الفاتيكان
15 شباط 2024, 12:12

البابا فرنسيس: لا يمكن اختزال الصّدقة والصّلاة والصّوم في ممارسات خارجيّة، وإنّما هي سبل تعيدنا إلى القلب

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس البابا فرنسيس عصر الأربعاء القدّاس الإلهيّ ورتبة تبريك الرّماد في بدء زمن الصّوم المبارك في بازيليك القدّيسة سابينا في روما. وللمناسبة ألقى عظة قال فيها بحسب "فاتيكان نيوز":

"عندما تتصدّق، وعندما تصلّي، وعندما تصوم، إحرص على أن يكون ذلك في الخفية: لأنَّ أَبوكَ في الواقع يَرى في الخُفيَةِ. أدخل إلى الخفية: هذه هي الدّعوة التي يوجهها يسوع لكلّ واحد منّا في بداية مسيرة الصّوم. إنَّ الدخول في الخفية يعني العودة إلى القلب، كما حذّر يوئيل النّبيّ. إنّها رحلة من الخارج إلى الدّاخل، لأنَّ كلَّ ما نعيشه، حتّى علاقتنا مع الله، لا يمكنها أن تقتصر فقط على المظاهر، وعلى إطار بلا صورة، على غطاء للنّفس، بل تولد من الدّاخل وتتوافق مع حركات القلب، أيّ مع رغباتنا، ومع أفكارنا، ومشاعرنا، مع جوهر شخصنا.

إنَّ الصوم إذن يجعلنا نغوص في حمام تطهير وتجرّد: فهو يريد أن يساعدنا لكي نزيل كل "تبرُّجٍ"، وكل شيء نضعه لكي نبدو مناسبين، وأفضل ممّا نحن عليه. والعودة إلى القلب تعني أن نعود إلى الأنا الحقيقيّ لنقدّمه كما هو، عارٍ ومجرَّد من كلِّ شيء، أمام الله. تعني أن ننظر إلى داخل وندرك حقيقتنا، ونخلع الأقنعة التي نرتديها غالبًا، ونبطئ سباق جنوننا، ونعانق حقيقة أنفسنا. إنَّ الحياة ليست مسرحيّة، والصّوم يدعونا لكي ننزل من مسرح الخيال، لكي نعود إلى القلب، إلى حقيقة ما نحن عليه. ولهذا السّبب، هذا المساء، بروح الصّلاة والتّواضع، ننال الرّماد على رؤوسنا. إنّها لفتة تريد أن تعيدنا إلى واقع ذواتنا الأساسيّ: نحن تراب، وحياتنا مثل نسمة، لكنّ الرّبّ - هو وحده - لا يسمح لها بأن تتلاشى؛ فهو يجمع ترابنا ويصوغه، لكي لا تذرِّيه رياح الحياة العاتية، ولا يذوب في هاوية الموت.

إنّ الرماد الموضوع على رؤوسنا يدعونا لكي نعيد اكتشاف سرّ الحياة. ويقول لنا: طالما أنّك ستواصل ارتداء الدّرع الذي يغطي قلبك، والتّنكر بقناع المظاهر، وإبراز نور اصطناعيّ لكي تظهر أنّك لا تُقهر، فسوف تبقى فارغًا وجافًا. ولكن عندما ستتحلّى بالشّجاعة لكي تحني رأسك وتنظر في داخلك، فسوف تتمكّن من أن تكتشف حضور إله يحبّك منذ الأزل؛ وسيتحطّم الدّرع الذي بنيته لنفسك وستكون قادرًا على أن تشعر بحبّ أبديّ. أيّتها الأخت، أيّها الأخ، أنا وأنت، كلّ واحد منّا، محبوب بحبّ أبديّ. نحن رماد نفخ عليه الله نسمة الحياة، تراب صاغه بيديه، تراب سننهض منه مجدّدًا لحياة لا نهاية لها قد أُعدّت لنا منذ الأزل. وإذا اشتعلت نار محبّة الله في رمادنا، سنكتشف عندها أنّنا مجبولون بهذا الحبّ وأنّنا مدعوّون إلى الحبّ: فنحبّ الإخوة الذين بقربنا، ونتنبّه للآخرين، ونعيش الشّفقة، ونمارس الرّحمة، ونشارك ما نحن عليه وما نملكه مع من هم في العوز. لذلك، لا يمكن اختزال الصّدقة والصّلاة والصّوم في ممارسات خارجيّة، وإنّما هي سُبُلٌ تعيدنا إلى القلب، إلى جوهر الحياة المسيحيّة. وتجعلنا نكتشف أنّنا رماد يحبه الله وتجعلنا قادرين على نشر الحبّ عينه على "رماد" العديد من المواقف اليوميّة، لكي يولد فيها مجدّدًا الرّجاء والثّقة والفرح.

لقد ترك لنا القدّيس أنسيلموس هذه النّصيحة، التي يمكننا أن نتبنّاها هذا المساء: "اهرب لبعض الوقت من انشغالاتك، واترك أفكارك المضطربة قليلاً. أبعد عنك في هذه اللّحظة الاضطراب والقلق واترك نشاطاتك المتعبة جانبًا. بادر إلى الله قليلاً واسترح فيه. أدخل إلى أعماق نفسك، واستبعد كلّ شيء ما خلا الله وما يساعدك على البحث عنه، وأغلق بابك، وابحث عنه. وقل يا قلبي الآن بكل نفسك، قل الآن لله: أنا أبحث عن وجهك. وجهك يا ربّ ألتمس". لنُصغِ إذًا، في هذا الصّوم، إلى صوت الرّبّ الذي لا يكلّ من أن يكرّر لنا: أدخل إلى الخفية، عُد إلى القلب. إنّها دعوة سليمة لنا نحن الذين نعيش في كثير من الأحيان على السّطح، ونسعى لكي تتمّ ملاحظتنا، ونحتاج دائمًا إلى الإعجاب والتّقدير. وبدون أن نتنبّه لذلك، نجد أنفسنا بدون أيّ مكان خفيٍّ نتوقف فيه ونحافظ فيه على أنفسنا، منغمسين في عالم يجب أن يصبح فيه كلّ شيء، حتّى العواطف والمشاعر الأكثر حميميّة، "على شبكات التّواصل الاجتماعيّ" - ولكن كيف يمكن أن يصبح اجتماعيًا ما لا ينبع من القلب؟ -. حتّى الخبرات الأكثر مأساويّة وألمًا تواجه خطر ألّا يكون لها بعد الآن مكان سرّيّ يحفظها: كلّ شيء يجب أن يكون معروضًا، واستعراضيًّا، وموضوعًا لحديث السّاعة. وهنا يقول لنا الرّبّ: ادخل إلى الخفية، عُد إلى محورك. وهناك بالتّحديد، حيث تسكن أيضًا الكثير من المخاوف والشّعور بالذّنب والخطايا، نزل الرّبّ لكي يشفيك ويطهّرك. لندخل إلى غرفتنا الدّاخليّة: هناك يقيم الرّبّ، وهناك تُقبل هشاشتنا ونكون محبوبين بدون شروط.

لنعُد أيّها الإخوة والأخوات. لنعُد إلى الله بكلّ قلوبنا. ولنعطِ في أسابيع زمن الصّوم هذه فُسحة لصلاة العبادة الصّامتة، التي نبقى فيها في إصغاء في حضور الرّبّ، مثل موسى، مثل إيليا، مثل مريم، ومثل يسوع. لنُعطِ آذان قلوبنا لذلك الذي يريد أن يقول لنا في الصّمت: "أنا إلهكم: إله الرّحمة والرّأفة، إله المغفرة والمحبّة، إله الحنان والاهتمام. […] لا تحكم على نفسك. لا تدين نفسك. لا ترفض نفسك. اسمح لحبّي بأن يلمس أعمق أعماق قلبك وأكثرها خفية، وبأن يكشف لك جمالك الخاصّ، الجمال الذي غاب عن نظرك، ولكنه سيصبح مرئيًّا لك مجدّدًا في ضوء رحمتي". إنّ الرّبّ يدعونا: "تعال، تعال، دعني أجفف دموعك، واسمح لفمي بأن يقترب من أذنك ويقول لك: أحبّك، أحبّك، أحبّك".

لا نخافنَّ من أن نجرد أنفسنا من الكسوة الدّنيويّة ونعود إلى القلب، إلى الجوهريّ. لنفكّر في القدّيس فرنسيس، الذي بعد أن تجرّد من كلِّ شيء، عانق بكلّ ذاته الآب الذي في السّماوات. لنعترف بأنفسنا بما نحن عليه: تراب يحبّه الله؛ وبفضله سنولد مجدّدًا من رماد الخطيّة إلى حياة جديدة في يسوع المسيح وفي الرّوح القدس."