الفاتيكان
14 تشرين الأول 2020, 08:45

البابا فرنسيس: بقراءة المزامير نتعلّم لغة الصّلاة

تيلي لوميار/ نورسات
حول سفر المزامير الّذي "أصبح أمّة وصالة تدريب وبيتًا للعديد من المصلّين"، تحدّث البابا فرنسيس خلال المقابلة العامّة الّتي ترأّسها في قاعة بولس السّادس في الفاتيكان، فقال بحسب "فاتيكان نيوز":

"في قراءتنا للكتاب المقدّس نصادف باستمرار صلوات من مختلف الأنواع. لكنّنا نجد أيضًا سفرًا مؤلّفًا من صلوات فقط، سفر أصبح أمّة وصالة تدريب وبيتًا للعديد من المُصلّين. إنّه سفر المزامير.

يشكّل هذا السّفر جزءًا من الكتب الحكميّة، لأنّه ينقل إلينا "معرفة الصّلاة" من خلال خبرة الحوار مع الله. نجد في المزامير جميع المشاعر البشريّة: الأفراح والآلام والشّكوك والرّجاء والمرارة الّتي تلوّن حياتنا يؤكّد التّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة أنّ كلّ مزمور "فيه من الاعتدال ما يجعل النّاس من كلّ طبقة ومن كلِّ زمان قادرين أن يصلّوه حقيقة". بقراءة المزامير مرارًا وتكرارًا نتعلّم لغة الصّلاة. في الواقع إنَّ الله الآب بروح القدّوس قد ألهمها في قلب الملك داود وقلوب مصلِّينَ آخرين لكي يعلّم كل رجل وامرأة كيف يسبّحوه ويشكروه ويتوسّلون إليه وكيف يتضرّعون إليه في الفرح والألم وكيف يخبرون عظائم أعماله وشريعته. إنَّ المزامير باختصار هي كلمة الله الّتي نستعملها نحن البشر لكي نتكلّم معه.

في هذا السّفر لا نلتقي أشخاصًا سماويّين ومجرّدين، وأناسًا يخلطون الصّلاة بخبرة جماليّة أو مُحبِطَة. المزامير ليست نصوصًا بعيدة عن الواقع بل هي صلوات وغالبًا ما تكون مأساويّة وتنبع من واقع الحياة؛ وبالتّالي لكي نصلّيها يكفي أن نكون على طبيعتنا. من خلالها نسمع أصوات مصلّين حقيقيّين، حياتهم كحياة الجميع محفوفة بالمشاكل والتّعب والشّكوك. وصاحب المزمور لا يعترض بشكل جذريّ على هذا الألم لأنّه يعرف أنّه ينتمي إلى الحياة، لكنَّ الألم في المزامير يتحوّل إلى طلب.

من بين الطّلبات العديدة، هناك طلب يبقى مُعلَّقًا كصرخة لا تتوقّف وتعبر السّفر بأكمله من جهة إلى أخرى: "إلى متى؟". كلّ ألم يطلب تحرّر، وكلُّ دمعة تسأل تعزية، وكلُّ جرح ينتظر شفاء وكلُّ افتراء تبرئة. وإذ تطرح باستمرار أسئلة من هذا النّوع تعلّمنا المزامير ألّا نتأقلم مع الألم وتذكّرنا بأنّ الحياة لا تُخلَّص إلّا إذا تمّ شفاؤها. حياة الإنسان هي نَفَس وقصّتُه عابرة، لكنَّ المصلّي يعرف بأنّه ثمين في عيني الله وبالتّالي فصرخته ليست بلا فائدة.

إنّ صلاة المزامير هي شهادة هذه الصّرخة: صرخة متعدّدة، لأنّ الألم في الحياة يأخذ آلاف الأشكال واسم المرض والحقد والحرب والاضطهاد وغياب الثّقة... وصولاً إلى "العار" الأسمى، عار الموت. يبدو الموت في سِفر المزامير أكثر أعداء الإنسان غير العقلانيّين: ما هي الجريمة الّتي تستحقّ مثل هذه العقوبة القاسية الّتي تتضمّن الهلاك والنّهاية؟ يطلّب مصلّي المزامير من الله أن يتدخّل حيث تكون جميع الجهود البشريّة بلا فائدة. لذلك فالصّلاة بحدِّ ذاتها هي درب الخلاص وبداية الخلاص.

إنَّ الجميع يتألّمون في هذا العالم: إن كانوا يؤمنون بالله أو يرفضونه. لكنَّ الألم في سفر المزامير يصبح علاقة: صرخة مساعدة تنتظر أن تجد أذنًا تصغي إليها، إذ لا يمكنها أن تبقى بدون معنى وبدون هدف. حتّى الآلام الّتي نعاني منها يمكنها أن تكون فقط حالات خاصّة لشريعة عالميّة: إنّها على الدّوام "دموعي" الّتي لم يذرفها أحد أبدًا من قبلي. إنّ جميع آلام البشر هي مقدّسة بالنّسبة لله. هكذا يرفع صلاته المصلّي في المزمور السّادس والخمسين: "تَيَهَانِي رَاقَبْتَ. إجعَل أَنتَ دُمُوعِي فِي زِقِّكَ. أَمَّا هِيَ فِي سِفرِكَ؟". أمام الله لسنا أشخاصًا مجهولي الهويّة أو أرقامًا، وإنّما وجوه وقلوب يعرفها كلٌّ بمفردها وبأسمائها. في المزامير يجد المؤمن جوابًا. وهو يعرف أنّه، حتّى وإن كانت جميع الأبواب البشريّة مُوصَدَة، فإنّ باب الله يبقى مفتوحًا. حتّى وإن كان العالم بأسره قد أصدر حكمًا بالإدانة، ففي الله نجد الخلاص على الدّوام.

"إنّ الرّبّ يصغي": أحيانًا في الصّلاة يكفي أن نعرف هذا. إنّ المشاكل لا تُحلُّ على الدّوام. إنّ الّذي يصلّي ليس شخصًا متوهِّمًا: هو يعرف أنّ العديد من قضايا الحياة على الأرض تبقى بدون حلول، وبدون مخرج؛ إنّ الألم سيرافقنا وعندما نتخطّى معركة ما ستكون هناك معارك أخرى في انتظارنا. لكن إذا تمَّ الإصغاء إلينا يصبح كلَّ شيء قابلاً للاحتمال.

إنّ أسوأ شيء قد يحصل لنا هو أن نتألّم متروكين بدون أن يتذكّرنا أحد. لكنَّ الصّلاة تُنقذنا من هذا الأمر؛ لأنّه من الممكن، وهذا غالبًا ما يحصل، ألّا نفهم مخطّطات الله، لكن صراخنا لا يبقى راكدًا على الأرض بل يرتفع إليه هو الّذي يملك قلب أب ويبكي من أجل كلِّ إبنٍ أو إبنةٍ يتألّم ويموت. إن ثبتنا في العلاقة معه، لن تحفظنا الحياة من الآلام ولكنّها ستنفتح على أفق كبير من الخير وستسير نحو تمامها."