البابا: خلاص النّفوس هو القانون الأسمى والغاية النّهائيّة لإجراءات الزّواج في الكنيسة
وقال البابا في كلمته بحسب "فاتيكان نيوز":
"يسرّني حضوركم الغفير والمتميّز، والّذي هو استجابة سخيّة للحافز الّذي يشعر به كلّ عامل نزيه في حقل القانون الكنسيّ من أجل خير النّفوس.
إنَّ الخيط الّذي يقودنا اليوم هو الذّكرى العاشرة لإصلاح عمليّة بطلان الزّواج، الّتي قادها البابا فرنسيس. في خطابه الأخير أمام الرّوتا، في ٣١ كانون الثّاني يناير الماضي، تحدّث عن مقاصد ذلك الإصلاح وتجديداته الأساسيّة. وبالإشارة إلى كلمات سلفي المحبوب، أودّ في هذه المناسبة أن أقدّم لكم بعض الأفكار المستلهمة من عنوان دورتكم: "بعد عشر سنوات على إصلاح الإجراءات الزّواجيّة الكنسيّة: البُعد الكَنَسيّ، القانونيّ، والرّعويّ".
أرى أنّه من المفيد التّفكير في العلاقة القائمة بين هذه المناهج الثّلاثة. فكثيرًا ما تُنسى هذه العلاقة، إذ يميل البعض إلى النّظر إلى اللّاهوت والقانون والعمل الرّاعويّ كـ"حُجرات منفصلة" أو مقسّمة. بل من الشّائع جدًّا أن تُعتبَر هذه الأبعاد متناقضة ضمنيًّا، وكأنّ البُعد الأكثر لاهوتيّة أو رعويّة يستلزم البُعد الأقلّ قانونيّة، والعكس صحيح: أن يكون البُعد الأكثر قانونيّة على حساب الجانبين الآخرين. وبذلك تُحجَب الوحدة المتناغمة الّتي تبرز عندما تُعتَبر هذه الأبعاد الثّلاثة أجزاءً للحقيقة عينها.
إنّ ضعف إدراك هذا التّرابط ينبع أساسًا من اعتبار الواقع القانونيّ لقضايا بطلان الزّواج مجرّد ميدان تقنيّ، يهمّ المتخصّصين فحسب، أو وسيلة تهدف فقط إلى حصول الأشخاص على وضعيّة "الأحرار" (أيّ غير المرتبطين). إنّها رؤية سطحيّة، تتجاهل كلًّا من الافتراضات الكنسيّة لتلك الإجراءات وأهمّيّتها الرّعويّة. ومن بين تلك الافتراضات الكنسيّة، أودّ أن أذكر اثنين على وجه الخصوص: الأوّل يتعلّق بالسّلطة المقدّسة الّتي تُمارس في الإجراءات القضائيّة الكنسيّة في خدمة الحقيقة، والثّاني يتعلّق بموضوع قضيّة إعلان بطلان الزّواج، وهو سرّ العهد الزّوجيّ.
إنّ الوظيفة القضائيّة، باعتبارها طريقة لممارسة سلطة الحكم أو الولاية، تندرج بالكامل ضمن الواقع الشّامل للسّلطة المقدّسة للرّعاة في الكنيسة. ويَنظر المجمع الفاتيكانيّ الثّاني إلى هذا الواقع كـخدمة. نقرأ في الدّستور العقائديّ "نور الأمم": "إنّ المهمّة الّتي أوكلها الرّبّ لرعاة شعبه هي خدمة حقيقيّة، وتُسمّى في الكتاب المقدّس بـ"الدّياكونيّة"، أيّ خِدمة". ويعمل في السّلطة القضائيّة، جانب أساسيّ من الخدمة الرّعويّة: خِدمة الحقيقة. فكلّ مؤمن، وكلّ عائلة، وكلّ جماعة، بحاجة إلى الحقيقة حول وضعها الكنسيّ، لكي تسير مسيرة الإيمان والمحبّة بشكل سليم. وفي هذا الإطار تقع الحقيقة حول الحقوق الشّخصيّة والجماعيّة: إنّ الحقيقة القانونيّة المعلنة في الإجراءات الكنسيّة هي جانب من الحقيقة الوجوديّة في نطاق الكنيسة.
إنَّ السّلطة المقدّسة هي مشاركة في سلطة المسيح، وخدمتها للحقيقة هي سبيل لمعرفة واعتناق الحقيقة المطلقة، الّتي هي المسيح نفسه. وليس من الصّدفة أنّ الكلمات الأولى للمرسومين الرّسوليّين اللّذين بدأ بهما الإصلاح تتعلّقان بيسوع، الدّيّان والرّاعي: "يسوع القاضي الوديع، راعي نفوسنا" في النّصّ اللّاتينيّ. و"يسوع الوديع والرّحيم، راعي وديان نفوسنا" في النّصّ الشّرقيّ. قد نتساءل لماذا قُدِّم يسوع كقاضٍ في هذه الوثائق بصفة الوديع والرّحيم. قد يبدو هذا التّصوّر للوهلة الأولى منافيًا لمتطلّبات العدالة الّتي لا يمكن التّنازل عنها بحكم شفقة يُساء فهمها. صحيح أنّ مغفرة الله للخاطئ التّائب حاضرة دائمًا في حكمه على الخلاص، لكن الحكم البشريّ على بطلان الزّواج لا ينبغي أن يُحَرَّف بـ"رحمة زائفة". من المؤكّد أنّ أيّ عمل يتناقض مع خدمة القضاء للحقيقة يُعتبر جائرًا. ومع ذلك، ففي الممارسة المستقيمة للسّلطة القضائيّة، يجب أن تُمارس الرّحمة الحقيقيّة. يمكننا أن نتذكّر مقطعًا للقدّيس أوغسطينوس في كتابه مدينة الله: "ما هي الرّحمة إن لم تكن شفقة معيّنة لقلوبنا تجاه شقاء الآخرين، نُدفَع من خلالها إلى التّخفيف من هذا الشّقاء، إذا كان بوسعنا؟ وتكون هذه الحركة نافعة للعقل عندما تُقدَّم الرّحمة بطريقة تحافظ على العدالة، سواء في مساعدة المحتاج أو في مسامحة التّائب". في هذا الضّوء، يمكن النّظر إلى قضيّة بطلان الزّواج كمساهمة من العاملين في حقل القانون لتلبية الحاجة إلى العدالة الّتي هي عميقة جدًّا في ضمير المؤمنين، وبالتّالي إنجاز عمل عادل تحرّكه الرّحمة الحقيقيّة. إنّ الهدف من الإصلاح، المتمثّل في تسهيل الوصول إلى الإجراءات وسرعتها، بدون التّضحية بالحقيقة أبدًا، يبدو بذلك مظهرًا من مظاهر العدالة والرّحمة.
الإفتراض اللّاهوتيّ الآخر، الخاصّ بقضيّة بطلان الزّواج، هو الزّواج نفسه، بصفته مؤسّسة وضعها الخالق. في يوبيل العائلات، ذكَّرتُ أنّ "الزّواج ليس مثالًا أعلى، بل هو المعيار للحبّ الحقيقيّ بين الرّجل والمرأة: حبّ كامل، أمين، وخصب". وكما أكّد البابا فرنسيس، الزّواج "هو واقع له قوام محدّد"، و"هو عطيّة من الله للزّوجين". وفي مقدّمة المرسوم "يسوع القاضي الوديع"، تمّت إعادة التّأكيد، في سياق الإصلاح الإجرائيّ، على "مبدأ عدم انحلال الرّابط الزّوجيّ". إنّ الواقعيّة هي حاسمة في تناول قضايا البطلان: الوعي بأنّنا نعمل في خدمة حقيقة اتّحاد واقعيّ وملموس، أيّ التّمييز أمام الرّبّ ما إذا كان في هذا الاتّحاد سرّ الجسد الواحد، الّذي يبقى إلى الأبد في الحياة الأرضيّة للزّوجين، على الرّغم من أيّ فشل في العلاقة. أيّها الأعزّاء، يا لها من مسؤوليّة عظيمة في انتظاركم! فقد ذكّرنا البابا بندكتس السّادس عشر بأنّ "الإجراءات الكنسيّة لبطلان الزّواج تشكّل أساسًا أداة للتّأكّد من حقيقة الرّابط الزّوجيّ. وهدفها التّأسيسيّ [...] هو بالتّالي تقديم خدمة للحقيقة". لهذا السّبب، أراد البابا فرنسيس أيضًا، في مقدّمة المرسوم الرّسوليّ، وهو يوضح معنى الإصلاح، أن يعيد التّأكيد على المنفعة العظيمة للّجوء إلى الإجراءات القضائيّة في قضايا البطلان: "لقد فعلت ذلك، مقتفيًا آثار أسلافي، الّذين أرادوا أن تُعالَج قضايا بطلان الزّواج بالطّريق القضائيّ، وليس الإداريّ، لا لأنّ طبيعة الأمر تفرض ذلك، بل لأنّ ضرورة حماية حقيقة الرّابط المقدّس إلى أقصى حدّ تقتضيه؛ وهذا ما تضمنه ضمانات النّظام القضائيّ.
علينا أن نُقدِّر مؤسّسة الإجراءات القضائيّة، بالنّظر إليها ليس كتراكم معقّد للمتطلّبات الإجرائيّة، بل كأداة عدالة. في الواقع، إنّ إعداد قضيّة على نحو يضمن أن يتمكّن الأطراف، بمن فيهم محامي الرّابط، من تقديم الأدلّة والحجج الدّاعمة لموقفهم، والتّمكّن من معرفة وتقييم العناصر الّتي قدّمها الطّرف الآخر أيضًا، في محاكمة يديرها ويختتمها قاضٍ نزيه، يشكّل خيرًا عظيمًا لجميع المعنيّين وللكنيسة نفسها. صحيح أنّه يجب السّعي، خاصّة في الكنيسة، كما في المجتمع المدنيّ، إلى التّوصّل إلى اتّفاقات تضمن العدالة وتحلّ النّزاعات عن طريق الوساطة والمصالحة. ومن المهمّ جدًّا في هذا الصّدد السّعي لتشجيع المصالحة بين الزّوجين، واللّجوء أيضًا، عندما يكون ذلك ممكنًا، إلى تصحيح الزّواج. ومع ذلك، هناك حالات يكون فيها اللّجوء إلى الإجراءات القضائيّة ضروريًّا، لأنّ المسألة ليست متاحة للأطراف للتّصرّف بها. وهذا ما يحدث في إعلان بطلان الزّواج، حيث يتأثّر خير كنسيّ عامّ. إنّه تعبير عن خدمة سلطة الرّعاة لحقيقة الرّابط الزّوجيّ غير المنحلّ، وهو أساس العائلة الّتي هي كنيسة منزليّة. فخلف التّقنيّة الإجرائيّة، والتّطبيق الأمين للقواعد السّارية، تكمن إذًا الافتراضات الكنسيّة للإجراءات الزّواجيّة: البحث عن الحقيقة وخلاص النّفوس. على الأخلاقيّات المهنيّة للمحامين، الّتي تركّز على حقيقة ما هو عادل، أن تُلهم جميع العاملين في حقل القانون، كلٌّ في دوره، للمشاركة في عمل العدالة والسّلام الحقيقيّ الّذي تهدف إليه الإجراءات.
إنّ البُعدين الكَنَسيّ والقانونيّ، إذا تمّ عيشهما حقًّا، سيكشفان عن البُعد الرّعويّ. أوّلًا، قد زاد الوعي في الآونة الأخيرة حول إدراج النّشاط القضائيّ للكنيسة في مجال الزّواج ضمن مجموع راعويّة العائلة. لا يمكن لهذه الرّاعويّة أن تتجاهل أو تقلّل من شأن عمل المحاكم الكنسيّة، ويجب على هذه الأخيرة ألّا تنسى أنّ مساهمتها المحدّدة في العدالة هي جزء من العمل على تعزيز خير العائلات، مع إشارة خاصّة إلى العائلات الّتي تواجه صعوبات. هذا العمل هو عمل الجميع في الكنيسة، سواء الرّعاة أو غيرهم من المؤمنين، وهو كذلك بطريقة خاصّة بالنّسبة للعاملين في حقل القانون. لقد وجد التّآزر بين الاهتمام الرّعويّ بالحالات الحرجة والمجال القضائيّ تعبيرًا مهمًّا في تنفيذ التّحقيق الأوّليّ الّذي يهدف أيضًا إلى التّأكّد من وجود أسباب لبدء قضيّة بطلان.
من ناحية أخرى، فإنّ الإجراءات القضائيّة نفسها لها قيمة رعويّة متأصّلة فيها. وقد أوضح ذلك القدّيس يوحنّا بولس الثّاني بهذه العبارات: "إنّ النّشاط القانونيّ الكنسيّ هو بطبيعته رعويّ. هو يمثّل مشاركة خاصّة في رسالة المسيح الرّاعي، ويتمثّل في تفعيل نظام العدالة داخل الكنيسة الّذي أراده المسيح نفسه. وفي المقابل، فإنّ النّشاط الرّعويّ، على الرّغم من أنّه يتجاوز الجوانب القانونيّة وحدها، يتضمّن دائمًا بُعدًا من العدالة. ففي الواقع، لن يكون من الممكن قيادة النّفوس نحو ملكوت السّماوات، إذا تجاهلنا ذلك الحدّ الأدنى من المحبّة والحكمة الّذي يتكوّن في الالتزام بمراعاة القانون وحقوق الجميع في الكنيسة بأمانة.
تؤدّي الأبعاد الثّلاثة الّتي ذكرناها إلى إعادة التّأكيد على أنَّ خلاص النّفوس هو القانون الأسمى والغاية النّهائيّة لإجراءات الزّواج في الكنيسة. وبهذه الطّريقة، تكشف خدمتكم كعاملين في العدالة في الكنيسة، والّتي شاركتُ فيها أنا أيضًا لسنوات مضت، عن سموّها الكنسيّ والقانونيّ والرّعويّ العظيم. وإذ أعرب عن أمنيتي بأن تشرق حقيقة العدالة أكثر فأكثر في الكنيسة وفي حياتكم، أمنحكم جميعًا فيض البركة الرّسوليّة."
