لبنان
03 أيلول 2025, 05:00

الرّاعي في مؤتمر المدارس الكاثوليكيّة: لإعداد أجيال لا تكون ضحيّة التّكنولوجيا بل سيّدة لها

تيلي لوميار/ نورسات
برعاية البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي وحضوره، تحت عنوان "نحو تربية مؤنسنة في عصر الرّقمنة: رجاء للحاضر ورؤية للمستقبل"، افتُتح المؤتمر السّنويّ الحادي والثّلاثين للمدارس الكاثوليكيّة في لبنان، في مدرسة سيّدة اللّويزة- زوق مصبح، والّذي يستمرّ لغاية اليوم الأربعاء، بحضور كاثوليكوس بطريرك بيت كيليكيا للأرمن الكاثوليك روفائيل بيدروس الحادي والعشرين ميناسيان، السّفير البابويّ المونسنيور باولو بورجيا، رئيس اللّجنة الأسقفيّة للمدارس الكاثوليكيّة المطران حنّا رحمة، وأعضاء اللّجنة الأسقفيّة، المطارنة: بولس روحانا، ميشال عون، الياس نصّار، وكريكور باديشاه، وعدد كبير من الفعاليّات.

خلال المؤتمر، ألقى البطريرك المارونيّ كلمة جاء فيها:

"1. يسعدني أن أفتتح، باسم مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، مؤتمر المدارس الكاثوليكيّة الحادي والثّلاثين، في هذا الصّرح التّربويّ، مدرسة سيّدة اللّويزة في زوق مصبح، التّابعة للرّهبانيّة المارونيّة المريميّة الّتي أحيّيها باسم رئيسها العامّ الأباتي إدمون رزق، كما أحيّي رئيس هذه المدرسة الأب حنّا الطّيّار على استضافة هذا المؤتمر. وموضوعه: "نحو تربية أكثر إنسانيّة في العصر الرّقميّ: رجاء للحاضر ورؤية للمستقبل".

إنّه عنوان يجمع بين تحدّيات عصرنا الرّقميّ، وحاجة إنسان اليوم أن يبقى إنسانًا، بكلّ ما للكلمة من معنى، في زمن تتسارع فيه التّكنولوجيا بوتيرة غير مسبوقة.

إنّها تربية ذات بعدين: رجاء للحاضر، ورؤية للمستقبل.

أمّا الرّجاء للحاضر فهو إيماننا، رغم الأزمات الّتي نعيشها، والأفق المقفلة بوجه أجيالنا الطّالعة، بأنّنا ما زلنا قادرين أن نزرع الرّجاء في قلوبهم. فالرّجاء، هو أن تظلّ مدارسنا منارة في زمن الضّباب، وجسرًا بين المعرفة والفضيلة، وبين التّقنيّة والأنسنة.

وأمّا الرّؤية للمستقبل فهي أن نبني جيلًا واعيًا ومسؤولًا، يطوّع التّكنولوجيا لخدمة الإنسان، ويضع العلم في خدمة السّلام، والمعرفة في خدمة التّنمية، والتّقدّم في خدمة الكرامة الإنسانيّة.

2. لقد وهبنا الله العقل لنبدع ونطوّر ونخترع، والتّكنولوجيا الرّقميّة هي من ثمار هذا العقل المبدع. غير أنّ هذه الأداة، على أهمّيّتها، يمكن أن تتحوّل من وسيلة بنّاءة إلى خطر يهدّد إنسانيّتنا إذا فقدنا التّوازن بين التّقدّم التّقنيّ وعمق القيم الإنسانيّة.

التّكنواوجيا الرّقميّة تفتح أمامنا أبواب المعرفة على مصراعيها، لكنّها أيضًا تحمل إلينا مخاطر الانعزال الاجتماعيّ، والتّعلّق بالشّاشات بدل التّفاعل مع الوجوه، وتجزئة الانتباه بدل التّركيز، وتحويل الإنسان إلى مستهلك للمعلومة بدل أن يكون منتجًا ومبدعًا لها.

من هنا تأتي رسالتنا التّربويّة في مدارسنا الكاثوليكيّة: أن نُعدَّ الأجيال الجديدة لا لتكون ضحيّة التّكنولوجيا، بل سيّدة لها؛ لا أن تتخلّى عن إنسانيّتها لتلتحق بالآلة، بل أن تسخّر الآلة لخدمة الإنسان، وتنمية عقله وروحه وقلبه.

إنّ "التّعليم المؤنسن" يعني أن نعلّم أبناءنا كيف يطوّرون ذكاءهم العاطفيّ، وينمّون حسّهم النّقديّ، ويغذّون ضميرهم بالقيم الأخلاقيّة والإنجيليّة، فيتعلّموا كيف يعيشون الحرّيّة المسؤولة، ويبنوا علاقاتهم على الاحترام والمحبّة، ويخدموا الخير العامّ.

3. للمربّين اليوم مهمّة مزدوجة: أن يُتقنوا استخدام الأدوات الرّقميّة في التّعليم، وأن يربّوا في الوقت عينه على التّفكير النّقديّ والتّمييز القيميّ. فالمعلومة متاحة اليوم بضغطة زر، لكن الحكمة لا تُكتسب إلّا بالتّجربة، والحوار، والتّأمّل، والالتزام.

مدارسنا الكاثوليكيّة ليست فقط مؤسّسات تعليميّة، بل هي أيضًا مدارس إيمان وحياة، حيث ينمو الطّالب في المعرفة والفضيلة معًا، ويتعلّم أن يرى في الآخر صورة الله، وأن يربط بين العلم والقيم الإنجيليّة. في عالم سريع الإيقاع، تذكّرنا التّربية المسيحيّة بأنّ الإنسان ليس آلة إنتاج أو استهلاك، بل هو كائن مخلوق للحبّ، مدعوّ للشّركة، ولخدمة الخير العامّ. هذا البعد الرّوحيّ واللّيتورجيّ هو الّذي يمنح الرّقمنة معناها الصّحيح، ويجعلها أداة سلام وتواصل وبناء على الصّعيد الوطنيّ.

إنّ لمدارسنا الكاثوليكيّة على هذا الصّعيد جزء حيّ من نسيج لبنان، تشارك في صنع وعي وضمير المجتمع، وتعمل على تنشئة مواطنين أحرارًا ومسؤولين، يعرفون أنّ تقدّم وطنهم لا يُقاس فقط بمؤشّرات اقتصاديّة وتقنيّة، بل بمدى ترسيخ قيم العدل، والحرّيّة، والعيش المشترك. وفي العصر الرّقميّ، حيث العالم الافتراضيّ قد يضعف الانتماء، يزداد دورنا في تثبيت الجذور الثّقافيّة والوطنيّة في قلوب أبنائنا، ليكونوا مواطنين ملتزمين وفاعلين في وطنهم.

4. إنّنا نبارك أعمال هذا المؤتمر، ونعمل معًا، إدارات ومعلّمين وأهالي وكنيسة، لكي نصنع من التّقنيّة الرّقميّة فرصة للارتقاء بالإنسان.

ولنخرج من هذا اللّقاء بتوصيات عمليّة تعزّز رسالتنا التّربويّة في لبنان، وتؤكّد أنّ التّقنيّة، مهما بلغت، لن تحلّ مكان قلب الإنسان وعقله وروحه.

مع الشّكر لإصغائكم!".

وكان اليوم الأوّل قد استُهلّ بكلمة ترحيبيّة من رئيس المدرسة الأب حنّا الطّيّار الب نصر، ثمّ صلاة البداية على شكل احتفاليّة موسيقيّة تعبيريّة من أداء متعلّمين من مدرسة الفرير مون لاسال، تلتها الجلسة الافتتاحيّة الّتي تولّى فيها الإعلاميّ ماريو عبّود تقديم المتكلّمين، فتساءل الأمين العامّ للمدارس الكاثوليكيّة في لبنان الأب يوسف نصر عن "كيفيّة تربية الإنسان في عصر تقلّصت فيه المسافات مع تزايد التّباعد بين النّاس، وكيفيّة صون كرامة مهنة التّعليم وسط عالم يتّجه بسرعة نحو الفردانيّة والتّفلّت الأخلاقيّ".

واعتبر "أنّ عنوان المؤتمر جاء كخيار استراتيجيّ واضح نريد أن تسلكه التّربية الكاثوليكيّة، نحو بناء مدرسة ترى في التّكنولوجيا أداة لا هدفًا، وفي التّربية توازنًا بين العقل والقلب، وتكاملًا بين الإيمان والمعرفة".
 وفي ظلّ الأخطار الّتي تهدّد نوعيّة التّربية وإمكانيّة توفيرها للجميع، رأى الأب نصر "أنّ الأمور لن تستقيم ما لم تصدر سلسلة رتب ورواتب تعيد الاستقرار والتّوازن إلى القطاع التّربويّ، واستعادة مكانة هذه المهنة عبر إعداد معلّمٍ كفوءٍ، قادرٍ ومتمتّعٍ بكافّة الحقوق الّتي أقرّها له القانون، منوّهًا بلجنة الأخلاقيّات لتنشئة كوادر ترافق مؤسّساتنا التّربويّة، وتساعدها على استباق التّحدّيات واقتراح الحلول الملائمة".

ودعا نصر، إلى "تعامل واع ومسؤول مع موضوع الذّكاء الاصطناعيّ، لتوظيف منافعه الجمّة في خدمة التّربية. وإذ ذكر برؤية الأمانة العامّة للمدارس الكاثوليكيّة 2030: مدرسة دامجة، رقميّة، وخضراء"، مشدّدًا على "تحديث القوانين والإسراع في إصدار المناهج الجديدة وإيلاء أهمّيّة خاصّة للصّحّة النّفسيّة كما ملء المراكز الشّاغرة في وزارة التّربية وتشكيل المجالس التّحكيميّة".

ولفت إلى أنّ "التّضامن والتّشارك هو الضّمانة الوحيدة للاستمراريّة، تضامن قوامه الشّفافيّة من المؤسّسات، والتّعاون من الأهل والواقعيّة من المعلّمين".

ورأى رئيس اللّجنة الأسقفيّة للمدارس المطران حنّا رحمه، "أنّ التّكنولوجيا تملك في طيّاتها إمكانات عظيمة، إنّها بركة "اقتصاد الوقت"، وتشكّل مناسبة إلى افتداء الزّمنِ، بحيث يمكننا أن نعيد توجيهه نحو اللّقاءات الإنسانيّة الأصيلة عوضًا عن استهلاكه في التّشتّت أو الانغماس في العالم الافتراضيّ"، وقال: "من هنا ضرورة تأهيل المعلّمين لدمج الوسائل الرّقميّة في التّعليم، وإطلاق منصّات تربويّة كاثوليكيّة تشاركيّة، وتعليم التّلاميذ الوعي الرّقميّ".
وإختتم بالدّعوة إلى مسيرة تربويّة جديدة، متجذّرة في الإنجيلِ، منفتحة على العصر، مؤمنة بقدرة النّعمة على تحويل الواقع".
بدورها اعتبرت وزيرة التّربية والتّعليم العالي الدّكتورة ريما كرامي في كلمتها أنّنا "دخلنا زمن التّحوّل التّربويّ الشّامل الّذي يقتضي مواجهته بحكمة وشجاعة"، معدّدة مجالات أساسيّة للتّطوير كالتّميّز ورفاه الطّالب وإرساء قيادة تربويّة تشاركيّة مع بنية تحتيّة رقميّة عادلة.

ولفتت إلى "ضرورة تغيير مقاربتنا للتّربية بحيث يتسنّى لطلّابنا أن يعيشوا معنى المواطنة، القيادة، والتّعلّم الخلّاق وهم بعدُ على مقاعد الدّراسة. وعليه، ثمّة التزامات واضحة كإعداد مواطنين قادرين وأخلاقيّين وجعل المعلّمين والأهالي والطّلّاب شركاء حقيقيّين وبناء ثقافة مساءلة وشفافيّة والسّعي إلى تمويل استثماريّ يحمي من التّبعيّة. وختمت بالدّعوة إلى تجديد الشّراكة بين الوزارة والمدارس الخاصّة، تحت مظلّة رؤية الدّولة الجامعة ومعاييرها، حتّى نرسّخ معًا مفهوم المواطنيّة القائم على اللّحمة والتّضامن".
أمّا السّفير البابويّ في لبنان المونسنيور باولو بورجيا فنقل إلى الحاضرين تحيّات البابا لاون الرّابع عشر وبركته الرّسوليّة، مشيرًا إلى "التّحدّيات الرّقميّة الّتي طالما تناولها الأب الأقدس في لقاءاته من زاوية إحداثها تحوّلًا ثقافيًّا سواء في علاقاتنا مع ذاتنا أو الآخرين وحتّى مع الله".
 ورأى "أنّ سرعة الوصول إلى المعلومات ومعالجتها تثير ومخاوف وتساؤلات جدّيّة إن لم تكن مسترشدة بالمبادئ والقيم بحيث يتمّ التّمييز بين ما هو صالح ومفيد، إلى جانب التّفكير النّقديّ الواجب إعماله للتّذكير بمحوريّة الشّخص البشريّ كما سائر المبادئ الأساسيّة كالخير العامّ والسّلام والمحبّة، داعيًا أن يكون المؤتمر مناسبة للنّموّ الشّخصيّ والمؤسّساتيّ".

وبعد الاستراحة، استكملت أعمال اليوم الأوّل بجلسة عامّة عنوانها: "التّربية في عصر التّحوّلات: بين الواقع والتّطلّعات".