كندا
01 آب 2022, 06:30

البابا فرنسيس أنهى زيارته الرّسوليّة إلى كندا، فكيف كان يومه الأخير فيها؟

تيلي لوميار/ نورسات
في يومه الأخير في كندا، التقى البابا فرنسيس وفدًا من السّكّان الأصليّين الموجودين في كيبيك، في مركز الأسقفيّة في كيبيك، وقد توجّه إليهم بكلمة بدأها بالتّرحيب من صميم القلب وبشكرهم على مجيئهم من أماكن مختلفة وقال:

"إنَّ اتساع هذه الأرض يجعلنا نفكّر بطول مسيرة الشّفاء والمصالحة الّتي نعيشها معًا. في الواقع، إنَّ العبارة الّتي رافقتنا منذ شهر آذار مارس، عندما زارني في روما ممثّلو الشّعوب الأصليّة، والّتي تميّز زيارتي هنا بينكم، هي: السّير معًا.

جئت إلى كندا كصديقٍ للقائكم، ولكي أرى وأصغي وأتعلّم وأقدِّر كيف تعيش الشّعوب الأصليّة في هذا البلد. جئت كأخٍ لكي أكتشف بنفسي الثّمار الجيّدة والسّيّئة الّتي أنتجها أفراد العائلة الكاثوليكيّة المحلّيّة على مرّ السّنين. جئت بروح التّوبة، لكي أعبّر لكم عن الألم الّذي نحمله في قلوبنا ككنيسة بسبب الشّرّ الّذي سبّبه لكم عدد كبير من الكاثوليك من خلال دعمهم لسياسات قمعيّة وظالمة تجاهكم. جئت كحاجٍّ، بإمكانيّاتي الجسديّة المحدودة، لكي أشجّع على اتّخاذ المزيد من الخطوات معكم ومن أجلكم: لكي يستمرَّ البحث عن الحقيقة، ولكي يتمَّ التّقدّم في تعزيز مسارات الشّفاء والمصالحة، ولكي نسير قُدُمًا في زرع الرّجاء في الأجيال القادمة من الشّعوب الأصليّة وغير الأصليّة والّتي ترغب في أن تعيش معًا في أخوّةٍ وانسجام."

أضاف بحسب "فاتيكان نيوز": "لكنّني أودّ أن أقول لكم، الآن مع اقتراب نهاية هذا الحجّ المكثّف: أنّه إن أتيتُ تحرِّكني هذه الرّغبات، أعود إلى البيت وقد اغتنيت، لأنّي أحمل في قلبي كنزًا لا يضاهى يتكوّن من أشخاص وشعوب تركوا فيَّ أثرًا، ووجوه وابتسامات وكلمات ستبقى في داخلي، وقِصَص وأماكنَ لن أستطيع أن أنساها، وأصوات وألوان وأحاسِيسَ تهتز بقوّة في داخلي. يمكنني أن أقول حقًّا إنّه فيما كنت أزوركم، كان واقعكم، واقع الشّعوب الأصليّة في هذه الأرض، يزور روحي: لقد دخل واقعكم في قلبي وسيرافقني على الدّوام. وأجرؤ على القول، إن سمحتم لي، إنّي أشعر الآن، بمعنى ما، بأنّي جزء أيضًا من عائلتكم، وهذا الأمر يشرّفني. إنَّ ذكرى عيد القدّيسة حنّة، الّتي عشناها مع أجيال مختلفة ومع العديد من العائلات الأصليّة، ستبقى ذكرى لا تُمحى في قلبي. وفي عالم تسيطر عليه الفرديّة، للأسف، ما أثمن ذلك الشّعور العفويّ بالعائلة والجماعة الّذي تعيشونه وكم هو مهمّ أن نعزّز جيّدًا الرّابط بين الشّباب والمسنّين، ونحافظ على علاقة سليمة ومتناغمة مع الخليقة بأسرها!

أيّها الأصدقاء الأعزّاء، أودّ أن أُوكِل ما عشناه في هذه الأيّام، ومواصلة المسيرة الّتي تنتظرنا، إلى رعاية من يعرف كيف يحافظ على ما هو مهمّ في الحياة: أفكّر في النّساء، وفي ثلاث نساء بشكل خاصّ. أوّلًا، القدّيسة حنّة، الّتي شَعَرتُ بحنانها وحمايتها، من خلال إكرامها مع شعب الله الّذي يعترف بجدّاته ويكرمهنَّ. ثانيًا، أفكّر في والدة الله القدّيسة: لا يوجد مخلوق يستّحق أكثر منها بأن يوصف كحاجّ، لأنّها في مسيرة على الدّوام، حتّى اليوم، وحتّى الآن: هي في مسيرة بين السّماء والأرض، لكي تعتني بنا من أجل الله وتقودنا بيدنا إلى ابنها. أخيرًا، غالبًا ما توجّهت صلاتي وأفكاري في هذه الأيّام إلى امرأة ثالثة رافقتنا بحضورها الوديع، والّتي تُحفَظُ رفاتها في مكان قريب من هنا: إنّها القدّيسة كاتري تيكاكويثا (Kateri Tekakwitha). نحن نكرّمها لقداسة حياتها، لكن ألّا يمكننا أن نفكّر أنّ قداسة حياتها، الّتي تميّزت بتكرُّس مثاليّ في الصّلاة والعمل، بالإضافة إلى قدرتها على تحمّل التّجارب العديدة بصبر ووداعة، كانت ممكنة أيضًا بسبب ما ورثته من السّمات النّبيلة ومزايا الفضيلة من الجماعة ومن البيئة الأصليّة الّتي نشأت فيها؟

يمكن لهؤلاء النّساء أن يساعدْنَنا لكي نكون معًا، ونعود إلى نسج مصالحة تضمن حقوق الأشدَّ ضعفًا وتعرف كيف تنظر إلى التّاريخ دون حقد أو نسيان. اثنتان منهنَّ، القدّيسة مريم العذراء والقدّيسة كاتري، نالتا من الله مشروع حياة، ودون أن تسألا أيّ شخص، أجابتا بكلمة "نعم" بشجاعة. كان من الممكن أن تجيبَ هاتَان المرأتان جوابًا سيّئًا على المعارضين لحياتهما، أو أن تبقيا خاضعتَين للقواعد الأبويّة لذلك الزّمن وتستسلما، دون أن تكافحا من أجل الأحلام الّتي طبعها الله في نفسيهما. لم تتّخذا هذا الخيار، وإنّما بوداعة وثبات، وبكلمات نبويّة وتصرّفات قاطعة، فتحتا الطّريق وحقّقتا ما دعاهنَّ الله إليه. لتباركا مسيرتنا المشتركة، ولتشفعا بنا وبعمل الشّفاء والمصالحة الكبير هذا الّذي يرضي الله. أبارككم من كلّ قلبي. وأسألكم، من فضلكم، أن تستمرّوا في الصّلاة من أجلي."

وفي اللّقاء الأخير ضمن برنامجه، التقى البابا المسنّين والشّباب، مساء الجمعة، في إحدى مدارس إيكالويت، حيث تحدّث عن استماعه إلى بعض الطّلّاب السّابقين في المدارس الدّاخليّة وشكر المتحدّثين على شجاعتهم لتقاسم معاناة كبيرة لم يكن له أن يتخيّلها، معاناة أثارت لديه مجدّدًا مشاعر الاستياء والخجل الّتي ترافقه منذ أشهر، مؤكّدًا ألمه وطلب المغفرة على الشّرّ الّذي ارتكبه عدد غير قليل من الكاثوليك الّذين ساهموا في سياسة الاستيعاب الثّقافيّ.

ونقلاً عن "فاتيكان نيوز"، انطلق بعدها البابا فرنسيس "من حديث أحد المسنّين عن جمال أجواء العائلات من السّكّان الأصليّين قبل نظام المدارس الدّاخليّة، وذكَّر الأب الأقدس بتشبيه هذا الرّجل المرحلة الّتي تميّزت بعيش المسنّين والشّباب معًا في انسجام بالرّبيع، وبحديث هذا الشّيخ عن غناء الطّيور، غناء توقّف فجأة مع تفكّك العائلات وإبعاد الصّغار عن بيوتهم ليبدأ هكذا الشّتاء. وقال البابا إنّ هذه الكلمات تثير الألم، كما وتوقّف عند تناقض ما حدث مع وصيّة الله "أكرم أباك وأمك لكي تطول أيّامك في الأرض الّتي يعطيك الربّ إلهك إيّاها". وأضاف قداسته أنّ هذه الإمكانيّة لم توفَر للكثير من عائلاتكم حين تمّ فصل الأبناء عن والديهم. وتابع أنّ هذه الأحداث تذكِّرنا بجزء آخر من الكتاب المقدّس، أيّ قصّة نابوت الّذي رفض التّنازل عن الكرْم الّذي ورثه عن آبائه للحاكم الّذي كان مستعدًّا لعمل أيّ شيء للحصول على هذا الكرم. ذكَّر البابا فرنسيس أيضًا بكلمات يسوع القويّة ضدّ من يكون حجر عثرة للصّغار أو يحتقرهم. وشدّد الأب الأقدس بالتّالي على الشّرّ الكبير في بتر الرّباط بين الآباء والأبناء وجرح المشاعر وإلحاق الضّرر بالصّغار.

توقّف قداسة البابا بعد ذلك عند الرّغبة في السّير معًا على درب الشّفاء والمصالحة بمساعدة الخالق للتّعرّف على ما حدث وتجاوز الماضي، وقال للحضور إنّهم شهادة للحياة الّتي لا تنطفئ ولنور يبرق لم ينجح أحد في إطفائه. ثمّ أعرب عن امتنانه لتمكّنه من أن يكون هنا في هذه الأماكن مشيرًا إلى محبّة السّكّان لهذه الأراضي الّتي نجحوا في احترامها وحراستها وتثمينها ونقلوا عبر الأجيال قيمًا أساسيّة مثل احترام المسنّين وحسّ الأخوّة الصّادق والعناية بالخليقة. وشدّد الأب الأقدس على ضرورة العناية بالأرض والأشخاص والتّاريخ، وأضاف أنّ الشّباب مدعوّون بشكل خاصّ إلى هذه العناية بدعم من المسنّين.  

وهكذا أراد البابا توجيه كلماته إلى الشّباب من شعب إينويت مذكّرًا إيّاهم بأنّه لا يكفي الحصول على إرث بل يجب إعادة كسب ما تمّ تلقّيه. على الشّباب بالتّالي الإصغاء بشكل متواصل إلى المسنّين وأن يعانقوا تاريخهم من أجل أن يكتبوا فيه صفحات جديدة، وأن يأخذوا مواقف أمام ما يحدث وأمام الأشخاص. وقدَّم البابا للشّباب في هذا السّياق ثلاث نصائح. الأولى هي السّير نحو الأعلى، وقال قداسته إنّ على الشّباب التّحرّر للانطلاق إلى الأعلى، نحو الرّغبات الأكثر حقيقة وجمالاً، نحو الله الّذي يجب أن نحبّه والقريب الّذي علينا أن نخدمه. وحثّ قداسة البابا الشّباب على ألّا يعتقدوا أنّ أحلام الحياة الكبيرة يصعب بلوغها، بل عليهم التّحليق وأن يعانقوا شجاعة الحقيقة ويعزّزوا جمال العدالة. ولمن قد يتساءل كيف لي أن أحلّق في عالم يبدو أنّه ينحدر إلى الأسفل ما بين فضائح وحروب وغياب العدالة ولامبالاة إزاء الضّعفاء، قال البابا: أنت الجواب، وذلك لا فقط لأنّك إذا استسلمت فسيعني هذا أنّك خسرت منذ البداية، بل لأنّ المستقبل بيديك. دعا قداسته بالتّالي الشّباب إلى محبّة العالم الّذي يسكنونه والغنى الّذي ورثوه.

النّصيحة الثّانية الّتي وجّهها الأب الأقدس إلى الشّباب هي أن يأتوا إلى النّور بشكل يوميّ، وقال إنّهم مدعوّون إلى أن يحملوا إلى العالم نورًا جديدًا، نور أعينهم وابتساماتهم ونور الخير الّذي بإمكانهم هم فقط أن يضيفوه. إلّا أنّ هذا يستدعي كفاحًا يوميًّا ضدّ الظّلام، قال البابا، مضيفًا أنّ هناك صراعًا يوميًّا بين النّور والظّلام وذلك في داخل كلّ منّا. وتابع أنّ طريق النّور يتطلّب اختيارات شجاعة من القلب ضدّ ظلام الزّيف وتفادي اتّباع ومضات تختفي سريعًا أو ألعاب ناريّة لا تخلّف سوى الدّخان. وذكَّر قداسة البابا هنا بأن يسوع قد قال: أنا نور العالم، كما أنّه قال لتلاميذه أيضًا: أنتم نور العالم. أنت أيضًا نور العالم، قال البابا لكلّ شابّ، وستصبح ذلك بشكل أكبر إن كافحت من أجل إبعاد ظلمة الشّرّ الحزينة عن قلبك.

ثمّ كانت النّصيحة الثّالثة الّتي وجّهها البابا إلى الشّباب ألا وهي تشكيل فريق، حيث يمكن للشّباب أن يقوموا بأشياء عظيمة معًا، لا بشكل منفرد. وقال البابا فرنسيس للشّباب إنّهم مثل نجوم السّماء والّتي يولد جمالها من الكون معًا، حين تكوِّن كوكبة تمنح نورًا وتوجيهًا في ليل العالم. وشدّد الأب الأقدس هنا على ضرورة توفير فرصة للشّباب كي يكونوا في مجموعات وأن يكونوا في حركة، فلا يمكن للشّباب أن يُمضوا أيّامهم منعزلين، رهائن هاتف. وفي حديثه عن تشكيل فريق قال البابا إنّ هذا يعني الإيمان بأنّه لا يمكن بلوغ أهداف كبيرة بشكل منفرد بل يجب التّحرّك معًا، يعني ترك فسحة للآخرين وتشجيع الرّفاق".  

وفي ختام كلمته، ذكّر البابا فرنسيس الشّباب بأنّ عليهم أن يطبّقوا هذه النّصائح الّتي وجّهها إليهم بثقافتهم وبلغتهم الجميلة. وتمنّى لهم، وانطلاقًا من الإصغاء إلى المسنّين والاستنباط من ثراء تقاليدهم وحرّيّتهم، أن يعانقوا الإنجيل الّذي حافظ عليه أجدادهم ونقلوه إليهم."

وكان البابا فرنسيس قبل ساعات قليلة من الانتقال إلى إيكواليت، قد حاور لمدّة ساعة 15 يسوعيًّا إضافة إلى الكاردينال مايكل تشيرني الكنديّ والعضو في الرّهبانيّة، في أسقفيّة كيبيك، حول مواضيع تخصّ الكنيسة والأرض الكنديّة، بحضور بعض اليسوعيّين من هايتي الّتي تعدّ جزءًا من المقاطعة الكنديّة.

وفي ختام اللّقاء، كانت صلاة مشتركة وصورة جماعيّة، وقدّم اليسوعيّون للبابا صورة فراشة "علامة جميلة على الشّركة والانسجام الرّوحيّ العميق مع هذا البلد"، بحسب ما أشار مدير مجلّة La Civiltà Cattolica الأب أنطونيو سبادارو.