البابا لاوُن الرّابع عشر: نحن بحاجة إلى العدالة والتّضامن
خلال اللّقاء، وبحسب ما أورد فاتيكان نيوز، أعاد البابا التّأكيد أنَّ "الأرض والمسكن والعمل" هي حقوق مقدّسة وذلك على خُطى سلفه البابا فرنسيس. كما وجَّه إدانة قويّة "لتفاقم الظّلم الاجتماعيّ، وللأضرار الجانبيّة النّاتجة عن التّطوّرات التّكنولوجيّة الحديثة، وللمعاملة اللّاإنسانية التي يتعرّض لها المهاجرون، ولانتشار المخدرات الاصطناعية الجديدة، كالفنتانيل الذي يدمّر الولايات المتّحدة بشكل خاصّ".
ورسم البابا في كلمته أمام الحركات الشّعبيّة صورة واقعيّة قاتمة شدّد فيها على أنّ "الشّعوب جُرِّدت من ثرواتها، وسُلبت أراضيها، وأُفقرت قسرًا؛ ومهاجرون ضعفاء يُساء إليهم ويُعامَلون كأنهم "نفايات". في الوقت عينه تنتشر المخدرات القديمة والجديدة، وتضرب الكوارث الطّبيعيّة – من فيضانات وأعاصير وزلازل – لتؤكّد عمق الأزمة المناخيّة. أمّا الرّبح فقد غدا صنمًا يُعبد، كما أصبح الجسد والرّفاهيّة الجسديّة موضوع عبادة جديدة. كذلك تبدو العدالة عاجزة، والتّكنولوجيا – على الرّغم من تقدّمها – تُفاقم الفوارق الاجتماعيّة، والبطالة والتّهميش والاستغلال، والفجوة بين "قلّة صغيرة" من الأغنياء، لا تتجاوز ١% من سكّان الأرض، وبين الغالبيّة السّاحقة من الفقراء تتسّع على نحو مقلق".
وجمع البابا لاوُن الرّابع عشر، في خطابه طويل الغنيّ بالإشارات إلى تعليم البابا فرنسيس، الذي أطلق هذه اللّقاءات، وإلى البابا لاوُن الثّالث عشر صاحب أوّل رسالة اجتماعيّة "Rerum Novarum" ومثل سلفيه، بين التّحذير والدّعوة إلى العمل والنّبوءة و"الشِعر" والرّجاء، فقال: "نحن بحاجة إلى تغيير، إلى مسيرة متجدّدة في سبيل العدالة والمحبّة والسّلام… إلى أمور جديدة "Rerum Novarum". واستعاد ذكرى رفع علم "الأرض والمسكن والعمل" في الفاتيكان لعشر سنوات خلت، وقال: "أُكرّر مع البابا فرنسيس: الأرض، والمسكن، والعمل هي حقوق مقدّسة، وجديرة بأن نناضل من أجلها. أقولها بوضوح: أنا معكم!".
وقد حضر اللّقاء نحو ألفي شخص من مختلف قارّات العالم، من المهمّشين والفقراء والمهاجرين والفلّاحين والعاملين في جمع النّفايات. وقد ساروا في "مسيرة" من مبنى "Spin Time Lab" في منطقة إسكويلينو بروما – حيث يعيش حوالي ٤٠٠ شخص في ظروف طارئة – إلى الفاتيكان. لقد كان هذا "حلم" البابا فرنسيس، الذي كان يرغب في أن يتمّ استقبال هذه الفئة الاجتماعيّة، التي غالبًا ما يتمّ رفضها أو تهميشها من قبل المؤسّسات، في قلب الكنيسة. وقد حقق البابا لاوُن هذا الحلم، حيث أعلن في بداية خطابه أنّه يعتزم "مواصلة المسيرة التي بدأها خورخي ماريو بيرغوليو الذي تحاور كثيرًا معكم خلال هذه السّنوات، مسلّطًا الضّوء على أهميّتكم النّبويّة في سياق عالم يعاني من مشاكل متنوّعة".
وأكّد البابا لاوُن الرّابع عشر "للدّول الحقّ والواجب في حماية حدودها، ولكن يجب أن يتوازن ذلك مع الواجب الأخلاقيّ المتمثّل في توفير المأوى". وهو يشجب "إساءة معاملة المهاجرين المستضعفين"، التي "لا نرى فيها ممارسة مشروعة للسّيادة الوطنيّة، بل جرائم خطيرة ترتكبها الدّولة أو تتسامح معها". ويتمّ اتّخاذ تدابير غير إنسانيّة - بل ويتم الاحتفاء بها سياسيًّا - لمعاملة هؤلاء "الأشخاص غير المرغوب فيهم" كما لو كانوا قمامة وليسوا بشرًا.
وأشار البابا لاوُن الرّابع عشر بأصابع الاتّهام إلى التّأثير السّلبيّ للتّطوّر التّكنولوجيّ على الصّحّة والتّعليم والعمل والنّقل والتّحضّر والاتّصالات والأمن والدّفاع. وسلّط الضّوء أوّلاً على "المفارقة" المتمثّلة في غياب الأرض والغذاء والسّكن والعمل لملايين الأشخاص، في حين أنّ "الهواتف المحمولة والشّبكات الاجتماعيّة وحتّى الذّكاء الاصطناعيّ هم في متناول ملايين الأشخاص"، بما في ذلك الفقراء. وقال "دعونا نحرص على ألّا يتمّ إهمال الاحتياجات الأساسيّة عند تلبية الاحتياجات الأكثر تعقيدًا".
وتحدّث البابا عن "سوء الإدارة" الذي "يولد ويزيد من عدم المساواة بحجّة التّقدّم. وبما أنّ النّظام لا يضع كرامة الإنسان في صميم اهتماماته، فإنّه يفشل أيضًا في تحقيق العدالة". وسرد البابا واحدًا تلو الآخر "الأضرار الجانبيّة"؛ في المقام الأوّل الأزمة المناخيّة، التي ربما تكون المثال الأكثر وضوحًا مع أحداثها الجوّيّة المتطرّفة. "من يعاني أكثر؟ دائمًا الأشدّ فقرًا". سواء الذين يرون "القليل الذي لديهم" يكتسحه الماء؛ أو "الفلّاحون والمزارعون والسّكّان الأصليّون" الذين يفقدون أراضيهم وهويّتهم وإنتاجهم المحلّيّ بسبب "تصحّر" الأراضي. من ثم هناك الأزمة التي تغذّيها شبكات التّواصل الاجتماعيّ فتساءل البابا: "كيف يمكن لشاب فقير أن يعيش برجاء ودون قلق عندما تروج وسائل التّواصل الاجتماعيّ باستمرار للاستهلاك الجامح والنّجاح الاقتصاديّ الذي لا يمكن تحقيقه على الإطلاق؟". وكيف ننسى إدمان المقامرة الرّقميّة مع منصّات مصمّمة لخلق "إدمان قهريّ" و"اعتياد"؟ هذا ولم يلتزم أسقف روما الصّمت بشأن "الحداثة" أو، بالأحرى، "الغموض" الذي يكتنف صناعة الأدويّة.
وسلّط البابا الضّوء على أنّه "في الثّقافة الحاليّة، وبمساعدة بعض الحملات الإعلانيّة، يتمّ التّرويج لنوع من عبادة الرّفاهيّة الجسديّة، تكاد تكون عبادة للجسد، وفي هذه الرّؤية، يتمّ تفسير سرّ الألم بطريقة مختزلة؛ وهذا قد يؤدي أيضًا إلى الإدمان على تناول مسكّنات الألم، التي تزيد مبيعاتها بالطّبع من أرباح شركات الإنتاج نفسها". وينظر البابا بشكل خاصّ إلى وطنه الأم، الولايات المتّحدة، الذي دمرّه إدمان المواد الأفيونيّة: "فكروا على سبيل المثال في الفنتانيل، عقار الموت، ثاني سبب للوفاة بين الفقراء في ذلك البلد. إن انتشار المخدرات الاصطناعيّة الجديدة، التي تزداد فتكًا، ليس مجرّد جريمة يرتكبها تجّار المخدرات، بل هو واقع يتعلّق بإنتاج الأدوية والأرباح التي تجنيها، دون أيّ أخلاقيّات عالميّة". كما انتقد البابا تطوّر تكنولوجيّات المعلومات والاتّصالات الجديدة القائمة على استخراج المعادن من باطن الأرض في البلدان الفقيرة "الكولتان في جمهوريّة الكونغو الدّيمقراطيّة، على سبيل المثال، الذي يعتمد استخراجه "على العنف شبه العسكريّ، وعمل الأطفال، وتشريد السّكان، أو اللّيثيوم، الذّهب الأبيض الذي يشعل المنافسة بين القوى العظمى والشّركات ويمثّل تهديدًا خطيرًا لسيادة واستقرار الدّول الفقيرة، حيث يتباهى رجال الأعمال والسّياسيّون بتشجيع الانقلابات العسكريّة وأشكال أخرى من زعزعة الاستقرار السّياسيّ فقط من أجل الحصول عليه."
لكنّ البابا لاوُن يقول إنّه متفائل على الرّغم من أنّ الصّورة العامّة مروّعة، فهو متفائل برؤية الحركات الشّعبيّة والمجتمع المدنيّ والكنيسة يتصدّون "لهذه الأشكال الجديدة التي تجرّد من الإنسانيّة، وتشهد باستمرار أنّ المحتاج هو قريبنا وأخانا. وهذا الأمر يجعلكم أبطالًا للإنسانيّة، وشهود عدالة، وشعراء تضامن؛ شعراء اجتماعيّون، بناة تضامن في التّنوّع. على الكنيسة أن تكون معكم: كنيسة فقيرة للفقراء، كنيسة تتقدم، كنيسة تخاطر، كنيسة شجاعة، نبويّة وفرحة!"
وأكّد البابا "المهمّ هو أن تكون الخدمة دائمًا مدفوعة بالحبّ، أعظم الفضائل على الإطلاق. في الواقع، يقول روبرت فرنسيس، مستندًا إلى خبرته الإرساليّة في بيرو، عندما يتم تشكيل تعاونيات ومجموعات عمل لإطعام الجياع، وتوفير المأوى للمشرّدين، وإنقاذ الغرقى، ورعاية الأطفال، وخلق فرص عمل، والحصول على الأرض وبناء المنازل، يجب أن نتذكر أنّنا لا نمارس أيديولوجيّة، بل نعيش الإنجيل حقًا. في الواقع، في قلب الإنجيل توجد "وصيّة المحبّة". لذا، يجب أن تكون الحركات الشّعبيّة، قبل أن تكون مدفوعة بحاجة إلى العدالة، مدفوعة برغبة المحبّة، ضدّ كلّ فرديّة وتحيّز. هذا كلّه، هو ترياق ضدّ اللّامبالاة الهيكليّة التي تنتشر. البابا لاوُن الرّابع عشر يشير إلى "عولمة العجز"، التي يجب مواجهتها بـ "ثقافة المصالحة والالتزام". والحركات الشّعبيّة تملأ هذا الفراغ النّاجم عن نقص الحبّ بمعجزة التّضامن العظيمة، القائمة على العناية بالقريب والمصالحة.
وشجّع البابا لاوُن الرّابع عشر العمل والفعاليّة، فقال "اليوم أودّ أن أنظر إلى 'الأشياء الجديدة' معكم، بدءًا من الضّواحي، لأنّ الأشياء تبدو مختلفة من الضّواحي، بينما في المركز هناك وعي ضئيل بالمشاكل التي تؤثّر على المهمّشين، وعندما يتمّ الحديث عنها في المناقشات السّياسيّة والاقتصاديّة، يبدو أنّها مسألة إضافيّة. غالبًا ما تطالب الضّواحي بالعدالة، وأنتم تصرخون لا بدافع اليأس، بل بدافع الرّغبة، وصرختكم هي صرخة للبحث عن حلول في مجتمع تهيمن عليه أنظمة غير عادلة. وأنتم لا تقومون بذلك باستخدام المعالجات الدّقيقة أو التّكنولوجيا الحيويّة، بل من المستوى الأساسيّ، بجمال الحرف اليدويّة. وهذا هو الشّعر…
وأضاف "هناك فراغ أخلاقيّ ناتج عن أزمة النّقابات العمّاليّة في القرن العشرين، التي أصبحت ضئيلة بشكل كبير، وأنظمة الضّمان الاجتماعيّ التي جعلت الفقراء أكثر ضعفًا وأقلّ حماية. لم تكن المؤسّسات الاجتماعيّة في الماضي مثاليّة، ولكن بإزالة معظمها وتزيين ما تبقى منها بقوانين غير فعّالة ومعاهدات غير مطبّقة، يجعل النّظام البشر أكثر ضعفًا من ذي قبل. لذلك، فإنّ الحركات الشّعبيّة، جنبًا إلى جنب مع المؤمنين والحكومات مدعوّة بشكل عاجل لملء هذا الفراغ، من خلال إطلاق عمليات عدالة وتضامن تنتشر في المجتمع بأسره."
وأكّد "كما رافقت الكنيسة تشكيل النّقابات في الماضي، علينا اليوم أن نرافق الحركات الشّعبيّة. إنّ الكنيسة تدعم نضالاتكم العادلة من أجل الأرض والمنزل والعمل. ومثل سلفي البابا فرنسيس، أعتقد أنّ السّبل الصّحيحة تبدأ من الأسفل ومن الضّواحي نحو المركز. وبالتّالي يمكن أن تتحوّل مبادراتكم العديدة والإبداعيّة إلى سياسات عامّة وحقوق اجتماعية جديدة".
