبناؤه، وبالتّالي إخوة وأخوات. وكعائلة واحدة، نتقاسم الفرصة والمسؤوليّة لمواصلة تعزيز ثقافة الانسجام والسّلام.
وفي هذا السّياق، يمكننا أن نتحدّث عن "الثّقافة" بمعنيّين. فالثّقافة قد تعني الإرث الغنيّ من الفنون والأفكار والمؤسّسات الاجتماعيّة الّتي تميّز كلّ شعب. وفي الوقت عينه، يمكن فهم الثّقافة كبيئة حاضنة تدعم النّموّ. فكما يسمح النّظام البيئيّ السّليم بتعايش النّباتات المتنوّعة جنبًا إلى جنب، كذلك الثّقافة الاجتماعيّة السّليمة تسمح بازدهار الجماعات المتنوّعة في انسجام. ومثل هذه الثّقافة تحتاج إلى عناية دقيقة: فهي تتطلّب شمس الحقيقة، وماء المحبّة، وتربة الحرّيّة والعدالة. ونحن نعلم من لحظات مؤلمة في التّاريخ أنّه حين يُهمل الاهتمام بثقافة الانسجام، يمكن للأعشاب الضّارّة أن تخنق السّلام: فتنمو الشّكوك، وتتصلّب الصّور النّمطيّة، ويستغلّ المتطرّفون المخاوف لبثّ الانقسام. معًا، كرفاق في الحوار بين الأديان، نحن أشبه بالحارثين الّذين يعتنون بحقل الأخوّة هذا، فيبقون أرض الحوار مثمرة، ويزيلون أعشاب الأحكام المسبقة.
وهذا اللّقاء نفسه الّذي تعيشونه اليوم هو شهادة جميلة. فهو يثبت أنّ اختلاف العقائد أو الأصول لا يجب أن يفرّق بيننا. بل على العكس، لأنَّ اللّقاء في الصّداقة والحوار يجعلنا نقف معًا ضدّ قوى الانقسام والكراهيّة والعنف الّتي ابتُليت بها البشريّة مرارًا. وحيث يزرع آخرون الشّكّ، نحن نختار الثّقة؛ وحيث يزرع آخرون الخوف، نحن نسعى إلى الفهم؛ وحيث يرى آخرون في الاختلافات حواجز، نحن نعتبرها سُبُلًا للغنى المتبادل.
إنّ بناء ثقافة الانسجام يعني حقًّا أن نتشارك ليس الأفكار وحسب، وإنّما الخبرات الملموسة أيضًا. وكما يذكّرنا القدّيس يعقوب: "إنّ التّديّن الطّاهر النّقيّ عند الله الآب هو افتقاد الأيتام والأرامل في شدّتهم". ومن هذا المنطلق، يمكننا أن نقول إنّ المقياس الحقيقيّ للصّداقة بين الأديان هو استعدادنا للوقوف معًا في خدمة الأشدّ هشاشة في المجتمع. وقد شهدت بنغلادش بالفعل في السّنوات الأخيرة أمثلة ملهمة على هذه الوحدة، حين اجتمع أناس من ديانات مختلفة في التّضامن والصّلاة في أوقات الكوارث الطّبيعيّة أو المآسي. مثل هذه المبادرات تبني الجسور: بين الدّيانات، بين النّظريّة والممارسة، وبين الجماعات. وهكذا يمكن لجميع أبناء بنغلادش، بل وللبشريّة بأسرها، أن ينتقلوا من الشّكّ إلى الثّقة، ومن العزلة إلى التّعاون.
كما أنّها تعزّز قدرة الجماعات على الصّمود أمام أصوات الانقسام. إنّ التّعاون في كلّ عمل صالح هو العلاج الأكثر فعاليّة ضدّ القوى الّتي تسعى لجرّنا نحو العداء والعنف. وعندما يُترجَم حوارنا إلى أعمال ملموسة، يصدح برسالة قويّة: أنّ السّلام، لا النّزاع، هو حلمنا الأثمن، وأنّ بناء هذا السّلام هو مهمّة ننهض بها معًا.
وبهذه المشاعر، أرغب في أن أجدّد التزام الكنيسة الكاثوليكيّة بالسّير معكم في هذا الدّرب. قد يُبطئنا أحيانًا بعض سوء الفهم أو الجراح الماضية، لكن لنشجّع بعضنا على المثابرة. كلّ نقاش جماعيّ، وكلّ مشروع خدمة مشترك، وكلّ وجبة نتقاسمها، وكلّ بادرة احترام تجاه جار من دين آخرـ جميع هذه الأمور هي لبناء لما سمّاه القديس يوحنا بولس الثّاني "حضارة المحبّة".
أؤكّد لكم مودّتي الأخويّة وصلواتي. وليبارككم العليّ مع عائلاتكم وجماعاتكم. وليبارك بلدكم بمزيد من الانسجام والسّلام. وليبارك عالمنا، الّذي يحتاج بشدّة إلى نور الأخوّة."