الفاتيكان
17 تشرين الأول 2025, 05:55

البابا من الفاو: القضاء على الجوع وسوء التّغذية هو مسؤوليّة الجميع

تيلي لوميار/ نورسات
زار البابا لاون الرّابع عشر، صباح الخميس، منظّمة الأغذية والزّراعة (الفاو) في روما، بمناسبة اليوم العالميّ للأغذية واحتفالًا بالذّكرى الثّمانين، في إطار جمعيّتها العامّة.

وللمناسبة وجّه الأب الأقدس كلمة للمشاركين قال فيها بحسب "فاتيكان نيوز": "إسمحوا لي أوّلًا أن أعبّر عن امتناني العميق للدّعوة الّتي وُجهت إليّ للمشاركة هذه المناسبة المميّزة معكم جميعًا. أزور هذا المقرّ المرموق على خُطى أسلافي على كرسيّ بطرس، الّذين أولوا منظّمة الفاو تقديرًا خاصًّا وقربًا دائمًا، إدراكًا منهم لأهمّيّة الرّسالة الّتي تضطلع بها هذه المنظّمة الدّوليّة. أُحيّي جميع الحاضرين باحترام وتقدير كبيرين، ومن خلالكم، كخادم وبشيرٍ للإنجيل، أعبّر لجميع شعوب الأرض عن أمنيتي بأن يسود السّلام في كلّ مكان. إنّ قلب البابا، الّذي لا يخصّه هو نفسه بل الكنيسة، والبشريّة جمعاء بطريقة ما، يحتفظ برجاءٍ حيّ بأنّ دحر الجوع هو الشّرط الأوّل لنموّ السّلام، الّذي هو التّربة الخصبة الّتي ينبت منها الخير العامّ لجميع الأمم. وبعد مرور ثمانين عامًا على تأسيس الفاو، يجب أن تسائل ضمائرنا مجدّدًا المأساة الدّائمة للجوع وسوء التّغذية. إنّ القضاء على هذين الشّرّين ليس واجبًا على أصحاب الأعمال أو السّياسيّين أو الإداريّين وحدهم، بل هو مسؤوليّة الجميع: الوكالات الدّوليّة، والحكومات، والمؤسّسات العامّة، والمنظّمات غير الحكوميّة، والهيئات الأكاديميّة، والمجتمع المدنيّ، بدون أن ننسى كلّ شخص على حدة، والّذي يجب أن يرى في ألم الآخرين جزءًا من ألمه الخاصّة. إنّ الّذي يتألّم جوعًا ليس غريبًا عنّي، إنّه أخي، ويجب أن أُسرع إلى مساعدته بدون تردّد.

إنّ الهدف الّذي يجمعنا اليوم هو هدف نبيل ولا مفرّ منه: تعبئة كلّ الطّاقات المتاحة بروحٍ من التّضامن لكي لا يبقى أحد في العالم محرومًا من الغذاء الكافي كمًّا ونوعًا. بهذه الطّريقة فقط يمكن إنهاء وضعٍ يُنكر كرامة الإنسان ويقوّض التّنمية المرجوّة، ويُرغم حشودًا على ترك منازلهم ظلمًا، ويُعيق التّفاهم بين الشّعوب. منذ تأسيسها، وجّهت الفاو جهودها بلا كلل لجعل تنمية الزّراعة وضمان الأمن الغذائيّ من أولويّات السّياسة الدّوليّة. بهذا المعنى وبعد خمس سنوات من اقتراب أجندة ٢٠٣٠ من نهايتها، يجب أن نتذكّر بإصرار أنّ القضاء على الجوع لن يتحقّق إلّا بوجود إرادة حقيقيّة، لا بمجرّد تصريحات احتفاليّة. ومن ثمّ، يُطلب منّا اليوم بإلحاح أن نجيب عن سؤال جوهريّ: أين نحن في مواجهة آفة الجوع الّتي ما زالت تنهش قسمًا كبيرًا من الإنسانيّة؟

من المؤلم أن نقرّ بأنّه، على الرّغم من التّقدّم التّكنولوجيّ والعلميّ والإنتاجيّ، هناك ٦٧٣ مليون إنسان ينامون جياعًا، و٢،٣ مليار آخرين لا يستطيعون الحصول على غذاءٍ كافٍ من حيث التّغذية. هذه الأرقام ليست مجرّد إحصاءات، فخلف كلّ رقم هناك حياةٌ مكسورة، وجماعةٌ هشّة، وأمٌّ لا تقدر على إطعام أطفالها. وربّما أكثر ما يُبكي هو وضع الأطفال الّذين يعانون من سوء التّغذية، بما يترتّب عليه من أمراض وتأخّر في النّموّ البدنيّ والعقليّ. هذه ليست صدفة، بل علامة واضحة على قسوة عالمٍ تحكمه اقتصاديّات بلا روح، ونموذج تنمية مشكوك في إنسانيّته، ونظام توزيع مواردٍ ظالم وغير مستدام. في زمنٍ أطالت فيه العلوم عمر الإنسان، وقرّبت فيه التّكنولوجيا القارّات، ووسّع فيه العلم آفاقًا لم تكن ممكنة، يبقى السّماح لملايين البشر بأن يعيشوا ويموتوا جوعى فشلًا جماعيًّا، وانحرافًا أخلاقيًّا، وذنبًا تاريخيًّا.

لقد أعادت الصّراعات المعاصرة استخدام الغذاء كسلاح حرب، في تناقض صارخ مع جهود التّوعية الّتي قامت بها الفاو خلال ثمانية عقود. ويبدو أنّ الإجماع الدّوليّ الّذي اعتبر التّجويع المتعمّد جريمة حرب قد تراجع، مثلما تراجع المبدأ الّذي يحظّر حرمان الشّعوب عمدًا من الغذاء. إنّ القانون الإنسانيّ الدّوليّ يحظّر من دون استثناء استهداف المدنيّين أو تدمير الموارد الضّروريّة لبقائهم. قبل أعوام، أدان مجلس الأمن بالإجماع استخدام الجوع كسلاح، معترفًا بالصّلة بين النّزاعات المسلّحة وانعدام الأمن الغذائيّ. لكنّنا نرى اليوم، بأسى، استمرار هذه الممارسة القاسية الّتي تحرم الرّجال والنّساء والأطفال من حقّهم الأساسيّ في الحياة. إنّ صمت الجياع يصرخ في ضمائرنا جميعًا، وإن حاول البعض تجاهله أو تشويهه. لا يمكننا أن نستمرّ هكذا، فالجوع ليس قدر الإنسان بل هلاكه. فلنقوِّ عزمنا على مواجهة هذه الفضيحة، ولا نتوقفنَّ عند اعتبار الجوع مجرّد مشكلة علينا حلّها، وإنّما هو أكثر؛ إنّه صرخة ترتفع إلى السّماء وتطلب استجابة عاجلة من كلّ دولة، ومن كلّ هيئة دوليّة أو محلّيّة. لا يمكن لأحد أن يقف جانبًا في الكفاح الدّؤوب ضدّ الجوع. هذه المعركة هي معركة الجميع.

أصحاب السّعادة، نشهد اليوم تناقضاتٍ صادمة. كيف يمكننا أن نقبل بإهدار ملايين الأطنان من الطّعام بينما يبحث أشخاص كثيرون في القمامة عن لقمة؟ كيف يمكن تفسير الفوارق الّتي تتيح للقلّة كلّ شيء وتحرم الكثرة من كلّ شيء؟ كيف لا تتوقّف الحروب الّتي تدمّر الحقول قبل المدن، وتصل حتّى إلى مشاهد لا تليق بالوضع الإنسانيّ، حيث وبدلًا من أن تتمّ رعايتها، تتلاشى حياة الأشخاص، ولاسيّما الأطفال، بينما يذهبون للبحث عن الطّعام وجلودهم ملتصقة بعظامهم؟ إنّنا، أمام هذا المشهد العالميّ المليء بالآلام والنّزاعات، نبدو شهودًا لا مبالين لعنفٍ يمزّق الإنسانيّة. لكنّ هذه المآسي الإنسانيّة يجب أن تدفعنا إلى أن نصبح صانعي سلام، نحمل البلسم الشّافي لجراح البشريّة. نزيف كان يجب أن يجذب انتباهنا على الفور وكان يجب أن يقودنا إلى مضاعفة مسؤوليّتنا الفرديّة والجماعيّة، وإيقاظنا من السّبات المشؤوم الّذي نغرق فيه في كثير من الأحيان. إنّ العالم لا يستطيع أن يبقى متفرّجًا أمام هذه العروض المروّعة كتلك الجارية في مناطق عديدة من الأرض. لقد حان الوقت لوضع حدٍّ له في أقرب وقت ممكن.

لقد حان الوقت، إذن، لنسأل أنفسنا بوضوح وشجاعة: هل تستحقّ الأجيال القادمة عالمًا غير قادر على القضاء على الجوع والبؤس مرّة واحدة وإلى الأبد؟ هل من الممكن ألّا نتمكّن من إنهاء كلّ هذه التّجاوزات المؤلمة الّتي تؤثّر سلبًا على العائلة البشريّة؟ هل يمكن للمسؤولين السّياسيّين والاجتماعيّين أن يستمرّوا في الاستقطاب، وإضاعة الوقت والموارد في مناقشات عقيمة وعنيفة، بينما يبقى الّذين يجب أن يخدموهم منسيّين ويُستخدمون لخدمة المصالح الحزبيّة؟ لا يمكننا أن نقتصر على إعلان القيم. بل يجب أن نجسّدها. إنّ الشّعارات لا تخرج النّاس من البؤس. من الملحّ أن نتجاوز نموذجًا سياسيًّا شديد التّعقيد، بالاعتماد على رؤية أخلاقيّة تسود على البراغماتيّة السّائدة الّتي تستبدل الشّخص بالرّبح. لا يكفي أن ندعو إلى التّضامن: علينا أن نضمن الأمن الغذائيّ، والوصول إلى الموارد، والتّنمية الرّيفيّة المستدامة.

في هذا السّياق، أرى من الملائم جدًّا أن يُحتفل هذا العام باليوم العالميّ للأغذية تحت شعار: "يدًا بيد من أجل أغذية أفضل ومستقبل أفضل". ففي مرحلة تاريخيّة مطبوعة بانقسامات عميقة وتناقضات، لا تُعدّ الوحدة في التّعاون مجرّد مثَلٍ جميل، بل نداءً إلى العمل. لا يجب أن نكتفي بملء الجدران بملصقات كبيرة وملفتة للنّظر. لقد حان وقت الالتزام الجديد الّذي يؤثّر بشكل إيجابيّ على حياة أولئك يعانون من الجوع ويتوقّعون منّا مبادرات ملموسة تنتشلهم من بؤسهم. هذا الهدف لا يتحقّق إلّا من خلال سياسات فعّالة وتنسيق متكامل للجهود. إنّ الدّعوة إلى السّير معًا في أخوّة حقيقيّة يجب أن تكون المبدأ الموجّه للسّياسات والاستثمارات، لأنّه فقط من خلال التّعاون الصّادق والمستمرّ يمكن بناء أمن غذائيّ عادل وفي متناول الجميع.

فقط من خلال توحيد جهودنا، يمكننا أن نبني مستقبلًا كريمًا، يتأكّد فيه الأمن الغذائيّ كحقّ وليس كامتياز. وانطلاقًا من هذا الاقتناع، أودّ أن أؤكّد أنّ دور المرأة في مكافحة الجوع وتعزيز التّنمية الشّاملة هو دور لا غنى عنه، وإن لم يكن دائمًا موضع تقدير كافٍ. فالنّساء هنّ أوّل من يحرصن على توفير الخبز، ويزرعن الأمل في حقول الأرض، ويصنعن المستقبل بأيديهنّ المتصلّبة من الجهد. في كلّ زاوية من زوايا العالم، المرأة هي المهندسة الصّامتة للبقاء، والحارسة المنهجيّة للخليقة. والاعتراف بدورها وتقديره ليس مسألة عدالة فحسب، بل هو ضمان لتغذية أكثر إنسانيّة واستدامة.

أصحاب السّعادة، إذ أعرف مدى أهمّيّة هذا المحفل الدّوليّ، اسمحوا لي أن أؤكّد بوضوح على أهمّيّة التّعدّديّة في مواجهة الإغراءات الضّارّة الّتي تميل إلى أن تنشأ على أنّها استبداديّة في عالم متعدّد الأقطاب ومترابط بشكل متزايد. لذلك، أصبح من الضّروريّ أكثر من أيّ وقت مضى أن نعيد التّفكير بجرأة في أساليب التّعاون الدّوليّ. لا يتعلّق الأمر فقط بتحديد الاستراتيجيّات أو إجراء تشخيصات مفصّلة. إنّ ما تنتظره الدّول الأكثر فقرًا برجاء هو أن يُسمع صوتها بدون مرشّحات، وأن تُعرف أوجه قصورها حقًّا، وأن تُتاح لها الفرصة، بحيث يُؤخذ رأيها في الاعتبار عند حلّ مشاكلها الحقيقيّة، بدون فرض حلول عليها مصمّمة في مكاتب بعيدة، في اجتماعات تهيمن عليها أيديولوجيّات غالبًا ما تتجاهل الثّقافات القديمة، أو التّقاليد الدّينيّة، أو العادات المتجذّرة بعمق في حكمة الأجداد. من الضّروريّ بناء رؤية تمكّن كلّ فاعل على السّاحة الدّوليّة من الاستجابة بفعاليّة وسرعة أكبر للاحتياجات الحقيقيّة للّذين دُعينا لخدمتهم من خلال التزامنا اليوميّ.

لم يعد بإمكاننا اليوم، أن نخدع أنفسنا بالاعتقاد بأنّ عواقب إخفاقاتنا لا تؤثّر إلّا على الّذين يختبئون بعيدًا عن الأنظار. إنّ الوجوه الجائعة للكثيرين الّذين ما زالوا يتألَّمون تتحدّانا وتدعونا إلى إعادة فحص أنماط حياتنا، وأولويّاتنا، وأسلوبنا العامّ في العيش في عالم اليوم. ولهذا السّبب بالذّات، أريد أن ألفت انتباه هذا المحفل الدّوليّ إلى الجموع الّتي تفتقر إلى إمكانيّة الحصول على مياه الشّرب، والغذاء، والرّعاية الطّبّيّة الأساسيّة، والسّكن اللّائق، والتّعليم الأساسيّ، أو العمل الكريم، لكي نتمكّن من المشاركة في آلام الّذين يتغذّون على اليأس والدّموع والبؤس فقط. كيف يمكننا أن ننسى جميع الّذين حُكم عليهم بالموت والمشقّة في أوكرانيا، وغزّة، وهايتي، وأفغانستان، ومالي، وجمهوريّة أفريقيا الوسطى، واليمن، وجنوب السّودان، على سبيل المثال لا الحصر من الأماكن على الكوكب حيث أصبح الفقر هو الخبز اليوميّ لكثير من إخوتنا وأخواتنا؟ لا يمكن للمجتمع الدّوليّ أن يميل نظره إلى الطّرف الآخر. علينا أن نجعل ألمهم ألمنا. لا يمكننا أن نطمح إلى حياة اجتماعيّة أكثر عدلًا إذا لم نكن مستعدّين للتّخلّص من اللّامبالاة الّتي تبرّر الجوع وكأنّه موسيقى خلفيّة اعتدنا عليها، أو مشكلة لا يمكن حلّها، أو ببساطة مسؤوليّة شخص آخر. لا يمكننا أن نطالب الآخرين بالعمل إذا فشلنا نحن أنفسنا في الوفاء بالتزاماتنا. بتقصيرنا، نصبح متواطئين في تعزيز الظّلم. لا يمكننا أن نرجو في عالم أفضل، ومستقبل مشرق وسلميّ، إذا لم نكن مستعدّين لتقاسم ما تلقّيناه نحن أنفسنا. عندها فقط يمكننا أن نؤكّد- بصدق وشجاعة- أنّه لم يُترك أحد في الخلف.

أستمطر على جميع الحاضرين هنا- على منظّمة الفاو ومسؤوليها الّذين يعملون يوميًّا بأمانة وتفانٍ- بركة الله الّذي يعتني بالفقراء والجياع والعاجزين. ليجدّد فينا جميعًا الرّجاء الّذي لا يُخيّب. إنّ التّحدّيات أمامنا عظيمة، لكن إمكانيّاتنا ومسارات العمل الممكنة كذلك عظيمة! للجوع أسماء كثيرة، وهو يثقل كاهل العائلة البشريّة بأسرها. فالإنسان لا يجوع إلى الخبز فقط، بل إلى كلّ ما يمنحه النّضج والسّعادة الّتي خُلق لأجلها. هناك جوع إلى الإيمان، إلى الرّجاء، وإلى المحبّة، وعلينا أن نوجّه هذا الجوع نحو استجابة شاملة نقوم بها معًا. إنّ كلمات يسوع لتلاميذه أمام الجموع الجائعة ما زالت نداءً ملحًّا للمجتمع الدّوليّ: "أعطوهم أنتم ليأكلوا". وبمساهمة صغيرة من التّلاميذ صنع يسوع معجزة عظيمة. فلا نتعبنّ اليوم إذًا من طلب الشّجاعة والطّاقة من الله لمواصلة العمل من أجل عدالةٍ تثمر خيرًا دائمًا. وأنتم في جهودكم هذه، يمكنكم دومًا أن تعتمدوا على تضامن الكرسيّ الرّسوليّ ومؤسّسات الكنيسة الكاثوليكيّة المستعدّة لخدمة أفقر الفقراء في جميع أنحاء العالم."