البابا لممثّلي التّقاليد الدّينيّة الأخرى: إذا توافقنا وتحرّرنا يمكننا أن نُسهم بفعاليّة في قول "لا" للحرب و"نعم" للسّلام
وللمناسبة وجّه الأب الأقدس كلمة رحّب بها بضيوفه وشكرهم على مشاركتهم في الاحتفال وقال بحسب "فاتيكان نيوز": "من أبرز ما ميّز حَبْرِيّة البابا فرنسيس كان التزامه العميق بالأخوّة الإنسانيّة الشّاملة. ففي هذا المجال، بدا واضحًا أنّ الرّوح القدس قد دفعه بقوّة إلى المضيّ قدمًا بخطى واسعة في مسار الانفتاح والمبادرات الّتي أطلقها أسلافه، ولاسيّما انطلاقًا من البابا القدّيس يوحنّا الثّالث والعشرين. إنّ بابا الرّسالة العامّة Fratelli tutti قد عزّز المسيرة المسكونيّة، كما عزّز الحوار بين الأديان، وقام بذلك بشكل خاصّ من خلال بناء علاقات شخصيّة، لا تنتقص من الرّوابط الكنسيّة، بل تُبرز البُعد الإنسانيّ للّقاء والتّواصل. نسأل الله أن يعيننا على أن نستخلص من شهادته الرّوحيّة كنزًا لحياتنا.
لقد تمّ انتخابي في مناسبة مرور سبعة عشر قرنًا على المجمع المسكونيّ الأوّل في نيقية، ذلك المجمع الّذي يُعدّ محطّة مفصليّة في بلورة قانون الإيمان الّذي تشترك فيه جميع الكنائس والجماعات الكنسيّة. وبينما نحن نسير نحو استعادة الشّركة الكاملة بين جميع المسيحيّين، نُدرك أنّ هذه الوحدة لا يمكنها أن تقوم إلّا على وحدة الإيمان. وكأسقف روما، أعتبر من واجبي الأساسيّ السّعي إلى إعادة الشّركة الكاملة والمرئيّة بين جميع الّذين يعترفون بالإيمان الواحد بالله الآب والابن والرّوح القدس.
في الواقع، إنّ سعيي إلى الوحدة لم يكن يومًا أمرًا عرضيًّا، بل كان دومًا هاجسًا مستمرًّا في حياتي، كما يدلّ عليه الشّعار الّذي اخترته لخدمتي الأسقفيّة :In Illo uno unum، وهي عبارة للقدّيس أوغسطينوس تذكّرنا أنّنا، رغم كوننا كُثرًا، إلّا أنّنا "واحد في المسيح الواحد". إنّ شركتنا في الواقع تتحقّق بقدر ما نتّجه معًا نحو الرّبّ يسوع المسيح. فكلّما كنّا أكثر أمانةً وطاعةً له، ازددنا اتّحادًا بعضنا ببعض. لذلك، كمسيحيّين، نحن مدعوّون جميعًا إلى الصّلاة والعمل سويًّا لكي نبلغ، خطوةً بعد خطوة، هذه الغاية، الّتي تبقى في جوهرها ثمرةً لعمل الرّوح القدس. وإنّي، إذ أعي تمامًا التّرابط العميق بين المسكونيّة والسّينودسيّة، أؤكّد نيّتي متابعة الجهد الّذي بدأه البابا فرنسيس في تعزيز الطّابع السّينودسيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، والسّعي إلى تطوير أشكال جديدة وملموسة تُسهم في إغناء البُعد السّينودسيّ أيضًا في المجال المسكونيّ.
يمكن لمسيرتنا المشتركة بل يجب، أن تُفهم أيضًا بمعناها الواسع، الّذي يشمل الجميع، في روح الأخوّة الإنسانيّة الّتي أشرتُ إليها آنفًا. إنّ زمننا هو زمن الحوار وبناء الجسور. ولذلك، أعبّر عن سروري وامتناني لحضور ممثّلي التّقاليد الدّينيّة الأخرى، الّذين يشاركوننا السّعي إلى الله وإلى إرادته، الّتي ما هي إلّا إرادة محبّة وحياة للرّجال والنّساء ولكلّ الخليقة. لقد كنتم شهودًا على الجهود الكبيرة الّتي بذلها البابا فرنسيس في سبيل الحوار بين الأديان. فمن خلال كلماته وأفعاله، فتح آفاقًا جديدة للّقاء، من أجل تعزيز "ثقافة الحوار كسبيل، والتّعاون المشترك كسلوك، والتّعارف المتبادل كمنهج ومعيار". وأشكر الدّائرة الفاتيكانيّة للحوار بين الأديان على الدّور الجوهريّ الّذي تضطلع به في هذا العمل الدّؤوب، لتشجيع اللّقاءات والتّبادلات الملموسة، الهادفة إلى بناء علاقات تقوم على الأخوّة الإنسانيّة. وأودّ أن أوجّه تحيّة خاصّة إلى الإخوة والأخوات اليهود والمسلمين. فلأجل الجذور اليهوديّة للمسيحيّة، يتمتّع المسيحيّون جميعًا بعلاقة خاصّة باليهوديّة. وقد شدّدت وثيقة المجمع الفاتيكانيّ الثّاني Nostra Aetate على عظمة الإرث الرّوحيّ المشترك بين المسيحيّين واليهود، ودعت إلى المعرفة المتبادلة والتّقدير المتبادل. ولا يزال الحوار اللّاهوتيّ بين المسيحيّين واليهود مهمًّا جدًّا، وهو قريب إلى قلبي. وحتّى في هذه الأزمنة العصيبة، المطبوعة بالنّزاعات وسوء الفهم، ينبغي أن نواصل هذا الحوار الثّمين بحماسة متجدّدة.
أمّا العلاقات بين الكنيسة الكاثوليكيّة والمسلمين، فقد تميّزت بازدياد الالتزام بالحوار والأخوّة، وهو التزام تغذّيه مشاعر التّقدير تجاه هؤلاء الإخوة والأخوات "الّذين يعبدون الله الواحد، الحيّ القائم، الرّحمن القدير، خالق السّماء والأرض، الّذي خاطب البشر". إنّ هذا التّوجّه، القائم على الاحترام المتبادل وحرّيّة الضّمير، يُشكّل أساسًا متينًا لبناء الجسور بين جماعاتنا. وإلى جميع ممثّلي التّقاليد الدّينيّة الأخرى، أُعرب عن امتناني لمشاركتكم في هذا اللّقاء، ولمساهمتكم في خدمة السّلام. ففي عالم يجرحه العنف والنّزاعات، تقدّم كلّ من الجماعات الممثّلة هنا إسهامها من الحكمة، والرّحمة، والالتزام بخير البشريّة وحماية بيتنا المشترك. وأنا على يقين أنّه، إذا توافقنا وتحرّرنا من كلّ نزعة إيديولوجيّة أو سياسيّة، يمكننا أن نُسهم بفعاليّة في قول "لا" للحرب و"نعم" للسّلام، "لا" لسباق التّسلّح و"نعم" لنزع السّلاح، "لا" لاقتصاد يُفقِر الشّعوب والأرض و"نعم" للتّنمية المتكاملة.
إنّ شهادة الأخوّة الّتي نرجو أن نجسّدها من خلال تصرّفات فعَّالة، ستُسهم حتمًا في بناء عالم أكثر سلامًا، كما يشتهي ذلك كلّ رجل وامرأة من ذوي النّوايا الطّيّبة. أيّها الأحبّاء، شكرًا مجدّدًا على قربكم. لنطلب في قلوبنا بركة الله: ليساعدنا صلاحه اللّامتناهي وحكمته على أن نحيا كأبناء له، وإخوة وأخوات فيما بيننا، لكي ينمو الرّجاء في العالم."