البابا فرنسيس: الرّوح القدس يحرّرنا من الشّريعة ويقودها إلى تمامها بحسب وصيّة المحبّة
"فما شأنُ الشَّريعةِ إِذًا؟" هذا هو السّؤال الّذي نريد اليوم أن نعمِّقه، باتّباع القدّيس بولس، لكي نتعرّف على حداثة الحياة المسيحيّة الّتي يحرّكها الرّوح القدس. يكتب الرّسول: "إِذا كانَ الرُّوح يَقودُكم، فلَستُم في حُكْمِ الشَّريعة". أمّا منتقدو بولس فيزعمون بأنّه يجب على أهل غلاطية أن يتبعوا الشّريعة لكي يخلصوا. لكن القدّيس بولس لا يوافق إطلاقًا على هذا الأمر لأنّه لم يتّفق مع الرّسل الآخرين في أورشليم على هذه الأمور. فهو يذكر جيّدًا كلمات بطرس عندما قال: "لِماذا تُجَرِّبونَ اللهَ الآنَ بِأَن تَجعَلوا على أَعناق التَّلاميذِ نِيرًا لم يَقْوَ آباؤُنا ولا نَحنُ قَوِينا على حَملِه؟" لقد كانت الإرشادات الّتي انبثقت عن ذلك "المجمع الأوّل" في أورشليم واضحة جدًّا وكانت تقول: "لقد حَسُنَ لَدى الرُّوحِ القُدُسِ ولَدَينا أَلّا يُلْقى علَيكم مِنَ الأَعباءِ سِوى ما لا بُدَّ مِنُه، وهُوَ اجتِنابُ ذَبائحِ الأَصنامِ والدَّمِ والمَيتَةِ والفَحْشاء. فإِذا احتَرَستُم مِنها تُحسِنونَ عَمَلاً. عافاكُمُ الله".
عندما يتحدّث بولس عن الشّريعة، هو يشير عادة إلى شريعة موسى. لقد كانت مرتبطة بالعهد الّذي أقامه الله مع شعبه. ووفقًا لنصوص مختلفة من العهد القديم، فإنّ التّوراة- المصطلح العبريّ الّذي يشار به إلى الشّريعة- هي مجموعة من كلّ تلك الأحكام والقوانين الّتي وُجب على الإسرائيليّين أن يحفظوها، بموجب العهد مع الله. ويمكننا العثور على ملخّص فعّال حول ماهيّة التّوراة في هذا النّصّ من سفر تثنية الاشتراع: "فَيَزِيدُكَ الرَّبُّ إِلَهُكَ خَيرًا فِي كُلِّ عَملِ يَدِكَ، فِي ثَمَرَةِ بَطنِكَ وَثَمَرَةِ بَهَائِمِكَ وَثَمَرَةِ أَرْضِكَ. لِأَنَّ الرَّبَّ يَرْجِعُ لِيَفرَحَ لَكَ بِالخيرِ كَمَا فَرِحَ لِآبَائِكَ، إِذَا سَمِعت لِصوت الرَّبِّ إِلَهِكَ لِتَحفظ وَصاياهُ وَفَرَائِضَهُ المَكتُوبَةَ فِي سِفرِ الشَّرِيعَةِ هَذَا. إِذَا رَجَعتَ إِلَى الرَّبِّ إِلَهِكَ بِكُلِّ قَلبِكَ وَبِكُلِّ نَفسِكَ". لقد كان الحفاظ على الشّريعة يضمن فوائد العهد والعلاقة الخاصّة مع الله. فمن خلال العهد مع شعب إسرائيل، منحه الله التّوراة لكي يفهم مشيئته ويعيش في البِرِّ. نجد كثيرًا، ولاسيّما في كتب الأنبياء، أنّ عدم الحفاظ على تعاليم الشّريعة يشكّل خيانة حقيقيّة للعهد، ويثير غضب الله. لقد كان الرّابط بين العهد والشّريعة وثيقًا لدرجة أنّهما كانا واقعين لا ينفصلان.
في ضوء هذا كلّه، من السّهل أن نفهم لعبة هؤلاء المرسلين الّذين تسلّلوا إلى أهل غلاطية زاعمين أنّ اتّباع العهد كان يتضمّن أيضًا الحفاظ على شريعة موسى. ومع ذلك، حول هذه النّقطة بالتّحديد يمكننا أن نكتشف الذّكاء الرّوحيّ للقدّيس بولس والرّؤى العظيمة الّتي عبّر عنها، تعضده النّعمة الّتي نالها من أجل رسالته التّبشيريّة.
يشرح الرّسول لأهل غلاطية أنّ العهد والشّريعة في الواقع ليسا مرتبطين ارتباطًا لا ينحلّ. والعنصر الأوّل الّذي يعتمد عليه هو أنّ العهد الّذي أقامه الله مع إبراهيم كان قائمًا على الإيمان في تتميم الوعد وليس على الحفاظ على الشّريعة، الّتي لم تكن موجودةً بعد. ويكتب القدّيس بولس: "فأَقول: إِنَّ وَصِيَّةً أَثبَتَها اللهُ فيما مَضى لا تَنقُضُها شَريعةٌ جاءَت بَعدَ أَرْبعِمِائَةٍ وثَلاثينَ سَنَة فتُبطِلُ المَوعِد. فإِذا كانَ المِيراثُ يُحصَلُ علَيه بِالشَّريعة فإِنَّه لا يُحصَلُ علَيه بِالوَعْد. أَمَّا إِبراهيم فبِموجِبِ وَعْدٍ أَنعَمَ اللهُ علَيه". بهذا المنطق، وصل بولس إلى الهدف الأوّل: الشّريعة ليست في أساس العهد لأنّها جاء لاحقًا. حجّة كهذه تُسكت الّذين يزعمون أنّ شريعة موسى هي جزء أساسيّ من العهد. لأنَّ التّوراة في الواقع، لا تدخل في العهد الّذي قطعه الله لإبراهيم. وبالتّالي، لا يجب أن نفكّر في أنّ القدّيس بولس كان مخالفًا لشريعة موسى. لأنّه ولعدّة مرّات، في رسائله، يدافع عن أصلها الإلهيّ ويؤكِّد بأنّها تملك دورًا محدّدًا جدًّا في تاريخ الخلاص. لكن الشّريعة لا تعطي الحياة، ولا تقدّم إتمام الوعد، لأنّها ليست شرطًا لتحقيقه. إنَّ الّذي يبحث عن الحياة يحتاج إلى أن ينظر إلى الوعد وتحقيقه في المسيح.
أيّها الأعزّاء، يقدّم هذا العرض الأوّل للقدّيس بولس إلى أهل غلاطية الحداثة الجذريّة للحياة المسيحيّة: جميع الّذين يؤمنون بيسوع المسيح مدعوّون لكي يعيشوا في الرّوح القدس، الّذي يحرّرنا من الشّريعة ويقودها في الوقت عينه إلى تمامها بحسب وصيّة المحبّة."