لبنان
08 نيسان 2023, 09:00

الرّاعي في رسالة الفصح: نجدّد معًا التزامنا بالرّجاء في تغيير وجه هذا العالم، لأنّنا أبناء وبنات القيامة

تيلي لوميار/ نورسات
وجّه البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي رسالة الفصح إلى اللّبنانيّين جميعًا والمسيحيّين خصوصًا، مقيمين ومنتشرين، من كنيسة السّيّدة في الصّرح البطريركيّ في بكركي واختار موضوعًا لهذه الرّسالة كلمة القدّيس بولس الرّسول: يسوع رأس جسد الكنيسة هو الأوّل والبكر القائم من بين الأموات" (كول 1: 18)، قال فيها:

"إخواني السّادة المطارنة الأجلّاء، 
وقدس الرّؤساء العامّين والعامّات، 
الكهنة والرّّهبان والرّاهبات، الإخوة والأخوات الأحبّاء، 

1. يسعدني أن أوجّه بهذه الرّسالة أطيب التهاني والتمنيات بالعيد، في إطار لقاء الصّلاة والتّهاني الذي تنظّمونه يا قدس الرّؤساء العامّين والرّئيسات العامّات، والإقليميّين والإقليميّات في لبنان، شاكرًا على الكلمة اللّطيفة التي ألقاها باسمكم قدس الأباتي هادي محفوظ مشكورًا. فإليكم أقدّم التّهاني القلبيّة بالفصح المجيد، وإلى إخواننا السّادة المطارنة والكهنة والرّهبان والرّاهبات والمؤمنين في لبنان والنّطاق البطريركيّ وبلدان الإنتشار. وأختار موضوعًا لهذه الرسالة كلمة القدّيس بولس الرسول: يسوع رأس جسد الكنيسة هو الأوّل والبكر القائم من بين الأموات"(كول 1: 18). 

2. المسيح قام ليقيمنا من الموت الجسديّ طبعًا، وبخاصّة من الموت الرّوحيّ بالخطيئة، ومن الموت المعنويّ والنّفسيّ باليأس وفقدان الرّجاء، في مسيرتنا التّاريخيّة. من قيامته وُلدت المسيحيّة. ولذا، إنّ أهمّ حدث على الإطلاق في تاريخ العالم هو أنّ يسوع قد مات، وقام وهو حيّ إلى الأبد، فأنشده داود بمزاميره: "هذا هو اليوم الذي صنعه الرّبّ فلنفرح ونتهلّل به" (مز 117: 24). فرأى فيه القدّيس مكسيموس التوراني "نور المسيح الذي لا يليه ليل، ونهاره لا تعقبه نهاية. إنّه النّهار السّاطع في كلّ مكان، لكي بنوره يهتدي كلّ إنسان".

3. المسيح قام وهو "الأوّل" بين جميع النّاس، وهو "باكورة" القائمين. فكما "باكورة" الموتفي آدم، كذلك "باكورة" القيامة في المسيح. فإن لم نقم نحن قيامة القلب، يكون قد قام المسيح باطلًا (غلا 2: 21). وإن لم يكن قد قام لأجلنا، فما كان من حاجة إلى أن يقوم لأجل ذاته. ولكن، بما أنّه مات تكفيرًا وفدىً عن خطايا جميع النّاس، ونحن أوّلهم، فقد قام ليقدّسهم ببثّ الحياة الإلهيّة فيهم. وكما عاش المسيح فصحه بعبوره من عالمنا إلى الآب من خلال الموت والقيامة متمّمًا بهما رسالته الخلاصيّة لجميع الناس، كذلك كلّ إنسان والبشريّة جمعاء مدعوّون لعيش فصحهم عابرين من الخطيئة إلى النّعمة، ومن الباطل إلى الحقّ. بهذا "العبور" تفيض ثمار القيامة.

4. بما أنّ المسيح هو "الأوّل بموته" فدىً عن خطايانا، فكلّ واحد وواحدة منّا مدعوّ ليموت عن خطاياه. وبما أنّه "باكورة القائمين من الموت"، فكلّ واحد وواحدة منّا مدعوّ ليحقّق في ذاته "قيامة القلب"، وينعم بثمار القيامة. 

فلا يحقّ لأحد أن يبطل "ثمار" موت المسيح، باستمراره في عتيق حياته وأسر خطاياه، أو يبطل"ثمار" قيامته بحرمان نفسه من الحياة الجديدة النّابعة من الله. إنّنا نقع في هذا المحظور إذا جعلنا موت المسيح وقيامته مجرّد ذكرى تاريخيّة لحدثين إنتهيا منذ ألفي سنة. ونقع في هذا المحظور إذا حصرنا العيد بمظاهر الأكل واللّباس، عند القادرين، أو أيضًا إذا حصرنا ذكرى الحدثين في النّصوص اللّيتورجيّا الغنيّة بمضمونها، إذا أبعدناها عن مجرى حياتنا الشّخصيّة وطريقة عيشنا. 

5. لا يقتصر هذا الكلام عن سرّ الفداء بالموت والقيامة على جماعة المؤمنين، بل يشمل بنوع خاصّ المسؤولين المدنيّين الذين نذروا نفوسهم للعمل السّياسيّ من أجل تأمين الخير العامّ. هؤلاء إذا لم يحقّقوا في ذواتهم "قيامة القلب"، "ويعبروا" من حالة الخطيئة إلى حالة النّعمة، لظلّوا ممعنين في خراب الدّولة وهدم مؤسّساتها، وهدر أموالها وإفلاسها، وفي تدمير إقتصادها، وفي إفقار مواطنيها وتحقير شعبها، وفي تقويض مستقبل أجيالها الواعدة، وتشتيت قواها الحيّة في أربعة أقطار العالم. 

6. عشنا الأربعاء الماضي مع السّادة النّواب المسيحيّين في ظلّ سيّدة لبنان-حريصا، خلوة روحيّة عمّها الفرح المشترك بنتيجة إصغائنا معًا إلى تأمّلين من الكتاب المقدّس، زرعا في قلوب الجميع فرح عمل الله كمبادر أوّل، وفرح العمل المنتظر من الإنسان لإكمال العمل الإلهيّ فينا وفي دائرة محيطنا وفي شبكة علاقاتنا مع جميع النّاس. هذا الفرح هو الثّمرة النّاتجة عن سماع كلمة الله، لأنّ الكلمة الإلهيّة تدخل في عمق قلب الإنسان وفكره وتستحثّه على عيشها بالأفعال والمبادرات. وما زاد من هذا الفرح المشترك كان جوّ الصلاة والصّوم وزيارة القربان المقدّس وإمكانيّة التّقرّب من سرّ التوبة. ثمّ تكلّل بالقدّاس الإلهيّ والمناولة الفصحيّة ومائدة المحبّة في مركز بيت عنيا. فشكرنا الله على هذه النّعمة، وشكرنا كلّ الذين رافقونا بصلاتهم.

7. بالطّبع إنطلق السّادة النّواب عائدين إلى مساحات عملهم الشّاق ومسؤوليّاتهم الجسام في ما يتعلّق بمصير الدّولة والشّعب والكيان والأرض. وأمام ضميرهم الوطنيّ النيابيّ وما يثقله من مسؤوليّات، مثل:

- انتخاب رئيس للجمهوريّة، ينعم بالثّقة الدّاخليّة والخارجيّة، وإلّا ظلّ مجلسهم معطّلًا عن التّشريع والمحاسبة والمساءلة، وهم يشغلون منصبًا فارغًا من محتواه، وظلّت الدّولة من دون حكومة كاملة الصّلاحيّات، والوزارات والإدارات العامّة مبعثرة، والقضاء متوقّفًا وخاضعًا للنّفوذ السّياسيّ، وكارثة تفجير مرفأ بيروت وضحاياها وخساراتها طيّ النّسيان، والسّلاح غير الشّرعيّ في حالة إنفلات يجرّ لبنان وشعبه إلى تلقّي ضربات الحروب التي لم يقرّرها ولم يردها، كما جرى بالأمس على حدود الجنوب، على الرّغم من قرارات مجلس الأمن وأهمّها القرار 1701. إلى متى تبقى أرض لبنان مباحة لكلّ حامل سلاح؟ وإلى متى يتحمّل لبنان وشعبه نتائج السّياسات الخارجيّة التي تخنقه يومًا بعد يوم.

- 80 % من اللّبنانيّين تحت خطّ الفقر، والعيش في الحرمان والعوز حتّى الإنتحار.

- النّقص في الأدوية للمرضى وعجزهم عن الإستشفاء وموتهم في بيوتهم.

- انقطاع التّيار الكهربائيّ وخدمة الإنترنت وتعطيل العمل والدّروس ولاسيّما في المدارس الرّسميّة.

- وجود 2،300،000 نازح سوريّ يستنزفون مقدّرات الدّولة ويعكّرون الأمن الإجتماعيّ ويسابقون اللّبنانيّين على لقمة عيشهم، ويذهبون إلى سوريا ويرجعون من معابر شرعيّة وغير شرعيّة بشكلٍ متواصل ومنظور، والأسرة الدّوليّة تحميهم على حساب لبنان لأسباب سياسيّة ظاهرة وخفيّة. ومن الواجب الملحّ العمل من قبل النّواب والمسؤولين مع الأسرة الدّوليّة على إرجاعهم إلى وطنهم ومساعدتهم هناك. 

- الشّلل الإقتصاديّ وتدنّي الأجور وهجرة أهمّ قوانا الحيّة والفاعلة من مختلف القطاعات. 

- شبه غياب عن الولاء للبنان والوطن بشعبه وأرضه وحضارته وحضوره في العالم وفي التّاريخ.

- مشكلة الحالة العشائريّة الضّامنة التي تحكّم الزّعامات المتوارثة بالحياة السّياسيّة. ما يوجب تغيير الذّهنيّات، وتحرير المواطن من جميع الولاءات إلّا الولاء للوطن، فيتساوى عندها المواطنون أمام القانون.

- إنتشار الفساد وتهافت أركان السّلطة على تحقيق المكتسبات الشّخصيّة والفئويّة، وتحاصص المغانم، حتى بلغ الإنهيار ذروته بالإستيلاء على جنى أعمار المواطنين.

8. أيّ ثقة تريدوننا أن نعطي المسؤولين في الدّولة عندنا، المعنيّين بالمؤسّسات التّربويّة والإستشفائيّة والإجتماعيّة، وهم يتنصّلون من مسؤوليّاتهم بتأمين مستحقّات الدّولة سنوات وسنوات للمدارس المجّانيّة التّابعة للكنيسة وهي 87 مدرسة، تضمّ 28،676 تلميذًا، و1651 معلّمًا، و453 موظّفًا؛ بالإضافة إلى المدارس التي على حساب الشّؤون الإجتماعيّة، بين عاديّة وتقنيّة، وتضمّ 29 مدرسة، و 3،470 تلميذًا. وهي مستحقّات في الأساس غير كافية لتأمين المطلوب تربويًّا، واليوم فقدت قيمتها بفعل تدنّي قيمة اللّيرة اللّبنانيّة.

ألا يشعر بالحياء هؤلاء المسؤولون، فيما الكنيسة تؤمّن هذه الخدمة التربويّة الإجتماعيّة التي هي في الأساس من أولى واجبات الدّولة؟ ألا يشعرون بالحياء تجاه العائلات الفقيرة والمهمّشة فيما هم مأخوذون بمشاريع طنّانة غير ضروريّة تستوجب ملايين الدّولارات؟ ألا يشعرون بالحياء فيما الكنيسة تدقّ بخجل كبير أبواب المحسنين داخليًّا وخارجيًّا، والمسؤولون غير معنيّين تمامًا. 

وما القول عن مستحقّات الوزارات تجاه المستشفيات ودور المسنيّن واليتامى وذوي الإحتياجات الخاصّة. والمسؤولون في الدّولة غير معنيّين بهذا الإنسان المحتاج الذي من أجله مات المسيح. 

أقمتم، أيّها المسؤولون في الوزارات بواجباتكم التي تبرّر سبب وجودكم في الحكم، أم لا، فإنّ الكنيسة ستتمسّك أكثر فأكثر بواجبها الضّميريّ في خدمة هؤلاء الذين سمّاهم الرّبّ يسوع "إخوته الصّغار" (متى 25: 40)، من أجل تأمين حقوقهم وحماية كرامتهم. والحيف عليكم!

9. في ختام هذه الرّسالة الفصحيّة نجدّد معًا التزامنا بالرّجاء في تغيير وجه هذا العالم، لأنّنا أبناء وبنات القيامة. ولتكن رسالتنا تجاه شعبنا تثبيته في هذا الرّجاء المسيحيّ، فالمسيح قام ليجعل كلّ شيء جديدًا. أجل، المسيح قام! حقًّا قام!"