البابا وقّع رسالة رسوليّة بحضور طلّاب الجامعات الحبريّة
وكان البابا قد ترأّس في بازيليك القدّيس بطرس بالفاتيكان القدّاس الإلهيّ مع الطّلّاب، وألقى على مسامعهم عظة قال فيها بحسب "فاتيكان نيوز":
"إنّ وجودنا في هذا المكان، خلال سنة اليوبيل، هو عطيّة لا يمكن أن نأخذها كأمر مُسلَّم به. فهي عطيّة خاصّة، لأنّ الحجّ، الّذي يدفعنا لعبور الباب المقدّس، يُذكّرنا بأنّ الحياة لا تكون حيّة إلّا إذا كانت في مسيرة، ولا تنمو إلّا إذا كانت تعرف كيف تعبر مراحل وتقوم بـ"عبور"؛ أيّ أن تكون قادرة على أن تصنع فصحها.
من الجميل أن نتأمّل في الكنيسة، الّتي فيما تحتفل خلال هذه الأشهر باليوبيل، تختبر كونها في مسيرة، وتتذكّر أنّها بحاجة دائمة إلى الارتداد، وأنّ عليها أن تسير دومًا خلف يسوع، بدون تردّد ودون أن تحاول أن تتقدّمه، وأنّها تحتاج دائمًا إلى الفصح، أيّ إلى "العبور" من العبوديّة إلى الحرّيّة، ومن الموت إلى الحياة. أرجو أن يشعر كلّ واحد منكم بعطيّة هذا الرّجاء، وأن يكون اليوبيل مناسبة تنطلقون منها مجدّدًا في حياتكم.
ولكنّني أودّ اليوم أن أتوجّه إليكم، أنتم الّذين تنتمون إلى المؤسّسات الجامعيّة، وإلى كلّ من يلتزم في مجال الدّراسة والتّعليم والبحث العلميّ. ما هي النّعمة الّتي يمكنها أن تلمس حياة الطّالب أو الباحث أو العالم؟ أودّ أن أجيب على هذا السّؤال بالقول: إنّها نعمة النّظرة الشّاملة، النّظرة القادرة على إدراك الأفق، والذّهاب أبعد. يمكننا أن نستقي هذا الإلهام من صفحة الإنجيل الّتي سمعناها للتّوّ، والّتي تقدّم لنا صورة امرأة منحنية الظّهر، شفاها يسوع، فاستعادت النّعمة لتتطلّع إلى الحياة بنظرة جديدة، أوسع وأعمق. إنّ حالة الجهل، الّتي غالبًا ما ترتبط بالانغلاق وبغياب الاضطراب الرّوحيّ والفكريّ، تشبه حالة تلك المرأة: فهي منحنية، منطوية على نفسها، غير قادرة على أن تنظر إلى ما هو أبعد منها. وعندما يعجز الإنسان عن النّظر إلى ما هو أبعد من نفسه، ومن خبراته وأفكاره وقناعاته ومخطّطاته، يبقى أسيرًا وعبدًا، غير قادر على النّضوج وإصدار حكم حرّ.
وكما في حالة المرأة المنحنية في الإنجيل، يبقى الخطر قائمًا في أن نبقى سجناء نظرة متمركزة على الذّات. لكن في الواقع، كثير من الأمور الأساسيّة في الحياة- بل يمكن القول الأمور الجوهريّة- لا نصنعها نحن لأنفسنا، بل ننالها من الآخرين، تصل إلينا ونقبلها: من أساتذتنا، ومن اللّقاءات، ومن خبرات الحياة. وهذه هي خبرة النّعمة، لأنّها تشفي انغلاقنا الدّاخليّ. إنّها شفاء حقيقيّ، تمامًا كما حدث للمرأة في الإنجيل، يسمح لنا بالوقوف مرّة أخرى أمام الأشياء والحياة والنّظر إليها في أفق أوسع. لقد نالت تلك المرأة الشّفاء والرّجاء معًا، لأنّها استطاعت أخيرًا أن ترفع نظرها وترى شيئًا مختلفًا وبأسلوب جديد. هذا ما يحدث خصوصًا عندما نلتقي بالمسيح في حياتنا: تنفتح أمامنا حقيقة قادرة على أن تغيّر الحياة، أن تُخرجنا من ذواتنا، وتحرّرنا من انغلاقنا.
إنّ الّذي يدرس، يرتفع بنظرته ويوسّع آفاقه، ليستعيد نظرة لا تتوقّف عند الأرض فقط، بل ترتفع نحو السّماء: نحو الله، نحو الآخرين، ونحو سرّ الحياة. هذه هي نعمة الطّالب والباحث والعالم: أن ينال نظرة أوسع، تعرف كيف تذهب بعيدًا، لا تُبسّط الأمور، ولا تخاف الأسئلة، وتتغلّب على الكسل الفكريّ، وتهزم هكذا الضّمور الرّوحيّ. لنتذكّر دائمًا أنّ الرّوحانيّة تحتاج إلى هذه النّظرة الّتي تُسهم دراسة اللّاهوت والفلسفة وسائر العلوم في تنميتها بطريقة مميّزة. لقد أصبحنا اليوم خبراء في التّفاصيل الدّقيقة للواقع، لكنّنا فقدنا القدرة على رؤية الصّورة الكاملة، على أن نربط الأشياء بمعنى أعمق وأشمل. غير أنّ الخبرة المسيحيّة تريد أن تعلّمنا أن ننظر إلى الحياة والواقع بنظرة موحَّدة، قادرة على معانقة كلّ شيء ورفض أيّ منطق جزئيّ.
من هنا، أشجّعكم- أنتم أيّها الطّلّاب، وجميع الّذين تلتزمون في التّعليم والبحث- على ألّا تنسوا أنّ الكنيسة تحتاج اليوم وغدًا إلى هذه النّظرة الموحَّدة. فبالنّظر إلى أمثلة أشخاص مثل القدّيس أوغسطينوس، وتوما الأكوينيّ، وتريزا الأفيليّة، وإديث شتاين، وكثيرين غيرهم، الّذين عرفوا كيف يدمجون البحث العلميّ في مسيرتهم الرّوحيّة، نحن أيضًا مدعوّون لأن نتابع عملنا الفكريّ وسعينا إلى الحقيقة بدون أن نفصله عن الحياة. من المهمّ أن نحافظ على هذه الوحدة، لكي لا يبقى ما يحدث في قاعات الجامعة وفي البيئات التّعليميّة مجرّد تمرين فكريّ مجرّد، بل يصبح واقعًا قادرًا على تحويل الحياة، ويجعلنا نعمِّق علاقتنا بالمسيح، ونفهم سرّ الكنيسة بشكل أفضل، ويجعلنا شهودًا جريئين للإنجيل في المجتمع.
أيّها الأعزّاء، إنّ الدّراسة والبحث والتّعليم يرتبطون أيضًا بمهمّة تربويّة عظيمة. وأودّ أن أحثّ الجامعات على معانقة هذه الدّعوة بشغف والتزام. إنّ التّربية تشبه المعجزة الّتي يرويها الإنجيل، لأنّ فعل المربّي هو أن يرفع الآخر، وينهضه كما أنهض يسوع تلك المرأة المنحنية، ويساعده ليكون ذاته، فينضج وعيه وتفكيره النّقديّ المستقلّ. على الجامعات الحبريّة أن تواصل هذا العمل الّذي بدأه يسوع نفسه. إنّه فعل محبّة حقيقيّ، لأنّ هناك نوعًا من المحبّة يمرّ عبر أبجديّة المعرفة، والدّراسة، والبحث الصّادق عمّا هو حقيقيّ ويستحقّ أن نعيش من أجله. إنّ إشباع الجوع إلى الحقيقة والمعنى هو مهمّة ضروريّة، لأنّه من دون الحقيقة والمعاني الأصيلة يمكننا أن ندخل في الفراغ ويمكننا حتّى أن نموت.
في هذه المسيرة يمكن لكلّ فرد منّا أن يكتشف أيضًا العطيّة الأعظم على الإطلاق: أن يعرف أنّه ليس وحده وأنّه ينتمي إلى شخص ما، كما يقول الرّسول بولس: "إِنَّ الَّذينَ يَنقادونَ لِرُوحِ الله يَكونونَ أَبناءَ اللهِ حَقًّا. لم تَتلَقَّوا روحَ عُبودِيَّةٍ لِتَعودوا إِلى الخَوف، بل روحَ تَبَنٍّ بِه نُنادي: أَبًّا، يا أَبَتِ!". إنّ ما نناله فيما نبحث عن الحقيقة ونجتهد في الدّراسة، يساعدنا لكي نكتشف أنّنا لسنا مخلوقات ألقيت في هذا العالم صدفة، بل نحن ننتمي إلى من يحبّنا وله مشروع محبّة لحياتنا.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، أسأل الرّبّ معكم أن تكون خبرتكم الدّراسيّة وفي البحث في المغامرة الجامعيّة الّتي تعيشونها، قادرة على أن تمنحكم هذه النّظرة الجديدة؛ وأن يساعدكم المسار الأكاديميّ على أن تُعبّروا وتعمِّقوا وتُعلنوا دليل ما أنتم عليه من الرّجاء؛ وأن تُكوِّنكم الجامعة لكي تكونوا نساءً ورجالًا لا منحنين على أنفسكم، بل واقفين، وقادرين على أن تحملوا وتعيشوا فرح الإنجيل وتعزيته إلى كلّ مكان تذهبون إليه. لتحفظكم العذراء مريم، كرسيّ الحكمة، ولترافقكم وتشفع بكم."
