البابا يحذّر من الحروب ويدعو إلى العدالة والحوار
بهذه الكلمات حذّر البابا لاون الرّابع عشر من الدّمار الّذي تسبّبه الحروب، لاسيّما الأسلحة النّوويّة، ودعا إلى العدالة والحوار، وذلك في ختام المقابلة العامّة الّتي أجراها الأربعاء في ساحة القدّيس بطرس، والّتي فيها تأمّل سرّ آلام يسوع وموته وقيامته، منطلقًا من كلمة بسيطة وإنّما تحفظ سرًّا ثمينًا: "التّحضير".
وقال البابا في تعليمه بحسب "فاتيكان نيوز": "نواصل مسيرتنا اليوبيليّة لاكتشاف وجه المسيح، الّذي يتَّخذ فيه رجاؤنا شكلًا ومتانة. ونبدأ اليوم في التّأمّل في سرّ آلام يسوع وموته وقيامته. ونبدأ بالتّأمّل في كلمة تبدو بسيطة، لكنّها تحفظ سرًّا ثمينًا من أسرار الحياة المسيحيّة: "التّحضير".
نقرأ في إنجيل مرقس: "وفي أَوَّلِ يَومٍ مِن الفَطير، وفيه يُذبَحُ حَمَلُ الفِصْح، قال له تَلاميذُه: إِلى أَينَ تُريدُ أَن نَمضِيَ فنُعِدَّ لَكَ لِتَأكُلَ الفِصْح؟". إنّه سؤال عملي، لكنّه أيضًا مشحون بالانتظار. يشعر التّلاميذ بأنّ أمرًا هامًّا على وشك الحدوث، لكنّهم لا يعرفون تفاصيله. أمّا جواب يسوع فيبدو وكأنّه لغز: "اِذهَبا إِلى المدينة، فَيَلقاكُما رَجُلٌ يَحمِلُ جَرَّةَ ماءٍ". تصبح التّفاصيل رمزيّة: رجل يحمل جرّة- وهو عمل كان يُعدّ نسائيًّا في ذلك الزّمان–، وغرفة عُلويّة مجهّزة مسبقًا، وصاحب منزل مجهول. كأنّ كلّ شيء قد تمّ التّرتيب له مسبقًا. والواقع أنّ هذا صحيح تمامًا. ففي هذا المشهد، يظهر الإنجيل أنّ المحبّة ليست ثمرة الصّدفة، بل نتيجة اختيار واعٍ. إنّها ليست مجرّد ردّ فعل، بل قرار يتطلّب التّحضير والاستعداد. فالمسيح لا يواجه آلامه عن طريق القدر، بل بأمانة لمسيرة قبِلَها وسلكها بحرّيّة وعناية. وهذا ما يعزّينا: أن نعرف أنّ عطيّة حياته ولدت من نيّة عميقة، لا من دافع لحظي.
تلك "الغرفة العلويّة المُعدّة مُسبقًا" تخبرنا أنّ الله يسبقنا دائمًا. فحتّى قبل أن ندرك حاجتنا إلى الضّيافة، يكون الرّبّ قد أعدّ لنا مكانًا يمكننا فيه أن نعرف أنفسنا ونشعر بأنّنا أصدقاؤه. وهذا المكان هو في الحقيقة قلبنا: "غرفة" قد تبدو فارغة، لكنّها تنتظر فقط أن نكتشفها ونملأها ونحفظها. إنَّ الفصح الّذي طُلب من التّلاميذ أن يُعدّوه، هو في الواقع معدّ مسبقًا في قلب يسوع. فهو من فكّر في كلّ شيء، ونسّق كلّ شيء، وقرّر كلّ شيء. لكنّه رغم ذلك يطلب من أصدقائه أن يقوموا بدورهم. وهذا يعلّمنا أمرًا جوهريًّا في حياتنا الرّوحيّة: إنَّ النّعمة لا تلغي حرّيّتنا، بل توقظها. وعطيّة الله لا تُبطل مسؤوليّتنا، بل تجعلها خصبة.
واليوم أيضًا، كما في ذلك الزّمان، هناك عشاء علينا أن نُعدَّه. ولا يقتصر الأمر فقط على اللّيتورجيا، بل يشمل استعدادنا للدّخول في فعلٍ يتخطَّانا. فالإفخارستيّا لا يتمُّ الاحتفال بها فقط على المذبح، وإنّما أيضًا في الحياة اليوميّة، حيث يمكننا أن نعيش كلّ شيء كتقدمة وشكر. إنَّ الاستعداد للاحتفال بهذا الشّكر لا يعني أن نفعل المزيد، بل أن نُفسح المجال. يعني أن نُزيل ما يعيق، أن نُخفّض سقف التّطلّعات، وأن نتوقّف عن تغذية التّوقّعات غير الواقعيّة. فكثيرًا ما نخلط بين الاستعدادات والأوهام. إنَّ الأوهام تُلهينا، أمّا الاستعدادات فتوجّهنا. الأوهام تبحث عن نتيجة، أمّا الاستعدادات فتجعل اللّقاء ممكنًا. إنّ المحبّة الحقيقيّة– يُذكّرنا الإنجيل– تُعطى حتّى قبل أن تُردّ. إنّها عطيّة مُقدّمة سلفًا. لا تقوم على ما تتلقّاه، بل على ما ترغب في تقديمه. وهذا ما عاشه يسوع مع تلاميذه: بينما هم لم يكونوا قد فهموا بعد، وأحدهم كان على وشك أن يخونه، وآخر أن يُنكره، كان هو يُعدّ لهم جميعًا عشاء شركة.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، نحن أيضًا مدعوّون لكي "نُعدّ فصح" الرّبّ. لا فصحه اللّيتورجيّ فحسب، وإنّما فصحه في حياتنا أيضًا. فكلّ فعل جهوزيّة، وكلّ عمل مجّانيّ، وكلّ غفران يُقدَّم مسبقًا، وكلّ تعب يُحتَمل بصبر، هو طريقة لتحضير مكان يمكن لله أن يسكن فيه. وبالتّالي يمكننا إذًا أن نسأل أنفسنا: ما هي الفسحات في حياتي الّتي أحتاج إلى ترتيبها لكي تكون جاهزة لاستقبال الرّبّ؟ ماذا يعني لي اليوم أن "أُعدّ"؟ ربّما يعني التّخلّي عن مطلب ما، أو التّوقّف عن انتظار الآخر لكي يتغيَّر، أو اتّخاذ الخطوة الأولى. ربّما يعني أن أُصغي أكثر، وأتصرّف أقلّ، أو أن أتعلّم أن أثق بما تقدمّ ترتيبه مُسبقًا.
إذا قبلنا الدّعوة لكي نُعدَّ مكانًا للشّركة مع الله وبيننا، سنكتشف أنّنا محاطون بعلامات، ولقاءات، وكلمات تُوجّهنا نحو تلك الغرفة الواسعة والمُعدّة مُسبقًا، حيث يتمُّ الاحتفال بلا انقطاع بسرّ محبّة لا متناهية، تعضدنا وتسبقنا على الدّوام. ليمنحنا الرّبّ نعمة أن نكون مُعدِّين متواضعين لحضوره. وفي هذه الجهوزيّة اليوميّة، لتنمُ فينا أيضًا تلك الثّقة الهادئة الّتي تُمكّننا من مواجهة كلّ شيء بقلب حرّ. لأنّه حيث يتمّ التّحضير للمحبّة، يمكن للحياة أن تزهر حقًّا."