العراق
18 تشرين الثاني 2019, 10:30

البطريرك ساكو: الكتاب المقدّس كلام الله محكي ومنقول بلغة بشريّة

تيلي لوميار/ نورسات
أشار بطريرك بابل للكلدان مار لويس روفائيل ساكو، في موضوع السّبت، إلى أنّ الكتاب المقدّس هو كلام الله محكيّ ومنقول بلغة بشريّة، فكتب نقلاً عن موقع البطريركيّة الرّسميّ:

"كلّي رجاء أن تكون النصوص المقدّسة في اليهودية والمسيحية والإسلام، والتي محورها الإنسان، مصدر بركة ومحبّة وسلام وتعاون بين الناس، وليس العكس، مصدرًا للأصولية وبثّ الكراهية والعنف والإقصاء. هناك مشكلة بنيويّة في تأويل النّصوص، نحن اليوم بحاجة إلى التفسير المنهجي العلمي لاكتشاف بلاغات النصّ المقدّس حتّى يفهمها الناس ويجسِّدوها في حياتهم اليومية، ويميّزوا ما كان ظرفيًّا وعلاجًا لحالاتٍ معيّنة زالت، وما هو جوهريّ ثابت كعقيدة إيمانيّة وأخلاقيّة. الإنسان المعاصر بحاجة إلى التنوير والوعي حتّى تكون لممارسته الدينية قيمة، تنبع عن المعرفة والحرّيّة الكاملة، وليس عن جهلٍ أو تقليدٍ آليٍّ موروث.

تؤمن المسيحيّة بأنّ الكتاب المقدّس هو كلام الله، لكن محكيّ ومنقولٌ بلغة بشريّة. الله هو الموحي والمُلْهِم والكاتب هو المُلْهَم، أيّ يضع الإنسان "البلاغ الإلهيّ" في قالب لُغَوي أدبيّ. ثمّة مشاركة بين الله والإنسان، والله يرافق كلمته ويسندها باستمرار بواسطة الرّوح القدس الذي لم يغادر الكنيسة. هذه النّصوص المقدّسة لا ينبغي أن تُفهَم على حرفيّتها كأحداثٍ على نحو ما نفهم "الحدث" اليوم، بل إنّها تحمل "معنىً مقدّسًا"، أيّ بلاغًا موجَّهًا إلى النّاس في كلّ زمان ومكان. هذه مسألة إيمانيّة تقوم على روحانيّة تنبع من عمق قلب الإنسان، وليست أمورًا شكليّة. الإنجيل على سبيل المثال ينطلق من القرن الأوّل الميلادي، ومتأثّر بالثقافة الدينيّة والممارسات الاجتماعيّة التي كانت سائدة آنذاك. لذا نحن بحاجة إلى التفسير العقلاني المنهجي العلمي لاكتشاف بلاغات النّصّ المقدّس حتّى نفهمها ونعيشها.

كلّ الدّيانات عانت وتعاني من صراعات فكريّة ولاهوتيّة وفقهيّة بسبب طريقة تفسير النّصّ المقدّس. هنالك من يستشهد بنصّ دينيّ لأنّه يتطابق حرفيًّا مع وجهة نظره، لكنّه في الحقيقة يُخرجه من سياقِه العامّ. خصائص التفسير تأخذ بنظر الإعتبار: الأساليب الأدبية كالشعر والمَثَل والاعجوبة والخِطاب والرمز والسياق الزمني للنّصّ، ومعنى الكلمات عند كتابتها والفكرة التي يريد الكاتب المُلهَم إيصالها. أذكر مثلاً قتل أبكار المصريين (الخروج فصل 11) ومقتل أطفال بيت لحم (متّى 2/ 16-18)1. هذه نصوص رمزية وليست سردًا تاريخيًّا للأحداث، فالله لا يقتل الناس كما فعل الصليبيون في القرون الوسطى، وذبح الصهاينة الفلسطينيين وطردوهم من أرضهم، ويفعل اليوم المسلمون في تنظيم القاعدة وداعش بإسم الدين. التاريخ في النصوص المقدّسة، تاريخ مقدّس "معنىً مقدّس" وليس تقريرًا صحفيًّا مسجّلاً أو مصوّرًا كما يفعل الإعلاميّون اليوم.

قراءتنا للنّصوص المقدّسة، تنطلق من قراءة رمزيّة وليس حرفيّة جامدة. والرّمزيّة حقيقة من مستوى آخر. لغة الكتاب المقدّس لغة أسراريّة– رمزيّة أكثر منها حَرفيّة. الرّمزيّة تُسهّل فهم كلام الله في الكشف عن ذاته. والمؤلّفون آمنوا أنّ ما يكتبونه يعكس حضورًا إلهيًّا ومعنىً مقدّسًا أعمق من المفهوم التاريخي، وأبعد من الكلام البشري. وكلّ شيء يسير ضمن هذه الدّيناميكيّة الّتي تخترق النّصّ لتجتاز إلى حياة المؤمنين وحياة الكنيسة، وتنير مستقبلهم وتوطّد رجاءهم(رومية 15/4).هذا الاختراق– العبور يحوِّل الأشياء كلّها إلى فضاء سرِّ فصح المسيح الشامل، ويشرُكنا فيه كحقيقة راهنة وقادرة على دعم جهودنا من أجل حياة أفضل. الكتاب المقدّس "روح وحياة"، وليس قطعة أثريّة أو وثيقة من الأرشيف. يقول مار أفرام: "إنَّ عيني وفكري قد جازا بالسُّطورِ كما بجسرٍ، ودخلا معًا قصة الفردوس. فبالقراءة أجازت العينُ الفكرَ، ثمّ عاد الفكرُ أراح العينَ من القراءة، وبعدَ إذْ قُريءَ الكتابُ، استراحت العينُ، وأخذ الفكرُ يَتْعبُ". (الفردوس ترجمة الأب روفائيل مطر ص 68).

طريقةُ قراءة آباء الكنيسة (القرن الثاني إلى الثامن) للكتاب المقدّس قراءةٌ إيمانية، تبحث عن المعنى الّذي سمَّوه ببساطة "الحقيقة" بعيدًا عن مفهوم الحدث التاريخي المُفصَّل. أعتقد أنّ هذه الطّريقة لا تزال مفيدةٌ للمؤمنين خصوصًا الشرقيّين منهم، فالمعنى الباطني الرمزي يمكن اكتشافه بعين الإيمان وليس عن "فضوليّة" معرفة الحدث الظّاهر. وكلّما كانت العين الداخلية بصيرة، كلّما اقتربنا من فهم الرّموز والصّور بشكل صحيح ومنسجم. نقدر أن نستفيد من هذا التراث الغني، كثيرًا لتجديد فكرنا وثقافتنا، لاسيّما أنّ لدينا اليوم أدوات عديدةً وطبعات متنوّعة، لم تكن في متناول آباء الكنيسة. نحن في وضع أفضل منهم لإدراك معانيه الغنيّة. كلام الله كما تقول الرّسالة الثانية إلى كورنثس (4/ 7) "كنزٌ نحملُهُ في آنية من خزف"، أيّ كلام حيّ، لكن يُعبَّر عنه ويتواصل في فقر الإنسان وحدوده. يقول أفرام: "ألبَسَ نفسَه بلغتنا، ليتسنّى له أن يُلبسنا زيّه، زيَّ الحياة. طلَبَ شكلَنا ولبِسَه، وبعدئذ تكلّم مع حالتنا الطفولية كأبٍ مع أولاده. إنّها مَجَازًا وليس بالمعنى الحرفي" (الإيمان 54/8). علينا أن نبحث عن المعنى الّذي مارسته هذه النّصوص على حياة الكاتب المُلهَم الّذي "اختبر" بنفسه هذه البلاغات، فكتبها حتّى يوصِل خبرته الإيمانيّة إلى معاصريه. ومن أجل أن يضع المؤمن المعاصر نفسه في اتّجاه سليم من النّصّ ويستقبل بلاغه، عليه أن يقوم بقراءة إيمانيّة منفتحة على إلهام الرّوح القدس، تقوده إلى تأوينه وتطبيقه على نفسه من دون أن ينحرف أو يلجأ إلى تقليد حرفيّ لإسلوب الكاتب!".